هذا الحديث الشريف ورد في حال كون المسلم في الصلاة، فحَمْلُه على غيرها فيه تكلُّف، والفقهاء عندما تكلموا عن حكم التصفيق خارج الصلاة تكلموا عنه باعتبار غَرَضِه وما قد يصاحبه من المظاهر التي تُخرِجُ المسلمَ عن حدود اللياقة العامة والآداب؛ كمن يفعله تشويشًا على الناس في المساجد، أو من يجعلونه من مظاهر العبادة خارجين بذلك عن الخشوع والتدبر، ودار كلامهم في هذه الاعتبارات بين الحرمة والكراهة والحل؛ تبعًا لِمدى ما يحدثه ذلك من تشويش أو خروج عن المقصود، ولكنهم نصوا أيضًا على أنه إن كان لحاجة أو منفعة صحيحة فإنه حلال.
وقد نقل العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي استدلال بعض العلماء بهذا الحديث على التحريم، ثم رد عليه بأن هذا خاصٌّ بالصلاة، وبأن التصفيق لا يختص به النساء، فلا تَشَبُّهَ فيه أصلًا؛ فقال في "كف الرعاع" المطبوع بهامش "الزواجر" (2/ 296، ط. الحلبي): [وقد حرمه بعض العلماء؛ لخبر: «إنما التصفيق للنساء»، وأنت خبير بأنه لا دلالة في الخبر؛ إذ (أل) فيه للتصفيق الذي يُؤمَرون به في الصلاة، وليس هذا منه، وبأن التشبه بهن إنما يَحرُم فيما يختص النساء به، وهذا ليس كذلك] اهـ.
وأما عن الاستدلال بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35] فغير صحيح؛ لأنها نزلت فيمن كانوا يصدون عن الإسلام بفعلهم هذا، فالإنكار إنما هو للصد عن سبيل الله، ولكونه عند البيت الحرام، لا لمجرد التصفيق أو الصفير.
قال الحافظ العراقي في "طرح التثريب" (2/ 244، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وقال والدي رحمه الله: ليس في سبب نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: 35] الآية أنه نهى النساء عن ذلك لا في حالة الصلاة ولا غيرها، وإنما ذكر غير واحد من المفسرين أنهم كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في الصلاة والطواف ليشوشوا عليه، فنزلت الآية بمكة، ثم أمرهم بالمدينة أن يصفق النساء لما نابهن. والله أعلم] اهـ.
وجاء في تعليق لجنة "الموسوعة الفقهية الكويتية" على هذه الاستدلالات في المسألة ما نصه: [لا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المآخذ؛ لأن كونه من اللهو الباطل معناه: أنه لا ثواب له، وليس كل ما خلا من الثواب حرامًا، ولأن التشبه بعبادة أهل الجاهلية لم يبقَ له وجود. وذم التصفيق في الآية إنما هو لكونه عند البيت (في المسجد الحرام)، ولكونهم جعلوه صلاتهم، ولأن التشبه بالنساء في التصفيق إنما يحصل إذا صفق الرجل في الصلاة لسهو الإمام أو نحوه بدلًا من التسبيح المشروع في حقه] اهـ. تعليق اللجنة.
والمعتمد عند الشافعية أن التصفيق إن لم يكن فيه خروجٌ عن اللياقة والآداب العامة فهو حلال وليس حرامًا حتى ولو كان على جهة اللَّعِب، وأنه حلالٌ إذا كان تعبيرًا عن الإعجاب؛ قال العلَّامة ابن حجر الهيتمي في "شرح الإرشاد" -كما نقله في "كف الرعاع" (2/ 296) عن نفسه أيضًا-: [ومنه يُؤخَذ حِلُّ ضربِ إحدى الراحَتَينِ على الأخرى، ولو بقَصْدِ اللَّعِب, وإن كان فيه نوعُ طَرَبٍ, ثم رأيتُ الماوردي والشاشي وصاحبَي "الاستقصاء" و"الكافي" ألحقوه بما قبله، وهو صريح فيما ذكرْتُه وأنه يجري فيه خلافُ القضيب، والأصحُّ منه الحِلُّ، فيكون هذا كذلك] اهـ.
ويلتحق بذلك كلُّ ما يُحتاج فيه إلى التصفيق؛ كما مثَّل العلَّامة الشبرامَلِّسيُّ في حاشيته على "نهاية المحتاج" (2/ 47، ط. مصطفى الحلبي): [لذلك بفعله تحسينًا لصناعةٍ (أي إعجابًا بفنٍّ معيَّن) من إنشادٍ ونحوه، ومنه ما يفعله النساء عند ملاعبة أولادهن] اهـ.
فإذا كانت الأعراف السائدة تجعل التصفيق دلالةً على الإعجاب والاستحسان فلا ينطبق على التصفيق حينئذٍ ما ذكره الفقهاء مِن كونه علامةً على المجون أو ذهاب المروءة أو غير ذلك من العلل التي من أجلها صرح بعضهم بكراهته أو تحريمه، ولا يصح إيقاعُ حكمهم بمنع التصفيق -كراهةً أو تحريمًا- على فعله إعجابًا واستحسانًا كما هو السائد بين الناس في هذا العصر مسلمين وغير مسلمين، وحينئذٍ فلا يصح أن يُنسَب تحريمُ ذلك (الذي تغيرت دلالته واختلف واقعُه) إلى المذاهب الفقهية المتبوعة؛ لأن العلماء قد أجمعوا على أنه إذا تغيَّرت العوائدُ تغيَّرت الأحكامُ المتعلقة إليها، وأن خلاف ذلك جهالةٌ في الدين؛ كما نص على ذلك الإمام القرافي المالكي في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (ص: 218، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب).
والله سبحانه وتعالى أعلم.