يقوم بعض الناس بالنذر المعلق على وقوع شيء، ويحدد المنذور، وأحيانًا لا يحدد المنذور، بل يطلقه كما في هذا السؤال.
والنّذر: مَا يقدمهُ الْمَرْءُ لرَبه أَو يُوجِبهُ على نَفسه من صَدَقَة أَو عبَادَة أَو نَحْوهمَا، والجمع: نذور. ينظر: "المعجم الوسيط" (ص: 912، مادة: ن ذ ر، ط. دار الدعوة).
ومن معانيه في الفقه: الْتِزَامُ قُرْبَةٍ لَمْ تَتَعَيَّنْ. ينظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (6/ 231، ط. دار الكتب العلمية).
وهناك فرق بين النذر المبهم والنذر المطلق، فالنذر المبهم لا يعين فيه الناذر عبادة بعينها؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (10/ 5، ط. مكتبة القاهرة): [النذر المبهم، وهو أن يقول: لله عليَّ نذر. فهذا تجب به الكفارة في قول أكثر أهل العلم. وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الحسن وعطاء وطاوس والقاسم وسالم والشعبي والنخعي وعكرمة وسعيد بن جبير ومالك والثوري ومحمد بن الحسن. ولا أعلم فيه مخالفًا إلا الشافعي، قال: لا ينعقد نذره، ولا كفارة فيه؛ لأن من النذر ما لا كفارة فيه.
ولنا ما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ولأنه نص، وهذا قول من سمينا من الصحابة والتابعين، ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفًا؛ فيكون إجماعًا] اهـ.
وأمَّا النذر المطلق فهو الذي عين فيه الناذر عبادة لكنه لم يعين مقدارها، وهذا هو المسؤول عنه هنا.
وحكم النذر المطلق أن يكلف الناذر بفعل ما طلب الشارع فعله من جنس ما عينه الناذر، فإن كان عين صيام أو صلاة فعليه فعل المشروع من الصيام والصلاة، لكن هل يفعل الواجب من العبادة أو الجائز منها؟ خلاف بين الفقهاء أحيانًا في داخل المذهب الواحد، وعليه يكون المطلوب من صاحب السؤال أن يذبح من النعم ما يجزئ في الواجب من الذبائح، أو من المسنون منها، على الخلاف المذكور.
ولما كان المسنون- فضلًا عن الواجب- له شروط كالسن، وجب الإتيان بها في المذبوح، فإن اشترك الناذر في ذبيحة كبيرة كبقرة وجب ألا تقل حصة الناذر عن السبع؛ لأنها تجزئ عن سبعة، مع إتمام باقي الشروط، أما ذبح البقرة الصغيرة التي لم تبلغ السن الشرعي في القربة فلا تجزئ في القربة ولو ذبحها شخص واحد.
والدليل على ذلك أن الناذر الْتَزَمَ عِبَادَةً عِنْدَ مُقَابَلَةِ شَرْطٍ، فَتَلْزَمُهُ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ ولأن النصوص الكثيرة وردت بالأمر بالوفاء بالنذر، والأصل في الأمر الوجوب.
والأَصْلُ فِي النَّذْرِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾، وَقوله تعالى: ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾.
وأما السنة: فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ»، وعن عمران بن حصين رضي لله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ» رواهما البخاري.
وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به. ينظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 3).
ولما كانت العبادة لها شروط وجب الإتيان بها؛ لأن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
وبنحو ما قلنا ذكرت طائفة من أهل العلم:
قال العلامة الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 92، ط. دار الكتب العلمية): [ولو نوى في النذر المبهم صيامًا ولم ينو عددًا؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في المطلق للحال، وفي المعلق إذا وجد الشرط، وإن نوى طعامًا ولم ينو عددًا؛ فعليه طعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة؛ لأنه لو لم يكن له نية لكان عليه كفارة اليمين؛ لما ذكرنا أن النذر المبهم يمين، وأن كفارته كفارة يمين بالنص، فلما نوى به الصيام انصرف إلى صيام الكفارة، وهو صيام ثلاثة أيام، وانصرف الإطعام إلى طعام الكفارة، وهو إطعام عشرة مساكين. ولو قال: له علي صدقة، فعليه نصف صاع، ولو قال: له علي صوم، فعليه صوم يوم، ولو قال: له علي صلاة، فعليه ركعتان؛ لأن ذلك أدنى ما ورد الأمر به، والنذر يعتبر بالأمر، فإذا لم ينو شيئا ينصرف إلى أدنى ما ورد به الأمر في الشرع] اهـ.
وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (3/ 306، ط. المكتب الإسلامي): [فرع: هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور، أم تكفي نيته قبل الزوال؟ يبنى ذلك على أنه إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقه فعلى أي شيء ينزل نذره؟ فيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي رحمه الله.
أحدهما: ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع؛ لأن المنذور واجب، فجعل كواجب بالشرع ابتداء.
والثاني: ينزل على أقل ما يصح من جنسه، وقد يقال: على أقل جائز الشرع؛ لأن لفظ الناذر لا يقتضي التزام زيادة عليه. وهذا الثاني أصح عند الإمام والغزالي، ولكن الأول أصح، فقد صححه العراقيون والروياني وغيرهم. فإن قلنا بالقول الأول أوجبنا التبييت وإلا جوزناه بنية من النهار، هذا إذا أطلق نذر الصوم] اهـ.
وقال العلامة الزركشي في "المنثور في القواعد الفقهية" (3/ 271، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [النذر المطلق هل يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه؟ قولان: قال الرافعي في باب التيمم: وقولهم يسلك به مسلك جائز الشرع، أي في الأحكام مع وجوب الأصل، وعنوا بجائز الشرع ها هنا القربات التي جوز تركها. انتهى.
وحاصله أنه لا خلاف في وجوب النذر، وإنما الخلاف في أن حكمه كالجائز في القربات أو كالواجب في أصله. قلت: والأرجح غالبًا حمله على الواجب، ولهذا لا يجمع بين فرض ومنذورة بتيمم واحد، ولا يصلي المنذورة على الراحلة، ولا قاعدًا مع القدرة على القيام على الأصح فيها، ولو نذر صلاة مطلقة لزمه ركعتان... ولو نذر هدي شيء من النعم اشترط فيه شروط الأضحية، ولا يجوز الأكل من الأضحية المنذورة كما لا يأكل من الواجبة ابتداء من غير التزام؛ كدم التمتع ونحوه... ويستثنى صور] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "الكافي في فقه الإمام أحمد" (4/ 216، ط. دار الكتب العلمية): [ومن نذر صيامًا ولم يسم عددًا ولم ينوه لزمه صوم يوم؛ لأنه أقل صوم يصح في الشرع.
وإن نذر صلاة، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه ركعة؛ لأن الوتر ركعة مشروعة، والثانية: لا يجزئه إلا ركعتان؛ لأن الركعة لا تجزئ في الفرض، فلا تجزئ في النذر كالسجدة.
وإذا نذر عتق رقبة، فهي التي تجزئ عن الواجب؛ لأن المطلق يحمل على المعهود في الشرع، وذلك هو الواجب في الكفارة.
وإن نذر هديًا لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية كذلك. وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم؛ لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك] اهـ.
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في "القواعد" (ص: 229، ط. دار الكتب العلمية): [(الْقَاعِدَةُ الْمِائَةُ): الْوَاجِبُ بِالنَّذْرِ: هَلْ يَلْحَقُ الْوَاجِبَ بالشرع أَوْ بِالْمَنْدُوبِ؟ فِيهِ خِلَافٌ يَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ] اهـ.
وقال الإمام السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 165، ط. دار الكتب العلمية): [القاعدة الرابعة: النذر هل يسلك به مسلك الواجب أو الجائز؟ قولان: والترجيح مختلف في الفروع، فمنها: نذر الصلاة، والأصح فيه الأول؛ فيلزمه ركعتان... ومنها: نذر الأضحية، والأصح فيها: الأول، فيشترط فيها السن والسلامة من العيوب. ومنها: نذر الهدي ولم يسم شيئًا، والأصح فيه: الأول، فلا يجزئ إلا ما يجزئ في الهدي الشرعي، ويجب إيصاله إلى الحرم] اهـ.
وهذا كله إذا ما أطلق النذر، أما إذا عينه بشيء -كأن حدد الذبيحة نوعًا أو سنًّا أو حجمًا- فلا يلزمه إلا ما عين.
قال الإمام ابن قدامة في "الكافي" (1/ 541): [إذا نذر هديًا مطلقًا فأقل ما يجزئه شاة، أو سبع بدنة أو بقرة؛ لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع، ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية. ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها. وإن عينه بنذره ابتداءً أجزأه ما عينه كبيرًا أو صغيرًا أو حيوانًا أو غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فكأنَّما قرَّب دَجاجةً، وكأَنَّما قرَّب بيْضةً»] اهـ.
وبناء عليه وفي واقعة السؤال: فإنك إذا كنت قد أطلقت النذر دون أن تعين الشيء المنذور ذبحه، فعلى الأصح من أقوال أهل العلم يلزمك مراعاة الشروط المذكورة في الذبح الواجب؛ كهدي التمتع في الحج، والدم الواجب بارتكاب محظوراته، والأضحية على قول من أوجبها، ولا بأس من الاشتراك مع الغير في ذبيحة واحدة إذا كانت تجزئ في الذبح الواجب وكانت تحتمل الاشتراك فيها؛ كالبقرة الكبيرة.
أما العجل الصغير المذكور في السؤال فلا يجزئ أصلًا في الذبح الواجب للفرد فضلًا عن أن يشرك فيه غيره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.