الإثنين 15 ديسمبر 2025م – 24 جُمادى الآخرة 1447 هـ

فتاوى الشيخ عبدالمجيد سليم (دراسة فقهية مقارنة)

فتاوى الشيخ عبدالمجيد سليم (دراسة فقهية مقارنة)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمُتَّقين، وأُصلِّي وأُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيِّدنا ومولانا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد،،،

فلقد زخر الفكرُ الإسلامي عبْر عصوره المُتعدِّدة قديمًا وحديثًا بعديد مِن العلماء والفقهاء والمُفكِّرين والفلاسفة والمُصْلِحين الذين أثْرَوا الحياةَ العِلمية بالعديد مِن المُؤلَّفات التي كان لها أكبرُ الأثر وعظيم التأثير في الواقع الإنسانـيِّ؛ حيث نهضوا بحمل أمانة الدين، وبذلوا جهدهم في خدمة الشريعة، تحقيقًا وتأصيلًا، وقد توارثت الأجيال عبر القرون هذا الدور العلمي، فحافظت على علوم الإسلام، وواصلت البناء على ما أسسه السلف من قواعد وضوابط، في إطار علمي متصل يشهد باستمرارية العطاء وتجدد الاجتهاد.

الأمر الذي يدفع إلى ضرورة دراسة سِيَر هؤلاء الأعلام، ومُذاكرة أحوالهم، والنظر في آرائهم، والاستفادة مِن نظرياتهم العلمية، والاقتداء بسلوكياتهم الأخلاقية؛ وذلك من باب الإقرار بالفضل، والاعتراف بالجميل، نظير ما قدَّموه من آثارٍ علمية، وما خلفوه مِن تراث فكريٍّ يسهم في زيادة الوعي، وتنمية الفكر، والتبصير بالواقع، والدفع إلى البناء والعمران، والعمل على استخراج الذات؛ حفاظًا على الهوية، وتمسُّكًا بالقيم السلوكية، واحترامًا للمبادئ الإنسانية والتعاليم الدينيَّة.

وتُعد الفتوى من القضايا المهمة في حياة المسلمين؛ لما لها من أثر مباشر في توجيه السلوك الفردي والاجتماعي، ولأجل ذلك نالَت عناية فقهاء الأمة قديمًا وحديثًا، وقد شدد العلماء على خطورة التساهل فيها، مؤكدين وجوب التحري والدقة، وأقاموا لها أصولًا محكمة، وبيّنوا ضوابطها الشرعية، إدراكًا لما تمثله من أهمية في النوازل والمستجدات.

ومن بين العلماء الذين أسهموا إسهامًا كبيرًا في الفتوى والإفتاء، والحرص عليها والعناية بشأنها، العلّامة الجليل الشيخ عبد المجيد سليم –رحمه الله تعالى-؛ حيث اكتمل له «من جلال العلم وعظمة الحق وقوة الإيمان ما لم يكتمل لسواه من النظراء والأمثال، فقد كان –رضي الله عنه- من أخلاقه المثالية في هيبة منيعة، يصغر دونها أعظم الرؤساء من ملوك ووزراء، ..... وقد جاءت سيرته الطاهرة كتابًا مفصلًا للرجولة العالية، يقرؤه الناس فيجدون المثل الأعلى قد تجسد واقعًا ملموسًا في أعمال الرجل وأقواله، وإذا كان من السلف الصالح من شابه الشيخ في إبائه وترفعه؛ فإن معاصرتنا الشاهدة لحقيقته المؤمنة في القرن العشرين تؤكد لنا أن مصباح الحق دائم الإشعاع، فهو ينتقل من العصور الغابرة إلى العهود الحاضرة دون أن يطفأ له ضياء، ويأبى الله إلا أن يتم نوره» ([1]).

نشأ الشيخ عبد المجيد سليم نشأة صحيحة؛ فحفظ القرآنَ الكريمَ، ثم انتقل إلى الأزهر، وفيه تلقَّى العِلمَ على الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لخمس سنوات، تعلم منه فنون البلاغة، وتأثر بآرائه الإصلاحيَّة، وتلقَّى أيضًا علَى الشيخ حسن الطويل، فتعلم منه أساليبَ الجدل والقياس، وتعلم الفقهَ على فقيه عصره الشيخ أحمد أبو خطوة صاحب كتاب (فتح القدير) في علم الفقه، وقد فاق الشيخُ عبد المجيد سليم أستاذَه في فهم الكتاب وشرحه، وهذا يدل على ما تمتع به الشيخ عبد المجيد من دقة الفهم وذكاء القريحة، ومن مشايخه أيضًا الشيخ محمد الحلبي الشافعي والشيخ عبد المجيد اللبان، وغيرهم.

وقد درس الشيخ الجليل علومَ الأزهر، واهتم بدراسة الفلسفة، حتى لُقب بين زملائه: بـ «ابن سينا»، وواظب على تلقِّي العلم، وأَولاه اهتمامًا بالغًا، حتى حصل على العالميَّة من الدرجة الأولى في عام 1326هـ/1908م، ثم اشتغل بالتدريس بالجامع الأزهر والمعاهد الدينيَّة، ومدرسة القضاء الشرعي، ثم عُيِّن نائبًا لمحكمة القاهرة الابتدائيَّة الشرعيَّة.

وقد عمل الشيخ عبد المجيد سليم في مجال الإفتاء مدة تزيد على عشرين سنة، فعمل رئيسًا للجنة الفتوى بالأزهر، ثم عُيِّن رئيسًا لقسم التخصص بالجامع الأزهر، وقد نهض بهذا القسم ونظَّمه، وباشر هذا العمل بالموازاة مع عمله في الإفتاء، كما عمل بالقضاء الشرعي حتى صار رئيسًا لمحكمة مصر الابتدائيَّة الشرعيَّة ([2]).

وتولّى رحمه الله منصب مفتي الديار المصرية سنة 1346هـ/1928م، واستمر في هذا المنصب قرابة عشرين عامًا. وخلال هذه المدة أصدر عددًا كبيرًا من الفتاوى، بلغ ما يقرب من خمس عشرة فتوى، شملت مختلف أبواب الشريعة الإسلامية.

وكان رحمه الله منشغلًا بآلام الأمة؛ ومن ثم نراه منفعلًا بهمومها كالخلاف والتعصب وغيرهما من تلك العلل؛ داعيًا إلى نبذ الخلاف والشقاق باعتبارهما داء الأمة الذي يعوق وحدتها، ومن ثم تقدمها وريادتها، ولهذا نراه يقول: «إن هذه الأمة لا تصلح إلا إذا تخلّصت من الفرقة، واتحدت حول أصول الدين وحقائق الإيمان، ووسعت صدرها فيما وراء ذلك للخلافات. ما دام الحكم فيها للحجة والبرهان، ولقد أدركنا في الأزهر على أيام طلبنا العلم عهد الانقسام والتعصب للمذاهب، ولكن الله أراد أن نحيا حتى نشهد زوال هذا العهد، وتطهر الأزهر من أوبائه وأوضاره. فأصبحنا نرى الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي إخوانًا متصافين، وجهتهم الحق، وشرعتهم الدليل، بل أصبحنا نرى بين العلماء من يخالف مذهبه الذي درج عليه في أحكامه لقيام الدليل عنده على خلافه.

وقد جَرَيْتُ طوال مدة قيامي بالإفتاء في الحكومة والأزهر، وهي أكثر من عشرين عامًا على تلقي المذاهب الإسلامية - ولو من غير الأربعة المشهورة- بالقبول، ما دام دليلها عندي واضحًا، وبرهانها لدي راجحًا مع أنني حنفي المذهب، كما جريت وجرى غيري من العلماء على مثل ذلك فيما اشتركنا في وضعه أو الإفتاء فيه من قوانين الأحوال الشخصية في مصر، مع أن المذهب الرسمي فيها هو المذهب الحنفي.

وعلى هذه الطريقة نفسها تسير لجنة الفتوى بالأزهر التي أتشرف برياستها، وهي تضمّ طائفة من علماء المذاهب الأربعة، فإذا كان الله قد برأ المسلمين من هذه النعرة المذهبية التي كانت تسيطر عليهم إلى عهد قريب في أمر الفقه الإسلامي، فإنا لنرجو أن يُزيل ما بقي بين طوائف المسلمين من فرقة ونزاع في الأمور التي لم يقم عليها برهان قاطع يفيد العلم؛ حتى يعودوا كما كانوا أمةً واحدة، ويسلكوا سبيل سلفهم الصالح في التفرّغ لما فيه عزّتهم، وبذل الوسع فيما يُعلي شأنهم، والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل» ([3]).

كما كان رحمه الله ورعًا تقيًّا حريصًا على التحري في فتواه والأمانة في بيانها، والموضوعية في تكييفها، والحرص على ضبطها وتأصيلها؛ يشهد لذلك ما كان يفعله نحوها فقد كان «يقضي أيامًا كثيرةً في مراجعة فتوى واحدة، إذ كان من ديدنه أن يقرأ كتب السابقين في كل مذهب، وأن يطيل المراجعة المستأنية في الآراء المتشابهة، وأن يحاول التوفيق بين ما يتعارض من النصوص ويشتبه من الأحكام، وله مع نفسه جلسات صامتة للتفكير المتئد، ولم ينسَ أن يدرس آراء سابقيه من رجال الإفتاء، وأن يعارض وأن يحبذ وفق ما يرتئيه، وقد يضطر إلى مخالفة زميلٍ كبيرٍ له مقامه الفقهي، فيكتفي بالإشارة إلى رأيه معقبًا عليه بما فتح الله به من النظر الجديد.

ومثل هذا العقل الدائب تفكيرًا وموازنةً لا بدّ أن يرى من الأحكام في غده غير ما كان يراه في أمسه، وتلك سُنّة الفقهاء جميعًا ممّن يدأبون على البحث تطلبًا للدليل وإرضاءً للضمير، ومن السذاجة المُفرِطة أن يقوم بعض معارضيه فيصفه بالتناقض حين يرى له رأيين في الطلاق المعلّق مثلًا، ناسيًا أن المفتي الأكبر لم يُصدر الرأيين المتعارضين في زمن واحد حتى يتحقق شرط التناقض، وكم من أئمة الفقهاء في عصور الازدهار الفقهي من أفتى برأي ثم عدل عنه لوضوح أدلة جديدة كانت خافية عنه، وذلك ما يُحسب له في ميزان الاجتهاد. وقد يأتي التناقض لا من اختلاف الزمن بل من تقيد المفتي بمذهب معين حين يطلب السائل الحكم على مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك، فيحدّد إماماً بعينه، وهنا يكون المفتي مقررًا شارحًا، لا باحثًا مستنتجًا، وله أجره عند ربه أخطأ أم أصاب.

على أن نضوج الرجل الفقهي يتضح بجلاء فيما لم يسبق إليه من الآراء، حين تجد أمور مستحدثة في عالم الاقتصاد أو الطب أو الاجتماع فتتطلب رأي الإسلام في هذا المستحدث، ويضطر الفقيه إلى القياس الأصولي ليقرن النظير بالنظير» ([4]).

ولم يقتصر دوره وتميزه على إصدار الفتاوى الدينية؛ «فقد أتيح له أن يقوم على رعاية الدراسات العليا بكليات الأزهر الشريف، فيشرف على مناهجها، ويناقش رسائلها، ويحضر بعض دروسها، والدراسات العليا في عهده تتشعب في كليات الشريعة الإسلامية واللغة العربية وأصول الدين، ومعنى ذلك أن إلمام الشيخ الكبير بعلوم الأزهر جميعها يؤهّله للمناقشة الجادة في مواد هذه الكليات جميعها، فهو يناقش في أصول الفقه كما يناقش في مسائل المنطق كما يناقش في فنون البلاغة ودقائق النحو والتصريف، ولا تكاد اليوم تجد عالمًا من هذا الطراز المستوعب بعد أن شاع التخصص بمعناه الهش، لا بمدلوله الدقيق»([5]).

كما تولى الشيخ الجليل مشيخة الأزهر الشريف، في ذي الحجة من عام 1369 هـ، أكتوبر 1950م، وقد تميّزت فترة مشيخته بنشاط إصلاحي ملحوظ في التعليم الأزهري ومناهجه، حيث كان يرى أن رسالة الأزهر لا تقتصر على التعليم التقليدي، بل تشمل إعداد أبناء الأمة الإسلامية إعدادًا دينيًّا ولغويًّا يجعلهم مؤهلين لحمل أمانة الشريعة، وصيانة الدين، وحراسة النصوص الشرعية.

ومن أبرز ملامح مشروعه الإصلاحي تشجيعه لحركة التأليف والتجديد من خلال الجوائز العلمية، وتوجيهه للعلماء نحو تطوير البحوث الفقهية والتشريعية بما يواكب روح العصر، إلى جانب مراجعة المقررات الدراسية وتمييز النافع منها، والانفتاح على العلوم الحديثة من خلال دعم الابتعاث العلمي إلى الجامعات في الخارج.

كما عمل على تنظيم جامعة الأزهر بما يحقق رسالتها العلمية والإسلامية، وأنشأ مكتبة كبرى ومطبعة حديثة تُنتج مؤلفات علمية باللغة العربية واللغات الأجنبية، بهدف الرد على الشبهات، وتوسيع دائرة التثقيف الديني عالميًّا من خلال ترجمة معاني القرآن الكريم.

وقد عُرف عنه حرصه على غرس الوعي برسالة الأزهر في نفوس طلابه، وكان دائم التذكير لهم أن يتحلوا بالفضيلة والعلم، تحقيقًا لآمال الأمة فيهم.

وقد عُرف الشيخ سليم بجمعه بين غزارة العلم، ودقة الفهم، ومهارة التدريس، وحرصه على التأصيل في الفتوى بذكر أقوال الفقهاء وتحليلها واستنباط الرأي الأرجح مدعومًا بالدليل النقلي والعقلي.

وقد تميّزت فتاواه بتنوع موضوعاتها، واتزان منهجها، مع التزامٍ ظاهرٍ بالوسطية، والابتعاد عن التعصب المذهبي، فضلًا عن سعيها إلى تحقيق التوازن بين الفقه والقانون، مع إدراكه لروح الشريعة الإسلامية، وبيان أغراضها العامة.

وقد شكّلت هذه الفتاوى مرجعًا عمليًّا، نظرًا للمكانة التي حظي بها شيخنا الجليل الشيخ عبد المجيد سليم ليس فقط في مصر؛ بل في العالم الإسلامي كله، بما في ذلك المؤسسات الرسمية والهيئات الدينية والأقليات المسلمة في شتى الأقطار.

وحول فتاوى الشيخ عبد المجيد سليم جاءت هذه الدراسة المعنونة بـــ(فتاوى الشيخ عبدالمجيد سليم مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر المتوفى سنة 1954م  "دراسة فقهية مقارنة" ). تناول فيها الباحث السمات العامة لمنهج الشيخ عبد المجيد سليم الإفتائي، وقد أشار إلى أن منهج الشيخ في الفتوى يتّسم بجملة من السمات العلمية التي تعكس تكوينه الفقهي الرصين ووعيه بمقاصد الشريعة وفقه الواقع، وقد ظهر من خلال فتاواه عنايته بعرض الأقوال الفقهية والمذاهب المختلفة بأسلوب متوازن، مع بيان الخلاف الفقهي دون تعصب لمذهب معين، فعلى الرغم من أن الشيخ عبد المجيد سليم كان ينتسب إلى المذهب الحنفي، إلا أن انتماءه المذهبي لم يقيده في فتاواه ، بل تميز منهجه بالانفتاح على سائر المذاهب الإسلامية متى اقتضت المسألة ذلك، فكان يورد أقوال فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم، ويوازن بينها دون تحيز، وقد رجّح في كثير من الفتاوى تبعًا للدليل، وإن خالف المعتمد في المذهب الحنفي، وذلك انطلاقًا من التزامه بالتحقيق العلمي لا بمجرد الاتباع التقليدي، وهي سمة ما أحوجنا إليها اليوم في واقعنا المعاصر.

ويُلاحظ من خلال فتاواه الصادرة خلال أكثر من عشرين عامًا، أنه كان يستند إلى ما يثبت عنده من الدليل الصحيح، ولو من خارج المذاهب الأربعة، ما دام القول معتبرًا في ميزان الاجتهاد، ودليله ظاهر في قوته وسلامته من المعارضة.

كما تميز بمنهجٍ استدلالي دقيق يعتمد على النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، والإجماع، ويُعزز بالأقيسة، مع تعليل الأحكام على أسس أصولية واضحة، وقد استعان في كثير من فتاواه بالقواعد الفقهية والأصولية، مستشهدًا بها في تدعيم اختياراته وترجيحاته.

كما تجلّت قدرته على الاختيار الفقهي بين الأقوال بحسب قوة الدليل ومراعاة مصلحة المكلفين، مما يعكس استقلاله في النظر، وحرصه على التوسط في الإفتاء، دون تفريط أو تشدد.

وأشارت الدراسة إلى فتاوى الشيخ عبد المجيد سليم في العبادات، والتي تبين منها اتساع أفقه الفقهي، وقدرته على التعامل مع النوازل بروح اجتهادية منضبطة، وقد وافق في فتاوى العبادات المذهب الحنفي في عدد من المسائل التي استقرت فيها الأصول المذهبية، كما خالف المذهب في مسائل أخرى أدَّى فيها اجتهاده إلى تجاوز التقليد المذهبي، مراعيًا الظروف المستجدة، خصوصًا في المسائل المتصلة بأوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات الظواهر الفلكية غير المعتادة، أو في مسائل تتعلق بمشاركة النساء في الحياة التعبدية، ويبرز من مجموع هذه الفتاوى الجمع بين التزام الضوابط الشرعية، والانفتاح على مقتضيات الواقع المعاصر.

أما عن فتاوى الشيخ عبد المجيد سليم في المعاملات فبينت الدراسة قدرته على التوفيق بين المعايير الفقهية الأصيلة والواقع الاقتصادي والاجتماعي المتجدد، فقد وافق المذهب الحنفي في عدد من القضايا المتعلقة بالتصرفات المالية، كالرهون والهبات والنفقات، بينما اختار في مسائل أخرى رأيًا مخالفًا للمذهب الحنفي، يظهر فيها ميله إلى اجتهادٍ يراعي العدالة الاجتماعية، كما في مسألة المفاضلة بين الأولاد في العطية، أو في بيان ضوابط التسعير، مما يدل على وعي اقتصادي فقهي متقدم، وتوظيف مقاصدي رصين في النوازل المالية.

وفي فتاوى الشيخ عبد المجيد سليم في الأحوال الشخصية فقد تميّزت بالتأصيل الشرعي، ومراعاة الواقع لأحوال الأسرة والمجتمع، وقد جاءت فتاواه في بعض المواضع موافقة للمذهب الحنفي كالإقامة في العدة وعدد الرضعات المحرّمة، بينما مال في مسائل أخرى إلى اختيارات فقهية اجتهادية، كما في حكم زواج المحلل، وطلاق الثلاث بلفظ واحد، وميراث الإخوة مع الجد، وهي قضايا اجتهد فيها بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ الأسرة، وتقليل النزاع، وتحقيق العدالة في التوريث، مما يعكس وعيًا اجتماعيًّا متصلًا بالمستجدات المعاصرة.

وأما عن فتاوى الشيخ عبد المجيد سليم في الحدود والجنايات فالدراسة أشارت إلى تناوله في هذا الباب القضايا المتعلقة بالجنايات والحدود بما يعزز ويحقق التحري والاحتياط، فقد وافق المذهب الحنفي في فتاوى مهمة، كحكم الانتحار، وسبّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتشريح الجثة، وهي مسائل يظهر فيها تمسكه بالموقف الفقهي الموروث، لكنه في بعض القضايا الأخرى، كحكم القود في القصاص وحقيقة الخمر، خالف المذهب الحنفي، متجهًا إلى اجتهاد يراعي دقة التعريفات الفقهية وتطور الواقع، مما يدل على حضوره الاجتهادي الفعّال في القضايا الجنائية، وحرصه على تحقيق العدالة دون غلو أو تفريط.

وقد أظهرت الدراسة أن شخصية الشيخ عبد المجيد سليم لم تقتصر على البُعد العلمي والفقهي فحسب، بل اتسمت أيضًا بجملة من السمات الخُلقية والروحية التي أكسبت فتاواه وزنًا كبيرًا في البيئة العلمية والاجتماعية، وهذا لما تميز به من مسيرة علمية دالّة على سعة اطلاعه وتنوع معارفه، إلى جانب زهده وورعه واعتزازه بالأزهر الشريف وحرصه على رفع مكانته العلمية والدعوية.

كما تميز الشيخ سليم في فتاواه بقوة الرأي، فلم يكن يخشى في الله لومة لائم، وكان دائمًا معنيًّا بخدمة قضايا وطنه وأمته، وتوجيه الأمة في قضاياها المعاصرة، مستثمرًا في تحقيق ذلك منصبه في الإفتاء ومشيخة الأزهر، مما جعله شخصية بارزة لها حضورها الديني والاجتماعي والوطني.

ولقد مثّلت رؤية الشيخ الإصلاحية الشاملة امتدادًا لرسالة الأزهر العلمية العالمية، إذ كان يؤمن بدور الأزهر في نشر العلوم الدينية والدنيوية، مع الانفتاح على الثقافات الحديثة، وهو المنهج الذي ظل يدافع عنه حتى وفاته، رحمه الله.

إن هذه الدراسة الجادة تعتبر بحق إضافة إلى المكتبة العلمية، بتسليطها الضوء على إسهامات وجهود الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر في الفتوى والإفتاء، وقد قام عليها أحد أبناء دار الإفتاء المصرية، وهو الشيخ/ عبد الله عجمي حسن أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، حصل من خلالها على درجة التخصص الماجستير من كلية الآداب جامعة المنوفية، والله نسأل له دوام التوفيق والسداد.

وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.

أ.د نظير محمد عياد

مفتي الديار المصرية

رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم

 

([1]) مواقف تاريخية لعلماء الإسلام، د. محمد رجب البيومي، صـ208، كتاب الهلال، رمضان 1404هـ، يونيه 1984م.

([2]) ينظر: هيئة كبار العلماء في سير أعلامها القدامى، إعداد: لجنة علمية بهيئة كبار العلماء، 1/429، 430، مطابع الأزهر، ط:1، 1442هـ، 2021م.

([3]) مجلة رسالة الإسلام، العدد الأول، ربيع الأول 1368هـ، صـ11، 12.

([4]) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د. محمد رجب بيومي، 2/305، 306، دار القلم، دمشق، ط:1، 1415هـ، 1995م.

([5]) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، د. محمد رجب بيومي، 2/308، 309.

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 15 ديسمبر 2025 م
الفجر
5 :11
الشروق
6 :43
الظهر
11 : 50
العصر
2:38
المغرب
4 : 57
العشاء
6 :20