دليل ا لأسرة.. من أجل حياة مستقرة

دليل ا لأسرة.. من أجل حياة مستقرة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد:

فإن الأسرة من أقدم وأهم الكيانات الاجتماعية التي عرفتها البشرية، رغم تفاوت المجتمعات في طقوس تكوينها وآداب بنائها. وما اكتسبت الأسرة هذه الأهمية وتلك المكانة إلا لكونها الأرض الخصبة التي يتلقى فيها الإنسان دروس الحياة الأولى، والتي يكون بها فيما بعد إنسانًا صالحًا نافعًا، أو غير ذلك.

وإذا كانت الأسرة صالحةً، أنتجت أفرادًا صالحين، فكان المجتمع صالحًا. ولا عجب، فهي البيئة الأولى التي تحتضن الإنسان وترعاه. ولهذا، عُني بالأسرة ودورها كتّاب وباحثون من مختلف التخصصات العلمية: الدينية، والنفسية، والاجتماعية، والطبية، وظهرت مدارس ونظريات حول قوة الأسرة وضعفها.

وعلى كثرة الدراسات التي تناولت الأسرة وما يتعلق بها، تأتي نظرة الإسلام للأسرة متفردة متميزة؛ إذ إن للأسرة في الإسلام نوعًا من القداسة والاحترام لا يشاركها فيه غيرها من العلاقات الإنسانية، كالجوار والصداقة والصحبة. فقد أعلن القرآن الكريم أن الزواج، وهو البداية الأولى لتكوين الأسرة، من آيات الله ودلائل قدرته، وشواهد حكمته، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].

وتتأكد هذه القداسة والمنزلة الكبيرة للأسرة في ظل المحاولات الملحّة لغزو أفكارنا، والتعرض لثوابتنا، ومحاولات عولمة نماذج أسرية معينة تخرج عن قيمنا وأخلاقنا.

تنطلق رؤية الإسلام للأسرة من كونها وحدة من وحدات المجتمع المسلم، تعمل على تحقيق مقاصده وأهدافه، بدءًا من الاستجابة للفطرة والغريزة دون أن تتسامى عليها، وتصاحب الأسرة مجموعة من الضوابط والآداب التي تصونها وتضمن سيرها وصلاح نتائجها.

ويبدأ التكوين الأسري في الإسلام من القاعدة القرآنية: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: 49] وبذلك يُعلن منذ البداية أن التكوين الصحيح للأسرة الطبيعية لا يلتقي مع الدعوات الهدامة المنحرفة التي تتعارض مع الدين والعقل والمنطق، مهما استترت وراء شعارات براقة.

لقد عاشت الأسرة بهذه الصيانة الربانية والتوجيهات النبوية قرونًا طويلة آمنة مطمئنة، في رعاية واحترام وتوقير، حتى خرجت علينا بعض الأصوات المنكرة التي تقف خلفها أجندات مشبوهة، فتناولت هذا التكوين الأسري بشيء من التهوين، وتعرضت الأسرة لهزة فكرية، وهو ما أوجب على المؤسسات الدينية أن تقوم بواجب البيان.

ولا يخفى على القراء الكرام أن سيطرة الحياة المادية وخفوت الجانب الروحي من حياة الإنسان والمجتمع كان من أكبر العوامل التي أفسحت مجالًا لهذه الدعوات المنحرفة لتجد صدى في بعض البيئات.

كما لا يخفى أن بعض الدعاوى السائدة كانت سببًا فيما آلت إليه أحوال الأسر في هذه الأيام من شقاق ونزاع، ومنها: ادعاء أن المرأة مظلومة ومضطهدة، وأن المجتمع ذكوري في سياقاته الثقافية والاجتماعية والفكرية، وما أشبه هذا الطرح! وقد أدى ذلك ببعض الأزواج إلى حالة من المناطحة لا المناصحة.

نعم، لا ننكر أن طبيعة الأسرة وشبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة قد تغيرت عن ذي قبل، ولكن تبقى لدى الشريعة الإسلامية أطر حاكمة تضمن صيانة الأسرة مهما تعددت علاقاتها وتشابكت، وتضمن وضوح رؤيتها وغاياتها. وهذا يوجب على القادة والمسؤولين والأفراد عمومًا أن يرجعوا لهذا النبع الصافي لتستقيم الأسرة، وتقوم بوظيفتها على أكمل وجه.

ومن باب المصارحة، ربما كانت بعض السلوكيات والعادات الموروثة بعيدة كل البعد عن أنوار الإسلام وهدايته ورحمته وأخلاقه وحضارته، فكانت القسوة في أكثر من صورة من نصيب بعض النساء، ولكن هذا لا يُبطل الأصل كما يقول أهل العلم.

والذي يجب أن نعرفه أن الأسرة المسلمة الصالحة هي التي يتكون منها المجتمع المسلم الصالح، ومن ثم كان اهتمام التشريع الإسلامي بالحياة الزوجية، والوقوف عند الواجبات والحقوق والآداب والآثار والعلاقات المختلفة.

وليست عنايتي في هذه المقدمة بإيراد ما يتعلق بالأسرة وبنائها وصيانتها مما جاء في القرآن والسنة وكتب الفقه والأخلاق، فضلًا عن كتب التربية وعلم النفس، فإن هذا أمر طويل، ولكنني أشير إلى جملة من الإرشادات الربانية التي لا ينبغي أن تنساها الأسرة، ومنها قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِه» وقوله: «ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم».

وأشير كذلك إلى جملة من المقاصد الشرعية التي يتغيّاها الإسلام من هذا التكوين المهم، والتي تضمن الاستجابة لحاجات الأفراد، وتضمن بقاء المجتمعات، وديمومة التعبد والعمارة، ومنها: تنظيم العلاقة بين الجنسين، وتهذيب الغريزة بتحريم العلاقات غير الشرعية، وإحاطة العلاقة الشرعية بمجموعة من الآداب، وحفظ الأنساب والأعراض، وتحقيق السكن والمودة بين الزوجين، وحفظ التدين والالتزام في الأسرة بدءًا باختيار ذات الدين، وتزويج من نرضى خلقه وأمانته، وانتهاءً بتربية جيل صالح لا ينقطع فيه النسل ولا ينقطع فيه الدين.

وفي ضوء ما يحمله الواقع من آثار وافدة وعادات راكدة تتعلق بالأسرة وبنائها وطبيعة العلاقة بين أفرادها، يأتي هذا الدليل المتميز، الذي يتجاوز فكرة سرد مجموعة من الآيات والأحاديث حول الحقوق والواجبات الزوجية، ليناقش مناقشة عميقة ومعاصرة ما يتعلق بالأسرة من أمور، فيقف في الفصل الأول عند نصائح وإرشادات عامة في العلاقة بين الزوجين، وفق الاستعداد الفطري والتكوين الجسدي لكلا الزوجين، لتحقيق السكن والمودة والرحمة، مع الدعوة لغرس روح التعاون والمشاركة لصالح الطرفين ولصالح المجتمع كله.

ويناقش الفصل الثاني نصائح وإرشادات في العلاقة الاجتماعية، انطلاقًا من أن الإنسان كائن اجتماعي تقتضي طبيعته أن يعيش مع غيره، حتى يضمن سلامة تلك العلاقات.

ويقدم الفصل الثالث نصائح وإرشادات في المعاملات المالية للأسرة، تدور حول علاقة أفراد الأسرة بالمال جمعًا وإنفاقًا، انطلاقًا من أن المال عصب الحياة الذي لا يُستغنى عنه.

ويأتي الفصل الرابع ليناقش ثمرة الزواج وهي الأولاد، وما يجب على الزوجين تجاه أولادهما، باعتبار البيت المرآة الأولى التي يرى فيها الأولاد حياتهم، فهم يرون الجمال أو القبح، والطاعة أو المعصية، والعلم أو الجهل، وغير ذلك من صور حياتية.

ولم يُغفل هذا الدليل ما يكون بين الأزواج من اختلاف في وجهات النظر أحيانًا، فعقد الفصل الخامس لتقديم نصائح وإرشادات لإدارة المشكلات الزوجية التي يشكو من تبعاتها المجتمع كله.

وحتى نضمن حياة مستقرة هادئة، قدّم الدليل في فصله السادس والأخير نصائح وإرشادات حول التعلّق بالله، وأثره على الحياة الزوجية، لما للطاعة من تأثير كبير في إصلاح البيوت.

وقد اشتمل الدليل بفصوله الستة على مئتين وثلاثة وأربعين توجيهًا مباشرًا وموجزًا، مع استدلال واضح من الكتاب والسنة لهذه التوجيهات، وربطها بواقع الناس، وما يكثر حوله السؤال.

وإذ أقدّم لهذا الدليل، فإني أتقدم بالشكر للجنة العلمية التي قامت على صياغته، داعيًا الله جل جلاله أن يجعل هذا العمل في موازين حسناتهم، وأن يجعل هذا الدليل نورًا يهتدي به الرجال والنساء على السواء، لتكون الأسرة مستقرة، ويكون المجتمع آمنًا

وإذ أقدّم لهذا الدليل، فإني أتقدّم بالشكر للجنة العلمية التي قامت على صياغته، داعيًا الله جل جلاله أن يجعل هذا العمل في موازين حسناتهم، وأن يجعل هذا الدليل نورًا يهتدي به الرجال والنساء على السواء، لتكون الأسرة مستقرة، ويكون المجتمع آمنًا.

والله من وراء القصد

أ.د/ نظير محمد عياد

مفتي جمهورية مصر العربية

رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم

                    

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 04 سبتمبر 2025 م
الفجر
5 :4
الشروق
6 :33
الظهر
12 : 54
العصر
4:27
المغرب
7 : 14
العشاء
8 :33