اختلف الفقهاء في حكم التعامل بالبيع والشراء وقبول الهدية وأكل الطعام ونحو ذلك مع من اختلط ماله الحلال بالحرام؛ بحيث لم يُعلم عين الحرام، على قولين:
أحدهما: الحرمة، وهو ما ذهب إليه الحنفية فيما إذا غلب الحرام، وطرد أصبغ من المالكية الحرمةَ مطلقًا قلَّ الحرام أو غلب؛ يقول الإمام الدسوقي: [اعلم أنَّ من أكثر ماله حلال وأقلُّه حرام، المعتمد جواز معاملته ومداينته والأكل من ماله كما قال ابن القاسم، خلافًا لأصبغ القائل بحرمة ذلك، وأما من أكثر ماله حرام والقليل منه حلال فمذهب ابن القاسم كراهة معاملته ومداينته والأكل من ماله وهو المعتمد خلافًا لأصبغ المحرِّم لذلك] اهـ. "حاشية الشرح الكبير" (3/ 277)، وراجع: "غمز عيون البصائر" (1/ 192، ط. دار الكتب العلمية).
واستدل أصبغ بأن اختلاط المال الحلال بالحرام يجعل الحرام شائعًا في المال فتسري الحرمة إليه كله، ويلزم صاحبه التصدق به. راجع: "الذخيرة" (13/ 317، ط. دار الغرب الإسلامي).
وثانيهما: الجواز مع الكراهة، وهو قول المالكية فيما إذا غلب الحرام، وقول الشافعية والحنابلة مطلقًا قلَّ الحرام أو كثر، وهو قول الحنفية فيما إذا غلب الحلالُ الحرامَ؛ يقول الإمام النووي: [دعاه مَن أكثرُ مالِهِ حرامٌ؛ كرهت إجابته كما تكره معاملته] اهـ. "روضة الطالبين" (7/ 337، ط. المكتب الإسلامي)، وراجع: "أسنى المطالب" (3/ 227، ط. دار الكتاب الإسلامي).
ويقول الإمام السيوطي: [معاملة مَن أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح، لكن يكره، وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده، كما قال في "شرح المهذب": إن المشهور فيه الكراهة لا التحريم] اهـ. "الأشباه والنظائر" (107، ط. دار الكتب العلمية).
ويقول الإمام المرداوي: [فائدة: في جواز الأكل من مال مَن في ماله حرام أقوال... القول الرابع: عدم التحريم مطلقًا قلَّ الحرام أو كثر، لكن يكره، وتَقوَى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته، جزم به في "المغني"، والشرح، وقاله ابن عقيل في فصوله وغيره، وقدَّمه الأزجي وغيره. قلت: وهو المذهب] اهـ. "الإنصاف" (8/ 322، ط. دار إحياء التراث العربي).
واستدلوا على الجواز بأن الأصل في المال والتعامل به الإباحة، والتحريم عارض لا يثبت إلا بيقين، كما أن الاحتمال قائم بأن يقع التعامل بالمال الحلال لا سيما وأن الظاهر أن ما بيد الإنسان ملك له. راجع: "المغني" (4/ 180، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته يتعاملون مع غير المسلمين ويقبلون هداياهم ولا يخلو ما بأيديهم من المال الحرام؛ كأموال الربا وثمن الخمر والفسق والأصنام وغير ذلك من المنكرات، وقد وصفهم الله عز وجل بأنهم: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: 42]، ولذلك لما جاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: "إن لي جارًا يأكل الربا، وإنه لا يزال يدعوني، فقال: مهنؤه لك وإثمه عليه". راجع: "مصنف عبد الرزاق" (8/ 150، ط. المكتب الإسلامي).
ويستدل على الكراهة بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ» متفق عليه، واختلاط المال بالحرام من الشبهات التي يُندب فيها الاتقاء.
والقول بالتحريم فيه حرج ومشقة على المكلفين، كما أن فيه فتحًا لباب الوسوسة والخصومة وتبادل التهم بين الناس، وقول أصبغ لم يخلُ من نقد علماء المذهب المالكي نفسه؛ فقال الإمام القرافي في "الذخيرة" (13/ 317): [وقول أصبغ تشدد، فإن قاعدة الشرع اعتبار الغالب] اهـ.
ووصفه الإمام ابن العربي بأنه غلوٌّ في الدين، أضف إلى ذلك أن أصله في سريان الحرمة لجميع المال بالاختلاط أصل فاسد؛ لأن الحرمة وصف يثبت في ذمة المكلف لا علاقة بالمال به، فذات المال لا يوصف بحل أو حرمة، بل فعل المكلِّف ما يوصف به.
وبناء على ما سبق: فإنه يجوز مع الكراهة قبول هدية من اختلط ماله الحلال بالحرام على الراجح من مذهب جمهور العلماء، وذلك ما لم يعلم الحرام بعينه، فإن علمه حرم قبوله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.