الإثنين 15 ديسمبر 2025م – 24 جُمادى الآخرة 1447 هـ

الخلايا الجذعية

الخلايا الجذعية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد؛

فالطب هو أحد أهم أعمدة الحضارة وأكثرها تأثيرًا في تاريخ البشرية، وهو التعبير الصادق لعلاقة الإنسان بـ(جسده، وصحته)، حيث يُدمج فيه بين بعدين متلازمين: بُعدٍ نظريٍّ يستكشف القوانين البيولوجية والكيميائية والخلوية التي تحكم الحياة (كشفرات الحمض النووي وآليات المناعة)، وبُعدٍ تطبيقيٍّ يُترجم هذه المعرفة إلى تدخلات وقائية وعلاجية ملموسة (من الجراحات الدقيقة إلى الأدوية واللقاحات). هذا التكامل يُمثل تجسيدا لإرادة الإنسان في فهم أسرار جسده وحمايته، وهكذا صار الطب أداة للحوار والمصالحة مع الجسد المادي، فتشخيص الأمراض يكشف عن محدودية الإنسان وضعفه، بينما استعادة الصحة تكشف عن قيمة الإرادة البشرية ومدى تمسكها بالعيش والحياة.

وقد جاء الإسلام مُعبرًا عن فلسفة عظيمة في الطب والتداوي، تنطلق من مبدأ كلّي يتمثل في مقصد (حفظ النفس)، وهو أحد المقاصد الخمسة الكبرى للشريعة الإسلامية، التي نصّ عليها علماء الأصول من أمثال: (الغزالي والشاطبي وابن عاشور)، والتي عبرت عنها العديد من الآيات الكريمة كقوله تعالى: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا﴾ [المائدة: 32]. فهذه الآية وغيرها، تعكس تصوّرًا شرعيًّا متقدّمًا يجعل حماية الحياة الإنسانية غاية شرعية لا تقبل التفريط.

كما أن مفهوم (التسخير) يُمثل أحد الركائز الأساسيّة في فلسفة الإسلام في التداوي، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]، فالله -سبحانه وتعالى- خلق الطبيعة وجعل ما فيها من: (النباتات والأعشاب والفضاء الحيوي) ما يُمكن للعلماء استثماره في صناعة العلاجات والتدخلات الطبية، بضمان إلهي أنه ما من داء إلا وله دواء، تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم: « ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌لَمْ ‌يُنْزِلْ ‌دَاءً ‌أَوْ ‌لَمْ ‌يَخْلُقْ ‌دَاءً ‌إِلَّا ‌أَنْزَلَ ‌أَوْ ‌خَلَقَ ‌لَهُ ‌دَوَاءً، ‌عَلِمَهُ ‌مَنْ ‌عَلِمَهُ ‌وَجَهِلَهُ ‌مَنْ ‌جَهِلَهُ ‌إِلَّا ‌السَّامَ". ‌قَالُوا: ‌يَا ‌رَسُولَ ‌اللهِ، ‌وَمَا ‌السَّامُ؟ ‌قَالَ: "‌الْمَوْتُ»([1])، ومن هذا المنطلق، يُمكن اعتبار البحث الطبي والاجتهاد في استنباط العلاجات بابًا عظيمًا من أبواب التفكر في ملكوت الله؛ لمعرفة آيات الرحمن وما سخره لخلقه من آيات ونعم، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190 [.

كما أن توحيد النظر إلى التداوي في الشريعة الإسلامية؛ يُمثل أحد أهم معالم هذه الفلسفة، إذ تجمع الشريعة بين مبدأ الأخذ بالأسباب المبني على (العقل والعلم)، وبين التوكل الصحيح على الله -سبحانه وتعالى- في (قضائه وقدره)؛ حيث يُنظر إلى الأسباب الطبية كجزء من سنن إلهية مُختصة بخلق الإنسان والعناية به، ويُنظر إلى التوكل على الله بوصفه الإيمان الراسخ بأن هذه الأسباب مهما عظمت فهي مجرد وسائل بيد الله –تعالى-، وأن النتيجة النهائية للشفاء بمشيئته وحكمته البالغة. وهي فلسفة تؤكد مدى عمق الرؤية الحكيمة للحياة والصحة، حيث يُنظر إلى المرض باعتباره اختبارًا إلهيًّا، وينظر إلى الشفاء باعتباره نعمة تستوجب الشكر، وينظر إلى التداوي باعتباره واجبًا شرعيًّا ومسؤولية إنسانية.

هذا وقد شهد الطب تحولات جذرية عبر العصور، بدءًا من الطب الشعبي في عصور ما قبل التاريخ الذي اعتمد على (التجربة والخطأ والأعشاب والسحر)؛  مرورا  بالحضارة المصرية  القديمة التي طورت الممارسات الطبية لتشمل التشخيصات السريرية المتقدمة، بل وبعض الجراحات الدقيقة، ثم جاءت النقلة النوعية مع (أبقراط) -في القرن الخامس ق.م- الذي حاول فصل الطب عن (الأساطير)  وربطه بالملاحظات العلمية، ثم جاء العصر الذهبي في الحضارة الإسلامية والذي حول الطب إلى نظام معرفي منظم، حيث طور العلماء المسلمون المستشفيات كمراكز تعليمية، وأدخلوا التجارب السريرية، وبرزت أسماء مثل: الرازي (الذي وصف الجدري علميًّا)، وابن سينا (صاحب القانون في الطب) الذي ظل مرجعًا أوروبيًّا حتى القرن الثامن عشر. وغيرهم من علماء الطب في الحضارة الإسلامية.

وشهد الطب في القرنين الماضيين تحولًا جذريًّا؛ فمن الناحية التكنولوجية، دشن لويس باستير "العصر الذهبي" باكتشافه نظرية الجراثيم التي قلبت المفاهيم التقليدية للأمراض المعدية، ليتلوها اكتشاف (الأشعة السينية) التي فتحت نافذة غير مسبوقة على أعماق الجسم الحي دون مشرط أو تشريح، ثم جاءت "الأدوية العجيبة" كـ (البنسلين والأنسولين) لتحول أمراضًا كانت قاتلة بالأمس إلى حالات قابلة للتداوي اليوم.

أما على الصعيد المفاهيمي، فقد تجاوز الطب النظرة الشمولية القديمة والتي تكتفي بالتركيز على الوحدات الدقيقة للجسد، أو بالنظرة العامة للجسد، فأدى لظهور "الطب الجزيئي" الذي يُفسر الأمراض عبر تفاعلات (الخلايا والجينات) أي من خلال فهم التفاعلات بين هذه المكونات الدقيقة. وقد تزامن هذا مع تحول استراتيجي من (ثقافة العلاج) إلى (فلسفة الوقاية) عبر الصحة المجتمعية، واكبه اندماج غير مسبوق للتكنولوجيا في التشخيص والعلاج، تجلى في (الجراحة الروبوتية الدقيقة، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي التنبؤية التي تعيد تشكيل مستقبل الرعاية الصحية).

هذا وكل طور مر به علم الطب والتداوي صاحبه ظهور طور موازٍ في علوم (الفقه والأخلاق والقانون)؛ لأن قضايا الجسد والصحة والمرض لا تنفك عن (القيم والمعايير والمواقف الشرعية). ففي قضايا مثل: تعريف الموت الدماغي، أو مشروعية التبرع بالأعضاء، أو مشكلات الإنجاب الصناعي والإخصاب المساعد، يعتمد الفقهاء في استنباط الأحكام على معطيات دقيقة يزودهم بها الأطباء المختصون. والطب في هذه السياقات لا يقدم رأيًا فحسب، بل يشكل المرجعية العلمية التي لا غنى عنها لبناء الفتوى الشرعية.

وهذه الشراكة لا تعني اندماج الفقه في الطب أو العكس، بل هي تلازم معرفي ضروري بين علمٍ يُقدم (الحكم الشرعي والغايات والقيم)، وآخر يقدم (البيانات والتشخيص)، ولا يمكن الفصل بينهما عند معالجة القضايا المعاصرة التي تتطلب حكمًا شرعيًّا مبنيًّا على وعي علمي دقيق. إنها صيغة جديدة من الاجتهاد لا تكتفي فقط بالتنظير، بل تندمج بالواقع لتنتج فتاوى أكثر ملامسة للمعطيات العلمية وأقرب إلى مراعاة مقاصد الشريعة في حفظ النفس وكرامة الجسد.

وقد زادت تعقيدات الواقع المعاصر من ضغط الأسئلة الأخلاقية على الطب، فمثلا مع دخول الذكاء الاصطناعي والأجهزة الروبوتية إلى غرف العمليات، ظهرت مشكلة جديدة، تتمثل في التخوفات الناشئة عن تآكل البعد الإنساني في علاقة الطبيب بالمريض، حيث صار المريض يُختزل في مجموعة بيانات ومؤشرات حيوية، وغاب التفاعل العاطفي الذي طالما شكل جزءًا أصيلًا من الممارسة الطبية. هذه التحولات تفرض على الفقه الإسلامي مسؤولية تقديم رؤية أخلاقيّة إنسانيّة تصحح مسار التكنولوجيا حين تهدد كرامة الإنسان أو تقلل من جوهر الطب كرسالة رحمة. كما أن هذه التطورات تدعو إلى اجتهادات جديدة تراعي الواقع دون التفريط في المبادئ، وهو ما يجعل أخلاقيات الطب من صلب المقاصد الشرعية لا من هوامشها.

وفي ظل اتساع نطاق المنتجات الطبية التي تدخل فيها مكوّنات من مصادر حيوانية أو معدّلة وراثيًّا، أو تحتوي على مواد كحولية أو مشتقات خلايا بشرية، ظهرت العديد من التساؤلات الفقهية المعقدة التي تستدعي اجتهادًا عميقًا ومستمرًا من الفقه الإسلامي المعاصر. فمثلاً، إشكالية المواد الكحولية في الأدوية لا يمكن الحكم عليها بالحظر والمنع اعتمادًا على الحكم بحرمة الخمر، بل تمتد إلى تحليل طبيعة الكحول المستخدم (هل هو كحول طبي نقي أم مشتق من الخمور؟)، ودرجة استهلاكه (هل يصل إلى حد الإسكار لو استُعمل بكميات كبيرة؟)، وطريقة استعماله (هل يندرج تحت الاستحالة المادية في التصنيع؟)، ومدى الاستغناء عنه ببدائل أخرى. وبالمثل، فإن استخدام مشتقات الخلايا البشرية، خاصة إذا كانت من مصادر جنينية أو مشتقة من تقنيات الاستنساخ العلاجي، يثير إشكالات جوهرية حول حرمة الجسد البشري ومفهوم الكرامة الإنسانية المتأصلة في الإسلام، وحدود التصرف في "المادة البشرية" لأغراض البحث والعلاج، مما يدفع الفقه إلى مقاربات دقيقة تستند إلى مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل معًا.

وإضافة إلى الاعتبارات المتعلقة بمكونات الأدوية والعلاجات المستحدثة، تحتلُّ أخلاقيات البحث الطبي والتجارب السريرية موقعًا محوريًّا في اهتمامات الفقه الإسلامي المعاصر، إذ يلتقي هنا حرص الشريعة على حفظ النفس واحترام الكرامة مع مبادئ البحث العلمي الأخلاقي التي تمنع إلحاق الضرر بلا مبرر وتؤكد المسؤولية الاجتماعية تجاه المشاركين والمجتمعات المحيطة. لذا اشترط الفقهاء فيها ضرورة الحصول على الموافقة المستنيرة وأن يُبلّغ المريض أو وليّه بكامل المخاطر المحتملة والفوائد المتوقعة بشكل واضح وشفاف، وضمان عدم استغلال حالة الضعف أو الجهل أو الضغط المادي لتحقيق أغراض البحث. كما يتطلب الأمر تطبيق ضوابط صارمة عند إجراء التجارب على الأجنة أو الخلايا الجذعية أو الحيوانات المعدلة وراثيًّا، مع المتابعة الدقيقة للتأثيرات بعيدة الأجل وتوثيقها بعناية علمية، بحيث لا تغدو التجارب مدخلًا للاستنساخ التكاثري أو التلاعب المخل بطبيعة الإنسان.

إن البحث في الأحكام الشرعية والأخلاقية للبحوث العلمية التجريبية على الإنسان بما فيها العمليات الجراحية التجريبية غير المسبوقة المغايرة للممارسة والعرف الطبي، والتجارب العلمية والطبية المتعلقة بالخلايا الجذعية، وكذا تجارب البيوتكنولوجيا، هي مسائل فقهية معاصرة تستوجب الدراسة العلمية والتأصيل الشرعي، على أن يكون ذلك بالتصدي لها في ضوء النصوص الشرعية واجتهادات فقهاء الإسلام لوضعها في إطارها الشرعي والنظامي والأخلاقي ([2]).

كل هذه الأسئلة والمشكلات تؤكد أهمية هذا الكتاب المبارك الماثل بين أيدينا «الخلايا الجذعية: دراسة مقارنة»، للأستاذ الدكتور/ رمضان الصاوي-حفظه الله- والذي يعد بحق لبنة علمية رصينة في صرح الاجتهاد الفقهي المعاصر، عبر بحث ودراسة أداة من أدوات التداوي المعاصرة، وهي التداوي عبر (الخلايا الجذعية).

هذا الموضوع الذي يعد من أكثر الموضوعات أهمية وإثارة للجدل العلمي والأخلاقي الواسع، انطلاقا من أن التطورات البيولوجية تمثل خيارا استراتيجيًّا لا رجعة عنه لمعظم الدول والتطور البيولوجي في حياة الإنسان المعاصر؛ وذلك بسبب العلاقة الوطيدة بين متطلبات المجتمع والتطور العلمي.

لذلك ولغيره تتأرجح المواقف في الأوساط الطبية، والشرعية، والقانونية، إزاء مدى أخلاقية ومشروعية إجراء هذه الأبحاث، بين مؤيد ومستنكر لها، بناء على الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وكذا على أساس الحدود التي يجب أن ترسم لها ([3]).

والخلايا الجذعية -وفقا لما بينته الدراسة التي بين أيدينا وغيرها من الدراسات في الطب والبيولوجيا- هي خلايا غير متخصصة تتميز بقدرتين فريدتين؛ الأولى: التجديد الذاتي (الانقسام لإنتاج نسخ مماثلة)، والثانية هي القدرة على التمايز (التحول إلى أنماط خلوية متخصصة مثل: الخلايا العصبية أو القلبية أو الدموية). وتنقسم هذه الخلايا إلى ثلاثة أنواع رئيسة: الأول: الخلايا الجنينية التي تُشتق من الكتلة الخلوية الداخلية للأجنة البشرية المبكرة وتتميز بـتعدد قدرتها على التمايز لأي نوع من الخلايا الجسدية. والثاني: الخلايا البالغة الموجودة في أنسجة البالغين (كالنخاع العظمي والأنسجة الدهنية) والتي تُعد متعددة القدرات لكن بإمكانيات تمايز محدودة؛ وأخيرًا الخلايا الجذعية المستحثة متعددة القدرات التي تُعاد برمجتها جينيًّا من خلايا بالغة لاستعادة حالة شبيهة بالجنينية. وتعتمد آليات عملها البيولوجي على إفراز عوامل النمو، وتنظيم الاستجابات المناعية، وتوفير حماية للخلايا المتضررة.

إن الخلايا الجذعية التي وهبها الله الإنسانَ- تمثل بارقة أمل في علاج العلل المستعصية التي طالما حيرت الأطباء، كأمراض تآكل الأعصاب مثل: التصلب الجانبي الضموري ومرض شلل الرعاش (باركنسون). والأعجب من ذلك، تمكن العلماء من إعادة برمجة خلايا المريض نفسه لتعود إلى حالة شبيهة بالخلايا الأولية (وهي تقنية تسمى الخلايا المستحثة)، ثم تحويلها لأنسجة مطابقة تمامًا له، مما يقلل خطر رفض الجسم لها؛ فهذا المنهج الثوري يرتقي بالطب من مجرد تخفيف المعاناة إلى إصلاح جذور المرض عبر استبدال الأنسجة المريضة بأخرى سليمة. ولا تقتصر الفوائد على العلاج المباشر، بل تمتد إلى اختبار الأدوية بأمان وفعالية أكبر عبر محاكاة أنسجة المريض في المعامل قبل تجريبها عليه، مما يقلل المخاطر. كما يبشر العلم بإمكانية هندسة أعضاء بشرية بديلة في المستقبل.

ورغم النتائج الثورية لتوظيفات الخلايا الجذعية في المجال الطبي، إلا أنها أثارت موجة كبيرة من الأسئلة الدينية والأخلاقية والقانونية، خصوصًا في الحالات التي يتم فيها استخدام خلايا مأخوذة من الأجنة البشرية في أطوارها الأولى. فبعض الباحثين ينظر إلى الجنين لا سيما في مراحله الأولى بعد الإخصاب، على أنه يحمل مقومات الحياة الإنسانية الكاملة، وأن أي تدخل يؤدي إلى تدميره يُعد مساسًا بحرمة النفس التي كرّمها الله –تعالى-، واعتداءً على أمانة الخلق التي أودعها الله في الإنسان. بينما يرى آخرون أن الحياة لا تبدأ إلا بعد حلول الروح في الجسد، وأن الاستفادة من تلك الخلايا قبل هذا الطور لا تدخل في دائرة المحظور شرعًا إذا كانت تهدف إلى غرض علاجي راجح، وتفرَّع عن هذا الخلاف في التصور خلاف في حكم إجهاض الجنين قبل نفخ الروح فيه. وتظل مسألة توظيف الخلايا الجذعية في المجال الطبي والعلاجي من أعقد ما أفرزته التقنيات الحديثة في ميزان الشريعة، لأنها تضعنا أمام معادلة دقيقة بين السعي إلى الشفاء، ووجوب احترام سنن الله في الخلق، وعدم التعدي على ما له حرمة ذاتية أو مقصود شرعي. كما أن من أوجه الإشكال أن هذه الأبحاث قد تجرّ خلفها تطبيقات غير منضبطة، مثل استخدام الخلايا في تجارب لم تستوف شروط السلامة، أو فتح أبواب العبث بالجينات والخصائص الوراثية بما يغيّر ما فطر الله عليه الإنسان.

أما التحدي الأخلاقي والديني الأكثر إلحاحًا، فيكمن في الاستغلال التجاري الفاسد الذي يُهدِّد كرامة الإنسان ويُعاكس روح الرحمة الطبية. فقد انتشرت «عيادات الظل» التي تسوق علاجاتٍ وهميّةً بالخلايا الجذعية (كتلك المستخرجة من الدهون لعلاج الشلل الدماغي)، مستغلةً يأس المرضى ومعاناة أسرهم، ومُتحدِّيةً بذلك الضوابطَ الشرعيةَ التي تحرم الغشَّ والتدليسَ وتحتم حمايةَ الضعفاء من الاستغلال. وهذا الانحراف لا يمس الأخلاق الطبية فحسب، بل ينتهك أيضًا مقاصد الشريعة في حفظ (المال والعقل والنفس).

لذا فإن ضبط هذه التقنية الواعدة يتطلب أكثر من التقدم المخبري؛ فهو رهينٌ ببناء إطار شرعي وأخلاقي وقانوني رصين يُوازن بين ضرورة الاستفادة من نِعَم الله العلمية، والالتزام بحرمة الحياة البشرية وكرامتها منذ بداياتها، وصيانة المجتمع من الانحرافات التي تلبس ثوب العلم زورًا. فهذه القضايا ليست طبيةً بحتة، بل هي امتحانٌ لإنسانية الإنسان أمام توجيهات الوحي ومقاصده السامية في تحقيق العدل والرحمة.

إن هذه الدراسة التي بين أيدينا تعد بحق محاولة جادة لمعالجة هذه المشكلات من منظور فقهي مقارن، يراعى التصور الصحيح للجوانب الطبية، والأبعاد القانونية، مع صناعة تحقيق فقهي دقيق يجمع بين معرفة المآخذ والمآلات، وبين ضبط الجزئيات بردها إلى الأصول الكلية، وقد جاءت الدراسة في مقدمة، وتمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة:

أما المبحث التمهيدي فتناول بالتحقيق الأصولي والتحليل المنهجي جملةَ الأسس المعرفية التي تُؤسِّس لفقه الخلايا الجذعية في الشريعة الإسلامية. وجاء في مطلبين جوهريين: أولهما تناول تحرير مفهوم الخلايا الجذعية لغةً واصطلاحًا، مُبرزًا أن التركيب الاصطلاحي حديثٌ لم يُعرف في تراث السلف، مما يستدعي ضبطَه بمنهجية الأصوليين في توليد المفاهيم المستجدة. ثم انتقل إلى نقد التعاريف العلمية (الطبية والبيولوجية والفقهية والقانونية) نقدًا أصوليًّا دقيقًا؛ فكشف عن مواطن الإجمال في بعضها، والدور في أخرى، وتخصيص العام بلا مبرر في ثالثة، مع بيان ما وقع من خللٍ كتعريف الشيء بنفسه أو الاقتصار على جزءٍ من حقيقته. واختتم المطلب بانتقاء تعريفٍ جامعٍ مانعٍ يرتكز على الأوصاف الجوهرية لهذه الخلايا، وهي: عدم التخصص، والقدرة المزدوجة على التجدد الذاتي والتمايز إلى أنسجة متخصصة، مع إمكانية تشكيل أعضاء كاملة.

وأما المطلب الثاني فقد رصد المسار الزمني لتطور أبحاث الخلايا الجذعية منذ بوادره في مطلع القرن العشرين، مرورًا بالتحولات النوعية في منتصفه، وصولًا إلى الثورة المعرفية مع اكتشاف الخلايا الجذعية المستحثة في العقدين الأخيرين. وقد ركَّز على التدرج الإجرائي في الاكتشافات: بدءًا بالخلايا الجنينية – التي تُستخرج من الأجنة المبكرة – ثم خلايا دم الحبل السري، فالبالغة (كالموجودة في نخاع العظم والدهون)، وانتهاءً بالخلايا المُعاد برمجتها جينيًّا لتجنب الجدل الأخلاقي. وقد أبرز أن كل مرحلةٍ أفرزت إشكالات فقهيةً جديدةً مرتبطة بمصدر الاستخلاص، واختتم المطلب بتسليط الضوء على التشابك بين التقدم العلمي والجدل القانوني والأخلاقي، لا سيما حول "عيادات الظل" التي تستغل المرضى بعلاجات غير مثبتة، منتهكةً مقاصد الشريعة في حفظ (النفس والمال والعقل).

أما المبحث الأول فتناول بالتحقيق العلمي والفقهي الرصين أنواع الخلايا الجذعية وطرق الحصول عليها والضوابط الحاكمة لذلك، وذلك في ثلاثة مطالب مترابطة؛ يقدم المؤلف في المطلب الأول منها تصنيفًا دقيقًا لأنواع الخلايا الجذعية، فيفصل بين الخلايا الجذعية الجنينية والخلايا الجذعية البالغة. ويُبرز المؤلف القضايا الفقهية المصاحبة لاستخراج الخلايا الجذعية الجنينية من الأجنة المحتملة أو الفائضة في التلقيح المخبري، مستذكرًا قواعد حفظ الأنساب وكرامة الكائن الإنساني المحتمل، ومشيرًا إلى أهمية توافر الموافقة الصريحة من ذوي الشأن. بينما يوضح في جانب الخلايا الجذعية البالغة أنها تُستخرج غالبًا من جسد المريض نفسه تقليلًا لمشكلات الرفض المناعي.

ثم يتطرق المطلب الثاني إلى تفصيل طرق الحصول على الخلايا الجذعية، محللًا إياها من منظور فقهي دقيق. فيستعرض الإجراءات المتعلقة بالإخصاب المخبري والاستفادة من الأجنة الفائضة بعد موافقة صريحة من أصحابها، ويبحث حكم الاستنساخ العلاجي بهدف الحصول على خطوط خلوية متطابقة جينيًا مع المريض لتجنب مشكلات المناعة، ويناقش المصادر البديلة الأقل إشكالًا كالحبل السري والمشيمة والسائل الأمنيوسي بعد الولادة، إضافة إلى تقنيات استخلاص الخلايا البالغة. ويُركز التقييم الفقهي هنا على جوهر كل طريقة: هل تنطوي على استغلال أو إضرار بحياة بشرية محتملة أم هي استثمار لنفايات طبية مشروعة؟ كما يتناول بالضبط حالات الاستفادة من الأجنة المجمدة أو المجهضة بقصد علاجي، مُؤكدًا ضرورة سد الذرائع من حيث ألا يكون الإجهاض مقصودًا لذاته للحصول على الخلايا، وألا يُستغل كذريعة لتجاوز الحدود الشرعية، مع اشتراط الإجراءات التنظيمية القانونية كترخيص الجهات الصحية المختصة، والشفافية في الأهداف البحثية، والمنع القطعي للاتجار التجاري الجائر بالأجنة أو الخلايا، وفرض المعايير العلمية الصارمة قبل التطبيق السريري.

وأخيراً، يضع المطلب الثالث الضوابط الشرعية والمؤسسية الحاكمة لاستخدام الخلايا الجذعية، مؤسسًا إياها على مقاصد الشريعة وأصولها الكبرى. فيشترط أن يكون الاستخدام العلاجي موجهًا لتحقيق مصلحة حقيقية ثابتة وفق قاعدة "التداوي بأخذ الأسباب"، مع ضرورة الحصول على موافقة مستنيرة من المريض أو وليّه تُبيّن المخاطر والفوائد بوضوح. ويُحرم استخدامها لأغراض غير ضرورية كتحسينات تجميلية محظورة شرعًا أو لتوليد أجنة أو أفراد بلا مبرر طبي أو بحثي مشروع، كما يُمنع استغلالها في تجارب مهينة تنتهك الكرامة الإنسانية. ويمتد الإطار الضابط ليشمل الجانب المؤسسي بإلزامية إنشاء لجان رقابية مشتركة (شرعية وعلمية) تمنح التراخيص وتشرف على الأبحاث والمراكز، وضرورة توثيق العينات والبيانات بدقة مع حماية السرية والحقوق الشخصية وعدم التصرف بالعينات إلا بموافقة رسمية، وتحديد إجراءات واضحة للتخلص منها عند انتهاء الحاجة أو بطلب صاحبها. ويشدد على كفاءة الباحثين وأمانتهم العلمية والأخلاقية ومراعاة شروط الأمان البيولوجي، مستحضرًا قاعدة أن العلماء أمناء على أبحاثهم وأن غياب الضمير الأخلاقي أو الكفاءة المهنية يبطل النفع ويجلب المفسدة.

أما المبحث الثاني فيتناول بالتحقيق العلمي والتنظير الفقهي الرصين مجالات استخدام الخلايا الجذعية، عبر ثلاثة مطالب مترابطة أما المطلب الأول فيركز على دور الخلايا الجذعية في كشف أسرار الداء وتطوير الدواء. ويُفصّل المؤلف استخداماتها التشخيصية في فهم آليات التكوين الخلوي وعوامل الخلل في الانقسام والتمايز المسببة للأمراض المستعصية كالسرطان والعيوب الخلقية والتنكس العصبي، مستندًا إلى ضرورة الوقوف على أسباب المرض لتقرير حكم العلاج شرعًا. كما يُبرز دورها في عزل الجينات المسؤولة عن الأمراض الوراثية ودراسة تنظيمها الجيني، تمهيدًا لتصحيح العلل الوراثية تحقيقًا لمقاصد حفظ النوع البشري. وفي الجانب الدوائي، يُعمق المؤلف تحليل الاستخدام الآمن لهذه الخلايا في اختبار فعالية العقاقير الجديدة وسلامتها عبر إنتاج أنسجة بشرية مختبرية، مما يحقق مقصد حفظ النفس ويجنب المخاطر المحتملة للتجارب المباشرة على الإنسان. أما المطلب الثاني فيستعرض التطبيقات العلاجية الواعدة للخلايا الجذعية في شفاء الأمراض المستعصية. بدءًا من استنبات الخلايا وتوجيهها لتكوين الأنسجة المستهدفة، مرورًا بتقنيات الحقن في مواضع الإصابة، وصولًا إلى نتائج تحسين وظائف الأعضاء. ويستعرض مجالات تطبيقية شاملة تشمل: علاج أمراض القلب والشرايين، وأمراض الدم والمناعة، والأمراض العصبية (كالشلل الرعاش وإصابات الحبل الشوكي)، وداء السكري، وأمراض الكلى والكبد، وإصلاح الحروق وأمراض الجلد، وعلاج الروماتيزم والتهاب المفاصل، وحالات العقم، ومشاكل الإبصار، وطب الأسنان، ومكافحة الشيخوخة. مع مناقشة الإشكالات الفقهية المتعلقة بمصادر الخلايا (جنينية/ بالغة) ومدى انطباق أحكام الغرر وحرمة الاعتداء على الأجنة، في إطار موازنة المصلحة والمفسدة. أما المطلب الثالث فيقدم تقييمًا شاملًا للتحديات والضوابط الحاكمة لتوظيفات الخلايا الجذعية في التداوي. فيُحلل المخاطر الطبية كانتقال الأمراض أو الرفض المناعي، ويستعرض التحديات التقنية كصعوبة التحكم في انقسام الخلايا والتكاليف الباهظة، والتحديات الاجتماعية كإمكانية الاستخدام غير المشروع. كما يركز على الإطار التنظيمي بإنشاء بنوك خلايا تحت إشراف لجان رقابية مشتركة (شرعية-علمية) تضمن جودة العينات وحماية البيانات. ويختم بالدعوة إلى الاجتهاد الجماعي المتجدد والتعاون الدولي لمواكبة تطورات هذا المجال، مع التزام سد الذرائع ودرء المفاسد المقطوعة تحقيقًا لمقاصد الشريعة في حفظ الصحة والعلم.

أما المبحث الثالث فجاء في ثلاثة مطالب جوهرية ترسم خطوط البحث في حكم التداوي بالخلايا الجذعية من منظور فقهي وقانوني، يستعرض المطلب الأول منها حكم التداوي بالخلايا الجذعية في الفقه الإسلامي، بتفصيل دقيق لمصادرها المتنوعة. فيقرر المؤلف بالإجماع جواز أخذ الخلايا من المريض نفسه وزرعها له، مستندًا إلى قواعد إزالة الضرر الأعظم وحفظ النفس، ويُجيز أخذها من متبرع حي أو متوفى، مشترطًا التبرع لا البيع، وموافقة المانح أو ورثته، وعدم الضرر به، وغلبة الظن بنجاح العلاج. ثم ينتقل إلى المسألة الأكثر تعقيدًا، وهي الخلايا المستمدة من الأجنة، فيفرق بين حالات: الأجنة المجهضة تلقائيًّا (فيجيز الاستفادة بشروط حفظ الكرامة والضوابط الشرعية)، والأجنة المجهضة عمدًا لأسباب طبية قاهرة تنقذ حياة الأم (مع اشتراط تقويم المصلحة والضرر وموافقة الأطباء، ورفض أي استغلال تجاري)، والأجنة الفائضة عن عمليات أطفال الأنابيب (حيث يعرض اتجاه التحريم القائم على حرمة الجنين، ويرجح اتجاه الجواز بشروط رضا الوالدين وضوابط الحفظ والنية الصالحة وتجنب الإهدار)، والخلايا من المشيمة والحبل السري (المجمع على جوازها لعدم انطباق حرمة الجنين عليها). وأخيرًا، يتناول الاستنساخ العلاجي، فيعرض أدلة الجواز القائمة على التعاون على البر واستثمار نعم الله وحل مشكلة الرفض المناعي.

أما المطلب الثاني فتناول حكم التداوي بالخلايا الجذعية في القانون الوضعي، من خلال تحليل تشريعات عربية مختارة. فيبرز المؤلف الضوابط التي تشترط عدم إضرار المريض في الأبحاث غير المعتمدة، وضرورة موافقة الأقربين وإفادتهم بالنتائج المحتملة. ويوضح النص الكويتي الذي يمنع نقل ما يؤدي لموت المتبرع أو تعطيله مع وجوب إبلاغه بالمخاطر. ويناقش القانون القطري المنظم لعمليات النقل والزرع. ويولي اهتمامًا خاصًا للقانون المصري الذي ينص صراحة على اشتراط موافقة المتبرع والمتلقي أو نائبيهما مع الإحاطة الكاملة بالنتائج، وينظم التعامل مع الخلايا الجذعية عبر لجان متخصصة، ويحظر بشدة إجهاض الأجنة لغرض الاستخدام في التجارب حمايةً للحياة الإنسانية منذ الإخصاب، بينما يسمح بالاستفادة من الأجنة المجهضة تلقائيًّا لسبب شرعي وبموافقة الوالدين، كما ينظم نقل الخلايا بين الأبوين أو الإخوة بضوابط الموافقة والولاية القانونية.

أما المطلب الثالث فيقدم مقارنة منهجية عميقة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، كاشفًا عن تطابق جوهري في المبادئ والضوابط رغم اختلاف المصادر والصياغة. فيؤكد على اتفاق الإطارين في الأصل الإباحي للتداوي بالخلايا الجذعية ما لم يصطدم بتحريم أو انتهاك للكرامة. ويتجلى الانسجام في جواز استخدام الخلايا المأخوذة من الذات (بشرط غلبة النفع وعدم الضرر)، وجواز أخذها من البالغ بعد موافقته الواضحة والتأكد من سلامته، وفي الحماية المطلقة لحرمة الجنين بعد نفخ الروح، وتحريم الاعتداء عليه لأي غرض. كما يتفقان على جواز الاستفادة من الأجنة المجهضة تلقائيًّا لسبب شرعي مع مراعاة الضوابط الأخلاقية، والحذر الشديد من استخدام الخلايا المستخلصة من أجنة مجهضة عمدًا أو لأغراض تجارية، والتحفظ على التعامل مع الأجنة الفائضة عن التلقيح الصناعي (مع تفاوت في درجة القيود)، وإباحة استخدام خلايا المشيمة والحبل السري. كما يتوافقان في ضرورة العقاب على أي اعتداء على الجنين أو الأم أو انتهاك الكرامة. ورغم أن القانون الوضعي يقدم تنظيمًا إجرائيًّا مفصلًا، بينما يركز الفقه على الإطار المقاصدي والأدلة الكلية، إلا أن الاختلافات في التفاصيل التطبيقية لا تنفي التكامل بين المنظورين في خدمة الهدف الأسمى المتمثل في حماية النفس البشرية، وصون كرامتها، ودرء المفاسد وتحقيق المصالح العلاجية المشروعة.

أما الخاتمة فتُجمل أبرز نتائج الدراسة وتوصياتها، حيث تؤكد أن الخلايا الجذعية تمثل ركيزةً واعدةً في الطب التجديدي. وتُبرز الضوابط الأخلاقية والفقهية الجوهرية للتداوي بها، مشددةً على ضرورة موافقة المريض، وتمتع الممارسين بالكفاءة، وحفظ السرية، ومواءمة العلاج لمقاصد الشريعة. وتُحدد مصادرها المشروعة (كدَم الحبل السري، والمشيمة، والأجنة الفائضة عن التلقيح الصناعي، والسقط غير المتعمد) مع تحريم المصادر المحظورة (كالاستنساخ البشري الكامل، والاعتداء على الأجنة). كما تستعرض آفاقها العلاجية في مواجهة الأمراض المستعصية (كالقلب، والسكري، والسرطان، والأعصاب) مع استثناء علاج شيخوخة الجسم ككل، وتُنبه لتحدياتها التقنية والمالية والاجتماعية. وتُقرر موافقة الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية في صيانة الكرامة الإنسانية وحظر العبث بالنفس، داعيةً إلى توحيد الجهود العربية، وزيادة بنوك دم الحبل السري، وإنشاء مراكز بحثية متطورة، والاستثمار في هذا المجال لتحقيق السياحة العلاجية والعوائد الاقتصادية، مع ضبطه بإطار تشريعي وأخلاقي متين يحقق الموازنة بين الاستفادة العلمية وثوابت الشريعة

إن الكتاب الذي بين أيدينا بكافة مباحثه ومطالبه يتميز بمنهجية بحثية رصينة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتتلاقح فيها مناهج الاستنباط الفقهي مع التحليل العلمي الدقيق. فهو لا يكتفي بعرض آراء الفقهاء، بل يعتمد على المنهج التأصيلي المقارن الذي يتتبع جذور المسألة في النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) والإجماع والقياس، ثم ينطلق لتحليل المستجدات الطبية في ضوء القواعد الكلية الفقهية مثل "لا ضرر ولا ضرار"، و"الضرر يزال"، و"الضرورات تبيح المحظورات" بضوابطها المعروفة من حيث الحاجة والتناسب وغياب البديل. كما يُظهر الكتاب براعةً فائقةً في المقارنة بين المذاهب الفقهية (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة، الظاهرية) في مسائل أصلية ذات صلة كحكم التداوي عمومًا، وحرمة الجنين، وبيع الأعضاء، ليستنبط منها الأحكام المناسبة للحالة المستجدة. ولا يغفل الكتاب المقارنة مع المنظومات القانونية الوضعية، محللًا أوجه الاتفاق والاختلاف مع الرؤية الإسلامية، خاصة في قضايا الحقوق والبراءات المرتبطة بهذه التقنيات. إن هذا التكامل المنهجي بين التأصيل الشرعي، والتحليل الفقهي المقارن، والفهم العلمي الدقيق للظاهرة البيولوجية، هو ما يمنح الكتاب واستنتاجاته مصداقيةً علميةً وقوةً استدلاليةً فريدة.

إن هذا الكتاب ليس بحثا في مسألة طبية وحسب، بل هو نموذج لفقه الواقع المعاصر، وفقه الموازنات، وفقه المقاصد، وفقه المقارنات، وهو بذلك يضع أمام الباحثين والدارسين خارطة طريق علمية ومنهجية لمعالجة النوازل الفقهية الحديثة، في ضوء المستجدات العلمية، وبذلك يمثل إضافة قيّمة إلى المكتبة العربية، ويعد مرجعا جيدا لكل من يرغب في فهم أعمق لارتباط الخلايا الجذعية بالفقه الإسلامي.

 نسأل الله أن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يجعل هذا الجهد في ميزان حسناته، وأن ينفع به الأمة والعلم، ويجعل منه لبنة في جسر يربط بين التراث الفقهي الأصيل، والتحديات المعاصرة التي لا تنفك تتوالى، والله الموفق إلى سواء السبيل.

وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

مفتي جمهورية مصر العربية

أ.د/نظير محمد عياد

 

([1])  المستدرك على الصحيحين، 9/235، الحاكم، دار المنهاج، ط: الأولى 1439هـ = 2018م.

([2])  الخلايا الجذعية ومدى مشروعية استخدامها من الوجهة الشرعية والأخلاقية، د. العربي بلحاج، صـ215، المجلة الجزائرية للعلوم القانونية والاقتصادية والسياسية، جامعة الجزائر، 2008م.

([3])  الأبحاث على الخلايا الجذعية بين التأييد والمعارضة، اجتماع الخبراء الثاني حول القضايا القانونية والأخلاقية ذات الصلة بأبحاث الأجنة البشرية، د. محمد رأفت عثمان، القاهرة، صـ65، مصر، الفترة من 8 إلى 10/12/2010م.

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 15 ديسمبر 2025 م
الفجر
5 :11
الشروق
6 :43
الظهر
11 : 50
العصر
2:38
المغرب
4 : 57
العشاء
6 :20