الإثنين 15 ديسمبر 2025م – 24 جُمادى الآخرة 1447 هـ

فقه استخدام الماء وآثاره الإقتصادية والإستراتيجية

فقه استخدام الماء وآثاره الإقتصادية والإستراتيجية

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله جل جلاله، الملك السلام، المهيمن العلام، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين ﷺ، الذي أشرق في سماء النبوة بدرًا، وأشرف على بساط الرسالة صدرًا، صلى الله تعالى عليه، وعلى آله، وأصحابه ﭫ، النجوم المشرقة بمطالع أنوار الهدى، والرجوم المحرقة لشياطين الردى، وعلى مَنْ تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان، وبعد،،،

فمما لا شك فيه أن الإسلام دين حنيف، اكتملت شرائعه واتسمت بصلاحيتها لكل زمان، وتناسبها لكل مكان، فما من واقعة إلا ولها فيه أصل، وما من حادثة إلا وترجع بجذورها إلى تعاليمه؛ لتجد موقعها، وليتأتى في ضوئه معالجتها.

    ومن تلك الوقائع والأحداث، التي نظمتها شريعتنا الغراء، بل أولتها سامق المكانة، وجليل العناية: الموارد الطبيعية، وتشريع الحفاظ عليها، آمرًا ببالغ صيانتها، محذرًا من التفريط فيها، أو العمل على إفسادها بأي شكل من أشكال التعدي، التي تؤذن بتفويت مقصودها، أو حصر مورد نفعها، أو طمس خيراتها، أو حرمان البشرية منها... إلخ. 

وكان في صدارة تلك الموارد: المياه؛ نبع الحياة ومعتمدها، وأساس البقاء فيها، والتمكن من أسبابها، وتحقيق الاستخلاف فيها.

فمما لا شك فيه أن الماء أصل الحياة، فهو أصل كل مشروب، وأهون موجود وأعز مقصود([1])، وهو من أجل نعم الله تعالى التي أنعم بها على خلقه في الدنيا، وهو كذلك من أفضل المنن التي يتفضل بها على عباده في الآخرة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} (ق:9).

وبجانب هذا؛ فالماء آيه من الآيات التي تدعوا إلى التفكير وتدفع إلى التأمل، وتحث على التدبر في كيفية الاستفادة منه في سقي الزرع، وإنبات الثمار، وإخراج ألوان منه مختلفة في الأشكال والأحجام والطعوم فضلا عن ري ظمأ العطشان قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)}. (سورة النحل).

فالله تعالى خلق الكون وجعل منه أسباب الحياة ومن بين أهم هذه الأسباب الماء فمنذ أن نشأت الحياة على وجه الأرض وهي مرتبطة بالماء ارتباطًا وثيقًا وعد الماء أهم مكون من مكوناتها، بل إن استقرار الإنسان على وجه الأرض وازدهار حضارته ارتبط بالماء بل وقامت الحضارات القديمة بفضل وجودها بجوار مصادر المياه حتى أن بعضها عرف بالمسمى المائي الذي نشأت بجواره مثل حضارة بين النهرين، وحضارة وادي النيل، وحضارة بلاد ما وراء النهر.

كما تواتر أن الحياة دبت في مكة المكرمة بعد أن تفجر بئر زمزم فيها استجابة لدعوة خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)} (سورة: إبراهيم).

وقد جاءت كلمة الماء في القرآن ثلاثًا وستين مرة، وورد معناها في مواضع شتى منها: الغيث، والمطر، والبحار، والأنهار، وغير ذلك لأهميته لجميع الكائنات الحية.

إلا أن غالب ورودها بمعنى «النعمة»، لكونه ضرورة للحياة ولجميع الكائنات الحية، والتي لا تقوم الحياة إلا به، قال تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5].

فالماء نعمة عظيمة من الله تعالى به قوام الحياة وبقائها واستمرارها، وعلى هذا فلم تكن نظرة الإسلام إلى المياه نظرة عابرة بل نظرة لها مدلول يعبر بها عن أهمية الماء وضرورته والحاجة إليه ويكفي ما جاء في التعبير القرآني الذي ربط الحياة بالماء فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30).

وقد أضفى الإسلام على هذه النعمة عناية خاصة، تتجلى في توجيهاته نحو صونها وترشيد استخدامها، بما يحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفس وحفظ البيئة والمجتمع، وتتجسد هذه العناية في النهي عن الإسراف في استخدام الماء ولو كان استخدامه في العبادات، كما في قول النبي ﷺ؛ عندما مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال: «ما هذا الإسراف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال: «نعم وان كنت على نهر جار». ([2])، وهو توجيه نبوي يعكس بُعدًا بيئيًا في السلوك الإسلامي.

وفي ظل التحديات البيئية المعاصرة، وعلى رأسها ندرة المياه وتلوثها، تصبح المحافظة على الموارد المائية واجبًا شرعيًا وأخلاقيًا وبيئيًا، يستدعي تضافر الجهود الفردية والمؤسسية، وتفعيل الوعي المجتمعي بمسؤولية الإنسان تجاه البيئة، والتزامه بالسلوك الرشيد تجاه الماء باعتباره موردًا حيويًا، وأمانةً شرعية وأخلاقية.

فلولاه ما كانت حياة، ولهذا جاءت آيات القرآن الكريم المتعلقة بالماء متعددة ومتنوعة الوصف للماء تبعًا لفوائده وأغراضه واستخداماته وكأني بالقرآن يقول للإنسان لا سيما المسلم: «انظر في نفسك وما حولك هل تجد من شيء إلا والماء أصله». ([3])

قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ۚ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۚ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت :39].

ولعظم قدر هذه النعمة فقد أمر الله تعالى بشكرها، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68-70].

فالعناية بالماء والمحافظة عليه والعمل على ترشيد استهلاكه ضرورة دينية، وضرورة حياتيه، ويؤكد على ذلك تلك الثمرات العظيمة والجليلة له في حياة المخلوقات والتي من أولاها:

أنه مصدر حياة كل شيء، فقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الأنبياء: 30)، يقول الإمام النسفي رحمه الله: «وإنما عرف الماء في قوله: «وجعلنا من الماء كل شيء حي»؛ لأنه المقصود ثم إن أجناس الحيوان مخلوقة من نفس الماء وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينهما وسائط، قالوا: إن أول ما خلق الله الماء ثم خلق النار والريح والطين، فخلق من النار الجن ومن الريح الملائكة ومن الطين آدم ودواب الأرض» .([4])

أن حياة الأرض متوقفة على وجوده، فقال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65} (النحل: 65)، والمعنى: «أنه تعالى أنزل المطر فأحيا به الأرض بعد موتها، فأخرج به النبات من بعد أن كانت الأرض ميتة أي يابسة ليس فيها نبات». ([5])

أن حياة الكائنات متوقفة على الطعام والماء هو علته فإنبات الزرع والثمار يكون به قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} (النحل: 10-11)، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «أي ينبت من الأمطار أشجارًا وعروشًا ونباتًا، تسيمون أي ترعون إبلكم، وينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك أي الإنزال والإنبات لآية أي دلالة لقوم يتفكرون».([6])

فمن خلال ما سبق: بان لنا أهمية المياه بالنسبة للإنسان والحيوان، لدرجة تكاد توجد الحياة به، وتنعدم الحياة بعدمه، فوجود الماء يعني وجود الحياة، وعدم الماء يعني عدم الحياة وصدق ربي إذ يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} (الملك:30)، يعني غار في الأرض فذهب فلم تقدروا عليه فمن يأتيكم بماء معين يعني ظاهرًا تناله الدلاء ([7]) ، لذا فإن هذه القضية تحتاج إلى أن تكون لها أولويات خاصة في حياتنا النظرية والعملية على حد سواء. ([8])

كذلك فالماء وسيلة الإنسان في النظافة والطهارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة:6)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ - أَوِ الْمُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ -، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ - أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ - حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ». ([9])

كذلك جعل الإسلام الأجر العظيم لسقي الماء؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: " كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ ". قَالَ: أَنْبِئْنِي بِأَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: " أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الْأَرْحَامَ، وَصَلِّ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " قَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ: وَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. ([10]) ، وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَقَى امْرَأَتَهُ مِنَ الْمَاءِ أُجِرَ» قَالَ: «فَأَتَيْتُهَا، فَسَقَيْتُهَا، وَحَدَّثْتُهَا بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».([11]).

ووجه الدلالة من هذه الأحاديث: «أن الله كتب لم يعطي الماء الأجر العظيم وإن كان عملا خفيفا، حتى وإن كان أمرا واجبا وللنفس فيه حظ، كما تدل هذه الأحاديث على أهمية الماء بالنسبة للإنسان في حياته». ([12])

وقد قال بعض التابعين: «من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء، وإذا غفرت ذنوب الذي سقى الكلب فما ظنكم بمن سقى رجلا مؤمنًا موحدًا أو أحياه بذلك». ([13])

فمن خلال ما سبق: يمكن القول بأن هذه الأحاديث التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيها وضوح صريح لأهمية الماء، لأنه عزا أصل كل شيء إلى الماء، وجعل سقي الماء هو وسيلة للقرب من الجنة، وجعل دخول الجنة لرجل بسبب منحه الماء لكلب قد اشتد عليه العطش، فكل هذه الأحاديث تحمل دلالة صريحة على أهمية الماء، وعلى أهمية منحه للإنسان والحيوان، وما يترتب على ذلك من أجر عظيم تكون عاقبته الجنة. ([14])

لكل هذه الثمرات وغيرها وجب المحافظة على نعمة الماء، وعدم الاعتداء عليها أو الإسراف فيها، ومن ثم قرر الإسلام مجموعة من القواعد المهمة للمحافظة على الماء، منها ما يلي:

نهى القرآن الكريم في أكثر من موضع عن الإسراف عمومًا والإسراف في المياه بوجه خاص، فقال - تعالى -: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31].

كما شاركت السنة النبوية المطهرة القرآن الكريم في الدعوة إلى المحافظة على الماء وعدم الإسراف في استهلاكه، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة». ([15])

وشددت في النهي عن الإسراف في المياه، فقد روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال: «ما هذا الإسراف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال: «نعم وان كنت على نهر جار». ([16])

دعوته صلى الله عليه وسلم إلى التعامل الأمثل مع الماء؛ فعن أنس رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمدِّ، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد».([17])، وروي أن قومًا سألوا جابرًا عن الغسل فقال: يكفيك صاع. فقال رجل: ما يكفي. فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى شعرًا منك وخير منك؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم». ([18])

نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن تلويث الماء الراكد أو الاغتسال فيه؛ فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد» ([19])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لايجري ثم يغتسل فيه». ([20]).

كما جعلت الشريعة الإسلامية حق الانتفاع بالماء مكفولاً للجميع بلا احتكار ولا إفساد؛ فهو حق شائع بين جميع البشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار».([21])

إقرار الإسلام لمبدأ «لا ضرر ولا ضرار»؛ فكل ما يلزم عنه وقوع الضرر للإنسان في الأكل والشرب، فقد نهى عنه الإسلام، ولا شك أن تلويث الماء يعد من ألوان الضرر، وغير خفي أن هذه نظرة عظيمة الشأن رفيعة القدر، إذ أن القصد منها الحفاظ على حياة الإنسان وصحته، حيث إن بوجود الماء تستمر حياته وبإفساده تنعدم حياته وتتأثر كما أن تلويثه قد يؤدي إلى هلاكه، وهذا ما يتنافى مع المقاصد الرئيسة للشريعة الإسلامية، والتي من بينها حفظ النفس الإنسانية، وكما هو معلوم فإن القاعدة الشرعية «لا ضرر ولا ضرار»، وكذا ما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وتلويث الماء والإضرار به حرام لما يلزم عنه.

نهى الإسلام عن الإفساد في الأرض، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، والتعدي على الماء والإسراف فيه يعد لونًا من ألوان الإفساد، ومن ثم وجب عدم الوقوع فيه.

وبالجملة فقضية ترشيد استهلاك المياه قضية مهمة نظرًا لأن الإسراف فيها يؤدي إلى استنزافها وإهدارها الأمر الذي يمثل خطرًا على مستقبل الموارد المائية الموجودة.

وقصارى القول: أن الماء وثيق الصلة بجميع أمور ديننا والحفاظ عليه، والعمل على استثماره وتنميته من أهم الواجبات على المسلم، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} (الملك:15)، ومن يطالع كتب السنة النبوية أو الفقه يجد أن هناك أبوابًا مخصصة للحديث عن المياه.

إن ديننا الحنيف يؤسس لعلاقة متوازنة بين الإنسان والكون، تقوم على مبدأ التكامل لا التنافر، فالإنسان في المنظور الإسلامي ليس خصمًا للطبيعة بل أمينًا عليها، مُكلَّفًا بحسن الانتفاع بمكوناتها وفق ضوابط أخلاقية وشرعية، تضمن استدامتها وصلاحها للأجيال القادمة.

فالمرء لا سيما المسلم يجب عليه أن يحافظ على المياه بشتى الطرق والوسائل حتى لا يكون من المفسدين في الأرض، ويقع تحت قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}. (الأعراف: 56).

ولما كانت قضية الماء من أخطر القضايا التي نواجهها في واقعنا، ولا أجسم من تبعاتها؛ كان من الضروري إلقاء الضوء على تلك القضية في ضوء تراثنا الإسلامي من منظور شرعي، يتأتى من خلاله تأصيلها، وبيان أحكامها المنوطة بها، ويرتسم من ورائه سبل العلاج، وسلاح المواجهة، ومنهج المقاومة.

من هنا جاءت هذه الدراسة الفقهية المتخصصة في «فقه استخدام الماء وآثاره الاقتصادية والاستراتيجية»، والتي تهدف إلى إبراز جانب من جوانب عظمة التشريع الإسلامي في تعامله مع الماء، من حيث ضبط استخدامه، وتحديد آثاره، وتقديم رؤية شرعية تسهم في حل الإشكالات المعاصرة المتعلقة به.

كما جاءت استجابةً لبيان أهمية الماء، بوصفه عنصرًا حيويًا لا غنى عنه في حياة جميع الكائنات، وفي مقدمتها الإنسان، إذ تتوقف عليه حاجاته الأساسية، من الشراب والطهارة والصحة، إلى الأمن الغذائي والاقتصادي، بل وتمتد علاقة الإنسان بالماء إلى أبعاد استراتيجية تتصل بسيادة الدول وصراعاتها.

وينطلق هذا البحث بالتأكيد على أن شكر نعمة الماء يتجلى في صيانته من التبذير والعبث، واستعماله فيما ينفع، ووجوب تجنّب تلويثه أو الإضرار به، وتقديم رؤية شرعية للمشكلات المعاصرة المتعلقة بالماء، ومقارنتها بالقوانين الوضعية، بغية الوصول إلى معالجات فقهية رصينة تُسهم في الحفاظ على مقدرات تلك النعمة العظيمة، وتحقيق العدالة، وضمان الاستدامة البيئية.

وقد سلط البحث الضوء على طهارة الماء في ذاته وصلاحيته لتطهير غيره، مستندًا إلى الأدلة الشرعية والآراء الفقهية، مع بيان أقسام المؤثرات التي تطرأ على الماء وأثرها في حكمه، وموقف الفقهاء من ماء البحر، والماء الجاري والراكد، وحدود التغير المؤثر في طهارته، ومناقشة الحديث النبوي حول بئر بضاعة، موضحًا أن طهارة الماء لا تُنقض بمجرد مجاورة النجاسة ما لم يتغير أحد أوصافه، وبيان أن الشريعة تُراعي الجوانب البيئية في أحكامها الشرعية.

فالشريعة الإسلامية أرست مبدًأ في التعامل مع الماء، يقوم على التوازن بين تحقيق الطهارة الشرعية، ومراعاة الجوانب البيئية والواقعية، دون غلو أو تفريط، وهذه الرؤية تُرسّخ في عقل المسلم أهمية نعمة الماء، وضرورة صيانتها من الفساد والتلوث، والاقتصاد في استعمالها، والوعي بأحكامها فقهًا وتطبيقًا.

وتناول البحث مواطن وجوب استخدام الماء، منها ما أجمعت عليه الأمة، كغسل الميت؛ إذ اتفق الفقهاء على أنه فرض كفاية في حق المسلم غير الشهيد، لما في ذلك من تكريم للميت وامتثال للسنّة النبوية، ومنها ما أرشدنا إليه سيدنا محمد ﷺ إلى استخدام الماء في التداوي، ويدخل في هذا الباب استعمال الماء في تطهير الجروح والتخفيف من الحمى.

ويمتدّ وجوب استخدام الماء إلى بعدٍ أوسع، إذ هو عنصر ضروري لحياة الإنسان والحيوان والنبات، مما يجعل ترشيده وعدم الإضرار به واجبًا شرعيًّا، يرتبط بمقاصد الشريعة في حفظ النفس والنسل والبيئة.

واشتمل البحث أيضًا على مبحث مهم، يدور حول دور الماء في المحافظة على كيان الدولة من جوانب متعددة، فتناول أولًا أهمية الماء في الحياة الاقتصادية، باعتباره عصبها الحيوي، إذ لا قيام للزراعة بدونه، والزراعة ركيزة من ركائز الأمن الغذائي والاقتصاد الوطني، ومن ثمّ فإن وفرة الماء وعدالته تمثلان شرطًا لازدهار المجتمعات، ومن هنا حرصت الشريعة الإسلامية على صيانة هذا المورد ومنع احتكاره، فجعلت الناس شركاء في الماء والكلأ والنار، تأكيدًا على كونه نعمة عامة لا يجوز الاستئثار بها واحتكارها.

كما سلط البحث الضوء على ارتباط الزكاة في الزروع والثمار بالماء بما يحقق العدالة الاجتماعية، إذ يترتب على وفرة الماء كثرة الإنتاج، وهذا يؤدي إلى تحقيق مقاصد الشريعة مصلحة الفقير والمحتاج، وأن أهمية الماء لا تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت أهميته ودوره إلى الميدان العسكري، حيث استُخدم كسلاح استراتيجي في الحروب، تنبهت له الشريعة وأشارت إليه النصوص.

وتناول البحث كذلك قضية المياه العابرة للحدود، مستعرضًا نماذج من الأنهار المشتركة بين الدول، مثل نهر النيل ودجلة والفرات، مؤكدًا على أن الشريعة قد قررت مبدأ الانتفاع العام بهذه الموارد، وحرّمت منع أحد من حقه فيها.

وفي الجانب البيئي، ناقش البحث المحرمات المتعلقة بالمياه، وخصوصًا مسألة تلويثها، سواء بالمجاري أو النفايات أو المخلفات الصناعية، مبينًا خطورة التلوث على الصحة العامة والبيئة، سواء في المياه العذبة أو المالحة، لما لذلك من آثار مباشرة على حياة الإنسان، خاصة في الدول التي تعتمد على تحلية مياه البحار.

وختم البحث بالتحذير من صور التلويث المتعددة للمياه، كتلويث البحار بالمواد البترولية، والتسرب الإشعاعي، وإلقاء الجيف ومخلفات المصانع، والدعوة إلى وعي شرعي وبيئي وإيجاد تشريعات رادعة تصون هذا المورد بوصفه أساس الحياة، ومقومًا من مقومات استقرار الدول والمجتمعات.

إن هذا البحث، بما يحمله من رؤيةٍ شرعية يُعد إضافةً للدراسات الفقهية المعاصرة، إذ يفتح أفقًا لتفعيل الفقه في قضايا الواقع، ويبرز قدرة الشريعة على تقديم حلول منهجية للمشكلات المعاصرة، كإدارة الموارد الطبيعية، وحماية البيئة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروات الطبيعية المشتركة.

وبعد مطالعة هذا المؤلف؛ تتأكد أهميته، وتتعين فائدته، وتتجلى بالغ الحاجة الماسة إليه، فقد اتسم بشموله، وحسن عرضه، ودقة مسائله، وانتهاجه المنهج العلمي، وفق خطوات البحث المعتمدة، مع تحقق سهولته، ويسر تناوله؛ لذا حرصت دار الافتاء المصرية على طباعته ونشرة للإفادة منه.

وختامًا أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور رمضان الصاوي نائب رئيس جامعة الأزهر للوجه البحري على ما سطره في هذا البحث، وتناوله الشامل لأبعاد الماء في الشريعة الإسلامية، ليس فقط من منظور الطهارة والعبادات، بل من زاوية تأثيره في كيان الدولة واستقرارها الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والله نسأل أن يجزيه خير الجزاء، وأن يهدينا جميعًا إلى صراطه المستقيم، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يديم علينا نعمه ظاهرة وباطنة، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أ.د/ نظــير محــمد عيَّــاد

مفتي الديار المصرية

 

[1] ) محاسن الإسلام وشرائع الإسلام للبخاري ص106، مكتبة القدس القاهرة سنة1357 هـ.

[2] ) مسند أحمد (11/637) رقم 7066.

[3] )  حق مصر في مياه نهر النيل دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي العام ص10، د/ أحمد قياتي، المصرية للنشر 2019.

[4] ) ينظر: تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، لأبي البركات النسفي (3/512) حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي، راجعه وقدم له: محيي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيب، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م.

[5] ) ينظر: تقسير يحيى بن سلام ليحيى بن سلام (2/640)، تحقيق: د/ هند شلبي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م.

[6] ) ينظر: الجامع لأحكام القرآن، تفسير القرطبي (10/82)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.

[7] ) ينظر: تفسير مقاتل بن سليمان (4/394)، تحقيق: عبد الله محمود شحاته، دار إحياء التراث – بيروت، الطبعة: الأولى - 1423 هـ.

[8] ) حق مصر في مياه نهر النيل دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي العام ص15، د/ أحمد قياتي، المصرية للنشر 2019.

[9] ) صحيح مسلم: كتاب الطهارة، بَابُ خُرُوجِ الْخَطَايَا مَعَ مَاءِ الْوُضُوءِ (1/215) رقم 244.

[10] ) مسند أحمد: (14/49) رقم (8295).

[11] ) مسند أحمد (28/386) رقم (17155).

[12] ) ينظر التنوير شرح الجامع الصغير، للأمير الصنعاني (2/92)، تحقيق: محمد إسحاق محمد إبراهيم، دار السلام، الرياض، الطبعة الأولى: 2011م.

[13] ) شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/503)، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد - السعودية، الرياض، ط:2، 1423هـ - 2003م.

[14] ) حق مصر في مياه نهر النيل دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي العام ص17، د/ أحمد قياتي، المصرية للنشر 2019

[15] ) مسند أحمد (11/294)، رقم 6694.

[16] ) مسند أحمد (11/637) رقم 7066.

[17] ) صحيح مسلم: كتاب الحيض، بَابُ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنَ الْمَاءِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَغُسْلِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَغُسْلِ أَحَدِهَمَا بِفَضْلِ الْآخَرِ (1/258) رقم 325

[18] ) صحيح البخاري: كتاب الغسل، باب الغسل بالصاع ونحوه (1/60) رقم 252

[19] ) صحيح مسلم: كتاب الطهارة، بَابُ النَّهْيِ عَنِ البوْلِ فِي المَاءِ الرَّاكدِ (1/235) رقم 281

[20] ) صحيح مسلم: كتاب الطهارة، بَابُ النَّهْيِ عَنِ البوْلِ فِي المَاءِ الرَّاكدِ (1/235) رقم 282

[21] ) مسند الحارث: كتاب الجهاد، بَابٌ فِيمَنْ أَضَرَّ بِالنَّاسِ فِي الْغَزْوِ (2/653) رقم 631

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 15 ديسمبر 2025 م
الفجر
5 :11
الشروق
6 :43
الظهر
11 : 50
العصر
2:38
المغرب
4 : 57
العشاء
6 :20