الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله الأكرمين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
فإن منصب الفتوى الشرعية من أهم المناصب الدينية؛ لتعلقها بحاجة الناس إلى بيان حكم الشرع في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم؛ خاصة فيما ينزل بهم من المستجدات والنوازل والمُلِمَّات، وتزداد هذه الحاجة تأكُّدًا وإلحاحًا في ظل ما يمرُّ به العالم في هذه الآونة، من انتشار وباء كورونا (COVID-19) واستفحال عدوى الفيروس على نطاق واسع؛ حتى أصيب به –حتى صدور هذا الكتاب- أكثر من أحد عشر مليون إنسان، مات منهم حتى الآن أكثر من نصف مليون نسمة، وما واكب ذلك الوباء من إجراءات احترازية ووسائل وقائية اضطرت دول العالم إلى اتخاذها وفرضها على شعوبها؛ للحفاظ على سلامة مواطنيها وسعيًا للقضاء على هذا المرض والحدِّ من انتشاره، وما اتخذته الدول العربية والإسلامية من إجراءات وقرارات تصبُّ في مصلحة الأمة وتتغيا سلامة أفرادها.
وبرز جليًّا في هذا المضمار دَوْرُ دُور الفتوى الإسلامية، وفي طليعتها دار الإفتاء المصرية، في مواجهة هذا الوباء المُستشري والهجمة المَرَضيَّة؛ فلم تألُ الدار جهدًا في إصدار عشرات الفتاوى الفقهية؛ توصيفًا لأداء العبادات على الوجه الذي يقي خطر استشراء البلاء وبلواه، وتأصيلًا لمشروعية اتخاذ الإجراءات التي تحد من انتشاره وتقلل من عدواه، وتفصيلًا لكيفية التعامل مع مرضاه، وتوضيحًا لطرق دفن موتاه، متناولةً جُلَّ الجوانب التي يمكن أن تتأثر بهذا الوباء؛ بدءًا من الموقف العقدي، إلى الجانب الروحي، إلى الأداء الشعائري، إلى التناول الفقهي، إلى السلوك الأخلاقي، إلى الحِراك الاجتماعي، إلى التفاعل الوطني، إلى الالتزام القانوني، إلى غير ذلك مما يحيط به من أحوالٍ وظروفٍ فردية ومجتمعيَّة ووطنية ودولية، ليكون ذلك دليلَ صدقٍ على مرونة الإسلام واستيعابه لكل التغيرات الحياتية، وشاهدَ عدلٍ على قدرته على مواكبة المستجدات والمتغيرات التي تمر بها البشرية، وبرهانَ حقٍّ على صلاحية الأحكام الشرعية للتطبيق في كل الظروف المعيشية، وتحت كل الأحوال البيئية؛ فإن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى العالمين، ولذلك كان صالحًا لكل الأسقف المعرفية، ومتسقًا مع كل الحقائق العلمية، ومستوعبًا لمختلف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص.
لقد أدلت دار الإفتاء المصرية بدلوها في التعامل مع ظروف هذا الوباء؛ بصفتها أعرق المؤسسات الإفتائية في العالم كله؛ حيث وجَّهنا مع البدايات الأولى لظهور عدوى الفيروس، بتوظيف الإمكانيات العلمية الشرعية والتخصصية والتقنية للتعامل مع النازلة، والتأصيل لمواجهة الأزمة، ولإنجاز هذه المهمة الجليلة رتَّبنا العمل على جبهتين متوازيتين؛ داخلية وخارجية:
فأما المهمة الداخلية: فهي إصدار قرار بتكوين فريق عمل علمي متكامل من إدارة الفتوى المكتوبة وإدارة نبض الشارع بالدار تحت إشرافي المباشر، مع التوجيه اليومي والمتابعة المستمرة من المستشار العلمي والأكاديمي، في النصف الثاني من مارس 2020م، لرصد ما يتعلق بالوباء من آثار دينية ودنيوية على الفرد والمجتمع، والدولة والمواطن، وإصدار الفتاوى المؤصلة المتعلقة بهذه الآثار، وشددت على العمل الدؤوب والإنتاج المتواصل، وأكدت على سرعة الإنجاز الذي لا يؤثر على جودة التأصيل، ورغم إجراءات الدولة الاحترازية بتقليص أعداد الموظفين وتقليل ساعات العمل في كافة المصالح الحكومية، إلَّا أن الجهد المضاعف والعمل المضني ومواصلة الليل بالنهار، أظهر التوفيق الرباني والقدرة الفائقة لعلماء الدار على العمل والإنتاج في كل الأحوال وتحت كل الظروف؛ بإنتاجٍ متميز بلغ مُعدله فتوى مؤصلة كل يوم، حتى استطاع فريق العمل الانتهاء من هذا الكتاب في آخر شهر يونيو بالتوافق مع ذكرى ثورة الثلاثين من يونيو المباركة؛ لتخرج الدار أكثر من ثمانين فتوى في أقل من ثمانين يومًا، وهو رقم قياسي في عالم الفتوى بفضل الله تعالى وحسن توفيقه.
وأما المهمة الخارجية: فكانت الاستعانة بالكوادر العلمية، من جميع التخصصات الطبية، التي تتصل بالتعامل مع هذه الجائحة العالمية؛ وقاية وعلاجًا؛ حيث عُقِدت الجلسات العلمية برئاستي وعضوية كبار علماء الدار، مع كبار المتخصصين، من الأطباء والمسؤولين؛ لاستيضاح التصوير الدقيق لواقع الوباء؛ فإن معرفة الحكم فرع عن تصوره، ولا بد من إدراك المحكوم فيه إدراكًا يستوفيه، وتزداد أهمية التصوير كلما تعلق واقعه بإدراك العلوم الدقيقة؛ كعلم الطب، لتخرج الفتاوى المتعلقة بهذه النازلة على المنهجية المنضبطة الصحيحة للإفتاء؛ ناظرة في كل ذلك إلى فقه المصالح واعتبار المآلات، قاصدة تحقيق ما جاء الشرع بالحفاظ عليه من المقاصد والكليات، مؤصلة لكثير من المبادئ الشرعية والضوابط الفقهية في النوازل والملمات، مظهرةً الفرق بين فقه الاعتياد وفقه الضرورة في أزمنة الأوبئة وأوقات الآفات.
وعلى الصعيد الإعلامي: اهتمت الدار بتفعيل فتاواها؛ بتحويلها من مجرد أحكام شرعية وتأصيلات فقهية إلى إجراءات إيجابية، وثقافة مجتمعية، وبرامج عمل وطنية، وذلك عن طريق المبادرات التي دعت بيانات الدار إليها وأكَّدْتُ عليها، في لقاءات إعلامية خاصة؛ كمبادرة «كأنك اعتمرت»؛ توجيهًا لأموال الحج والعمرة في المساعدة في الأزمة، ومبادرة «ومن أحياها»؛ ترغيبًا للمتعافين من الوباء وحثًّا لهم على التبرع بالدماء، بعد أن أثبتت التجارب والأبحاث أثر بلازما دم المتعافين في التعافي من المرض.
وبقدر ما أظهرت تداعياتُ النازلة ما لتجديد الخطاب الديني من أهمية قصوى وضرورة مُلِحَّةٍ، بقدر ما أصَّلت فتاوى الدار لذلك بشكل عملي واقعي؛ من خلال التطبيق الإفتائي لكثير من القواعد الفقهية والفقه المقاصدي؛ حيث جاءت كل فتاواها في هذا الصدد ممارَسَةً حقيقيةً وتطبيقًا عمليًّا لعملية التجديد الفقهي؛ فأصَّلت فتاواها لتَحَقُّق مناط الشهادة شرعًا في ضحايا وباء كورونا المستجد واقعًا، وظهر فيها التطبيق العملي لتقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وترتيب الأولويات في حفظ الكليات، وتجلَّى في فتاواها الفرق بين فقه الأمة وفقه الأفراد، والعلاقة بين الحكم الثابت والفتوى المتغيرة، وضرورة التعويل على المصالح الراجحة لا الموهومة، وتحقيقُ مناط المتوقع الذي يُعطَى حكمَ الواقع، وضابطُ الإقدام على المحظورات عند حصول الضروريات والحاجيات، وتحديدُ مفهوم الخوف الذي يؤثر في مدى مشروعية الأخذ بالرخصة الشرعية، والتمييز في هذا الصدد بين ما غلب على الظن حصوله وبين مجرد الوهم الذي لا يستند إلى أمارات أو تجارب. وخرجت الفتاوى في خلال ذلك باجتهادات مقاصدية لم تسبق إليها؛ كاعتبار الإنفاق على المنظومة الطبية؛ الوقائية والعلاجية، داخلًا في مصرف (في سبيل الله)؛ لتعلقه بالأمة وقوتها واقتصادها وأمنها، وانتقاله من بناء الإنسان إلى أمان الأوطان، كما أحيت الفتاوى بعضَ اجتهادات الصحابة والسلف، في الأزمات وأوقات التلف؛ كاجتهاد الفاروق ? في إعطاء الزكاة لأهل الكتاب المصابين بعدوى الأوبئة؛ لتعلق ذلك بسلامة الإنسان وأمن الأوطان، وأيضًا اجتهاد العلماء في الفتوى بأن الحج في أزمنة الوباء ليس فرضًا.
ومن ناحية فنية علمية: فقد خَطَتِ الفتاوى خُطوات ملموسة في توضيح الدوائر المتقاطعة بين العلوم الكونية والعلوم الشرعية؛ فأظهرت مثلًا أن الاهتمام بمنظومة الوقاية والطب الوقائي هو التطبيق الصحي الإجرائي للقاعدة الفقهية القاضية بتقديم الدفع على الرفع، وكيف أن مقولة «الوقاية خير من العلاج» أو «درهم وقاية خير من قنطار علاج» توضح الاتساقَ والتناغمَ في ذلك بين مقاصد الفقه الشرعية ومصالح الخلق المرعية.
وفي هذا الصدد ولمزيد من العلمية والتخصصية رجعت الفتاوى لآخر الأبحاث العلمية وأحدث التجارب الطبية المتعلقة بتأثير الصيام على المناعة والعدوى، والمنشورة في المراجع الطبية المعتمدة والتي أجراها الباحثون في المؤسسات الأكاديمية والجامعات عبر أنحاء العالم، والتي أثبتت الفائدةَ الجليلةَ للصيام المتقطع على مختلف أجهزة الجسم وكفاءة أنظمته؛ في تأكيدٍ علمي وبرهان واقعي على ما ورد في نصوص الشريعة من الأثر الإيجابي للصيام على صحة الإنسان، فأظهرت بذلك الاتساقَ بين عالم الخلق وعالم الأمر، والتناغمَ بين كتاب الله المنظور وكتاب الله المسطور، والتوافقَ بين الحقائق العلمية والمقررات الشرعية؛ لأن الكل من عند الله تعالى؛ فالكون من عالم الخلق، والوحي من عالم الأمر: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وما كان من الله فلا تناقض فيه ولا اختلاف: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وحذرت فتاوى الدار في هذا السياق من الانسياق خلف بعض المتساهلين الذين دعوا إلى الإفطار من غير عذرٍ صحيح؛ ممن يَحْلُو لهم تمييع الأحكام الشرعية، بعد أن تجرَّؤُوا على تعدي الثوابت الدينية، وحذرت في نفس الوقت من الانجرار خلف بعض الجهلة وقعدة الخوارج الذين دعَوُا العوامَّ لإقامة الجُمَع والجماعات في الساحات والطرقات، وأنكرت الإعراض عن حقائق العلم وقضاياه، بدعوى التوكل على الله، والتعامي عن خطر الوباء، بزعم أنه من شائعات الأعداء، مما يعد استهانة بالنفوس واستخفافًا بالعقول، ومخالفةً للمعقول والمنقول؛ لتسلك الفتاوى بذلك مسلكًا وسطًا بين المفرطين والمتطرفين.
وفي الوقت نفسه راعت الفتاوى استعراض الجانب التراثي؛ فاستخرجت من قواعد الفقه وكتب الفقهاء الشواهد والسوابق التي برز فيها تميُّز الفقه الإسلامي في التعامل مع مثل هذه الأزمات، وظهرت فيها العقلية المقاصدية في الاهتمام بوسائل الوقاية وإجراءات الحماية من الطواعين والأوبئة؛ كالاستشهاد على وضع الكمامة على الوجه بأمر الشرع بتغطية الفم والوجه عند العطاس والتثاؤب والتجَشُّؤ؛ منعًا للأذى وحسمًا للعدوى، وكطلب الفاروق ? من المرأة المصابة بالجذام أن تترك الطواف وتجلس في بيتها، وكدعوة أمراء الصحابة ? إلى التفرُّق في وقت الطاعون، وكإنكار الفقهاء على التجمع للدعاء في زمن الوباء؛ لتَجْمَع الفتاوى بذلك بين الأصالة والمعاصرة، وعبق الماضي وجدة الحاضر.
لم تكتف الفتاوى بالجانب الفقهي في التعامل مع النوازل والأوبئة، بل تناولت الجانب العقائدي؛ من خلال إقرار المفاهيم الشرعية المرعية؛ كمدافعة الأسباب بالأسباب، ورد القضاء بالدعاء، واهتمت بتصحيح المفاهيم المغلوطة؛ كإنكار العدوى؛ حيث أكدت على ضرورة اتخاذ أسباب التوقي منها، كسائر الأسباب التي يؤمر المكلف باتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار، وأن العدوى سبب لانتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وأن اتخاذ الأسباب لا يعني أنها مؤثرة بذاتها، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر باتخاذ الأسباب، مع التعلق برب الأرباب.
ولم تخلُ الفتاوى من الجوانب الروحية والسلوكية؛ ابتداءً من إحسان الظن بالله تعالى، والرضا بقضائه والتسليم لأقداره، مع دعائه واللجوء إليه. كما عرَّجت على بيان أخلاقيات التعامل في الأوبئة، والسلوكيات السوية التي ينبغي للناس أن يتحَلَّوْا بها في الأزمات، وما يتصل بذلك مِن حُسن التعامل مع المصابين بالعدوى، وعدم الشماتة فيهم، ومن احترام ضحايا الوباء وتكريمهم ورعاية حقوقهم بعد الموت، وحرمة الاستهانة بهم، أو منع دفنهم، وكيف أن الموت بهذا الوباء يعد شهادة عند الله تعالى يغفر لصاحبها بها ذنبه.
ومن أهم المفاهيم التي عالجتها فتاوى الدار وبرز واضحًا في تأصيلها: مفهوم المواطنة وأثره في الفتوى وتجديد الخطاب الديني؛ بعدما أصاب هذا المفهوم من التشويه في هذا العصر، وأصبح المُرجِفون يُنكِرون على المسلمين حبهم لأوطانهم وانتماءَهم لبلدانهم، وصاروا يربون أتباعهم على احتقار كل انتماء، والاستهانة بكل وطن؛ لينتج ذلك عند هؤلاء دينًا موازيًا، وأوطانًا موازيةً، وانتماءات موازية، وأخلاقيات موازية، وأُسَرًا موازية، صيَّرهم الولاءُ لها في براءٍ من أهليهم وعداءٍ مع مواطنيهم، وفصلتهم عن المجتمع والانتماء إليه، وجرَّأَتْهم على خيانة الأوطان، وسوَّلت لهم الإرجاف واستحلال الكذب بنشر الشائعات فيها، ومحاولة النيل من الوعي المجتمعي والاصطفاف الوطني بإزاء النازلة والوباء.
أ. د / شوقي علام
تصفح الكتاب