عبارة الدين لله والوطن للجميع

تاريخ الفتوى:27 أكتوبر 2014 م


الدين في اللغة: الجزاء، والدِّين: الحسابُ، والدِّين: الطاعة، والدِّين: الإِسلام، وقد دِنْتُ به، والدِّينُ: العادة والشأْن، تقول العرب: ما زالَ ذلك دِيني ودَيْدَني، أَي عادتي، ودِينَ: عُوِّد، وقيل: لا فعل له. وفي الحديث: «الكيِّس من دانَ نَفْسَه، وعَمِلَ لما بعد الموت، والأَحْمَقُ من أَتْبَعَ نفسه هواها، وتَمَنَّى على الله». قال أَبو عبيد: قوله دانَ نفسه: أَي: أَذلها واستعبدها وقيل: حاسبها. وفي التنزيل العزيز: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]. قال قتادة: في قضاء الملك. راجع: "لسان العرب" (13/ 169-170، ط. دار صادر).

ومن معانيه في الاصطلاح أنه: وضع إلهي سائق لأولي الألباب باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات. "تحفة المحتاج" (1/ 20، ط. دار إحياء التراث العربي).

والوَطَنُ في اللغة: المَنْزِلُ تقيم به وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحله، والجمع أَوْطان، وأَوْطانُ الغنم والبقر: مَرَابِضُها وأَماكنها التي تأْوي إليها، وَطَنَ بالمكان، وأَوْطَنَ: أَقام، وأَوْطَنَهُ: اتخذه وَطَنًا، يقال أَوْطَنَ فلانٌ أَرض كذا وكذا، أَي اتخذها محلًّا ومَسْكَنًا يقيم فيها. "لسان العرب" (13/ 451).

وقد اهتم الفقهاء ببيان معنى الوطن وأقسامه؛ لارتباط معناه بمسألة السفر وصلاة الجمعة، فقسموا الوطن إلى وطن أصلي، ووطن مستعار، ووطن سكني؛ يقول الإمام السرخسي في "المبسوط" (2/ 252، ط. دار المعرفة): [فالحاصل أن الأوطان ثلاثة: وطن قرار ويسمى الوطن الأصلي: وهو أنه إذا نشأ ببلدة أو تأهل بها توطن بها، ووطن مستعار: وهو أن ينوي المسافر المقام في موضع خمسة عشر يومًا وهو بعيد عن وطنه الأصلي، ووطن سكنى: وهو أن ينوي المسافر المقام في موضع أقل من خمسة عشر يومًا أو خمسة عشر يومًا وهو قريب من وطنه الأصلي] اهـ.

والوطن يطلق ويراد به في عصرنا هذا الدولة الحديثة التي لها حدود جغرافية معلومة، وتضم شعبًا ينتمي إلى هذه الحدود الجغرافية ويستوطنها، ويسمى هذا الانتماء بالجنسية، وكل من يحمل جنسية دولة فهو من مواطنيها سواء كان يقيم داخلها أو خارجها.

وعبارة "الدين لله والوطن للجميع" تحتمل كثيرًا من المعاني، منها ما هو مقبول شرعًا، ومنها ما هو مذموم شرعًا، ومن المعاني المذمومة لهذه العبارة: أن يقصد قائلها أن الدين لا دخل له بالنظام العام في الوطن، وهو ما تدعو إليه العلمانية.

فإن أراد قائل هذه العبارة فصل الدين عن النظام السلوكي والاجتماعي والتشريعي للدولة، وحصره في علاقة الفرد بربه فهذا معنًى مذموم يرفضه الشرع؛ لأن الله تعالى أنزل الكتب وأرسل الرسل ليكون الدين ظاهرًا؛ قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].

والمذهب الذي يدعو إلى ذلك هو مذهب باطل؛ لأنه ينادي بالبعد عن فعل المأمورات وعن ترك المنهيات، وهذا من أكبر الكبائر؛ لأن فيه تفلتًا من ضوابط الإسلام وقواعده وسيؤدي إلى هدم بنيان هذا المجتمع وتماسكه.

يقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].
والإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبًا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه، فهو شامل لكل نواحي الحياة، مادية وروحية، فردية واجتماعية.

والقرآن الذي يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة: 178]، وهو الذي يقول فيها: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 180]، ويقول في ذات السورة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 216]، فعبَّر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ.

فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين أي فرضه عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية، والوصية فيما يسمى "الأحوال الشخصية"، والقتال في العلاقات الدولية.

والشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا وله فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب، أو الاستحباب، أو الحرمة، أو الكراهية، أو الإجازة).

قال إمام الحرمين في "غياث الأمم" (ص: 310، ط. دار الدعوة- مصر): [والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله فيها] اهـ.

وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها كانت في مختلف شئون الحياة من اقتصاد وسياسة واجتماع وعبادة وغير هذا من شئون الحياة.

وأي مذهب يدعو إلى البعد عن كتاب الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو مذهب باطل لا يجوز لمسلم أن ينتمي إليه أو أن يشجعه أو أن يدعو إليه.

أما إذا أراد من يتكلم بهذه العبارة أن اختلاف أهل الوطن الواحد في دينهم ينبغي أن لا يؤثر على الوحدة الوطنية، واجتماع المواطنين على مصلحة الوطن، فهذا معنًى محمود؛ لأن كون النظام إسلاميًّا لا يعني أنه لا يستوعب غير المسلمين في الوطن، أو أنه يمنع أي مواطن حقًّا من حقوقه، أو يطلب منه أكثر من واجباته، بل إن الإسلام مع الوحدة الوطنية ويدعو إليها ويدعمها دائمًا، وينظر إلى الناس جميعًا باعتبار أنهم مجتمع بشري واحد؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

فالبشر جميعهم عائلة واحدة من أب واحد، وهم جميعًا ورثة تلك الخلافة في إعمار الأرض، ونشر الأمن والسلام، وقد وضع القرآن الكريم قواعد واضحة لتلك العائلة البشرية، التي تقوم على حقيقة واضحة وهي وحدة الأصل الإنساني؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، والناس جميعًا في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز.

فالإنسان مُكرَّم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه، أو لونه، أو جنسه؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، وما اختلاف البشرية في ألوانها، وأجناسها، ولغاتها، وديانتها إلا آية من الآيات الدالة على عظيم قدرة الخالق تعالى؛ قال عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].

والمسلم يجعل دستوره في العلاقة مع غير المسلم قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، حيث تدعو الآية إلى التعاون والبر والقسط مع إخواننا المواطنين أيًّا كان دينهم.

وحب الوطن من الإيمان، وكان ملحوظًا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، رغم أن أوطانهم كانت بلاد المشركين التي ذاقوا فيها أشكال العذاب؛ فسجلت السنة النبوية والسيرة العطرة قولة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهاجر من مكة، التي خرجها أحمد في مسنده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

وما رواه البخاري ومسلم، أنه لما حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فوُعِك بعضهم وأصابتهم الحمى، وكانوا يحنون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها، فعند ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَينا المدينَةَ، كحُبِّنا مَكةَ أَو أَشَدَّ، اللهُمَّ بارِكْ لنا في صاعِنا، وفي مُدِّنا، وَصَحِّحْها لنا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ».

وعندما استوطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة وصارت وطنًا لهم، أحبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل بعض أئمة الحديث على أن حب الوطن من الإيمان من سلوك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحنينه إلى المدينة؛ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: قوله -أي البخاري-: (باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة)، ثم ساق الحديث؛ فقال: "إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوضع ناقته، وإن كان على دابة حركها من حبها"، وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه. "فتح الباري" (3/ 621، ط. دار المعرفة).

وقال في موطن آخر: "قوله: (باب السرعة في السير) أي في الرجوع إلى الوطن". (6/ 139).
وعلَّق الحافظ ابن حجر على ما ذكره ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من إخراجه من وطنه بما ذكره السهيلي؛ حيث قال في "فتح الباري" (12/ 359): [قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وآله وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه، فلم يظهر منه انزعاج لذلك، فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هم؟» قال: ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام. انتهى ملخصًا] اهـ.

وعليه: فإن عبارة "الدين لله والوطن للجميع" إن أراد قائلها تنحية الدين عن الحياة وحصره في علاقة المرء بربه، فهذا معنًى يرفضه الإسلام ويعارضه، وإن أراد قائلها أن اختلاف المواطنين في الدين لا يجوز أن يكون سببًا في الفرقة والتشرذم، فهذا معنًى محمودٌ يُقِرُّه الإسلام ويدعو إليه، وينبغي حمل كلام المسلمين على المعاني الحسنة؛ إعمالًا لحسن الظن بهم، فالأصل في المسلم السلامة.

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم؛ كما في "سيرة ابن هشام" (1/ 501، ط. مصطفى الحلبي)، كما أن اتحاد أهل الوطن الواحد واجتماعهم على مصلحة وطنهم أمر غاية في الأهمية يدعو إليه الإسلام، وحب الوطن والخوف على مصالحه من الإيمان كما ثبت ذلك من الآثار المنقولة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 06 يونيو 2025 م
الفجر
4 :8
الشروق
5 :53
الظهر
12 : 54
العصر
4:30
المغرب
7 : 54
العشاء
9 :27