الإثنين 15 ديسمبر 2025م – 24 جُمادى الآخرة 1447 هـ

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين، وخير الخلق أجمعين، سيدنا محمَّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإن القرآن الكريم هو كلامُ الله تعالى المُعجزُ المُنزَّلُ على نبيِّه ومصطفاه سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، المُتعبَّدُ بتلاوته، المُتحدَّى بأقصرِ سورة منه، المنقولُ إلينا نقلًا متواترًا، المكتوبُ في المصاحفِ من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس.

وهو الكتاب المحفوظ؛ إذ خصَّه اللهُ سبحانه وتعالى بخصيصة توفرت له دون ما سواه من الكتب السماوية الأخرى؛ فقد تكفَّل بحفظه، فقال تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [الحجر: 9]، حفظًا في الصدور، وتدوينًا في السطور، وهو الكتاب المبين الذي: {لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ} [فصلت: 42]، وهو المعجزةُ الخالدةُ الباقيةُ إلى أن يرث اللهُ سبحانه وتعالى الأرضَ ومَن عليها، وهو حبلُ اللهِ المتينُ، والسراجُ المنير، والصراطُ المستقيم، والهادي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم.

وهو كتابُ النبوَّة الخاتمة، ولسان الدين الحنيف، وقانون الشريعة الإسلامية، ودستور الأُمَّة المسلمة، وقاموس اللغة العربية، وهو رباط بين السماء والأرض، وعهد بين الله وبين عباده، وهو منهاج الله الخالد، وهو أشرفُ الكتب السماوية.

وبالجملة: فهو كلامُ الله الذي لا يدانيه كلامٌ، وحديثُه الذي لا يشابهُه حديثٌ؛ قال تعالى: {وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثٗا} [النساء: 87]، {وَمَنۡ أَصۡدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلٗا} [النساء: 122].

فضلًا عن هذا، فهو: «المُظهِرُ لتفاصيلِ الشعائرِ الدينية، والمُفسِّر لمُشكلات الآيات التكوينية، والكاشفُ عن خفايا حظائرِ القدس، والمُطَّلع على خبايا سرائرِ الأُنس، وبه تُكتسبُ الملكات الفاخرة، وبه يتوصَّل إلى سعادة الدنيا والآخرة، كما أنه أيضًا من عُلوِّ الشأن، وسُموِّ المكان، ونهاية الغموض والإعضال، وصعوبة المأخذ، وعزة المنال القاصيةِ ونهاية النهايات النائية أعز من بَيْض الأَنُوق[1] وأبعدُ من مَناط العَيُّوق[2] لا يتسنى العروج إلى معارجه الرفيعة، ولا يتأتى الرُّقي إلى مدارجه المنيعة، كيف لا؟! وأنه مع كونه متضمنًا لدقائقِ العلوم النظرية والعملية، ومنطويًا على دقائقِ الفنون الخفية والجلية، حاويًا لتفاصيلِ الأحكام الشرعية، ومحيطًا بمناط الدلائلِ الأصلية والفرعية، منبئًا عن أسرار الحقائقِ والنعوت، مخبًرا بأطوار المُلك والملكوت، عليه يدور فلك الأوامر والنواهي، وإليه يستند معرفة الأشياء كما هي، قد نُسج على أغربِ منوال، وأبدعِ طرازٍ، واحتجبت طلعته بسبحات الإعجاز، وطويت حقائقه الأبية عن العقول، وزويت دقائقه الخفية عن أذهان الفحول، يرد عيون العقول سبحانه، ويخطف أبصار البصائر بريقه ولمعانه»[3].

وإنَّ خير ما أُنفقت فيه الأعمار، وصُرفت فيه الهمم: خدمةُ كتاب الله بمحاولة فهم معانيه، وبيانِ مقاصدِه ومراميه، واستنباط إشاراته وهداياته.

ولو توفَّر العلماء والأدباء والمفكِّرون على هذا الكتاب ما أدركوا نهاية عطائه؛ فلكلِّ جيلٍ حظُّه من العطاء بقدر استعداداته، وبقدر إِمداد الله الكريم.

ولا غرو في ذلك؛ فالقرآن الكريم مفجِّر العلوم ومنبعها، ودائرة شمسها ومطلعها، ودستور الأخلاق وعمادها، بهرت مناهجه العقول، وظهرت آثاره على كلِّ مقولٍ، قد أحكم الحكيمُ صيغته ومعناه، وقسَّمه إلى ما ينشِّط السَّامع، ويقرِّط المسامع، فكان الحال بتصديقه أنطق من اللسان، وبرهان العقل فيه أبصر من شاهد العيان. فسبحان من سلكه ينابيعَ في القلوب، وصرَّفه بأبدعِ معنًى، وأحسنِ أسلوبٍ، لا يستقصي معانِيَه فهمُ الخلق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللِّسان الطَّلق؛ فالسَّعيد من صرف همَّته إليه، والموفَّق من وفَّقه الله لتدبُّره، واصطفاه للتَّذكير به وتذكُّره[4].

والقرآن العظيم كتاب هداية، ولغةُ حياة، وقصةُ الكون من بدايته إلى نهايته، وهو معجزةُ اللهِ الخالدةُ، نكص في سبيل تحديه الإنسُ والجنُّ، وحار في وصف بيانه العلماءُ، وجرت أقلامهم تروي عجائبَه وأنواره، وإنَّ أشرفَ مهمة وأفضلَ ما ينفق في أنْفَسِ الأوقات وتفنى فيه الأعمار: دراسةُ هذا الكتاب العظيم[5].

كما أنه «الذِّكر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدِّ، ولا تنقضي عجائبُه، هو الذي لم تنْتَهِ الجنُّ إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبٗا ١ يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَآمَنَّا بِهِۖ} [الجن: 1، 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ»[6].

ولقد تصدَّى للوقوف على معانيه وكشْفِ كنوزه واستخراج دُرره، وتحصيل ثمراته، وإدراك مقاصده وغاياته، والفوز ببركاته، والتنقيب عن أهدافه -أساطينُ العلماء على اختلافِ فنونهم وتنوُّع علومهم، وتعدُّد اتجاهاتهم، وكثرةِ مقاصدهم؛ باعتبار ذلك يسهمُ في فهم مراد الله تعالى، والوقوفِ على أوامره ومعرفة نواهيه؛ فلم يحْظَ كتاب في تاريخِ البشرية بمكانة واهتمام وصرف أعمار في سبيله، كما عُنِيَ القرآن الكريم، ومن ثَمَّتَ فظهرت الكتب والمؤلفات التي مُلئ العالم بها على اتساع أرجائه تعريفًا بالقرآن الكريم وما حواه من كنوز واشتمل عليه من درر، وأُودع فيه من حِكم خاطبت العقول على اختلاف وجهاتها، وحسب مداركها وما يناسب درجتها.

فما من كلمة جاءت في النظم القرآني إلا ويعجز غيرُها من القيام بدورها على تعدُّد الألسنة واللغات، وما من أسلوبٍ ابتُني النَّظم عليه إلا كان متمكنًا في موقعه، بليغًا في مقامه، من مقتضيات حاله.

وقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لكتابه مَنْ يشتغلُ به، ويبذلُ فيه الأعمار: تفكيرًا، وتدبرًا، ونظرًا ثاقبًا، وتفسيرًا، وتأويلًا، فلم يأتِ عصرٌ من العصور إلا وتتجلى فيه المؤلفات التي عُنِيَتْ بالقرآن الكريم، وتقدم فيه الجديد بالأثواب العلمية المتنوعة، والأساليب المنهجية المتعددة.

ويأتي علمُ البلاغة كأحد أفرع علوم العربية؛ فهو منارة التذوق واستحسان الكلام، ولمَّا كان البيان وقوة فصاحة الكلام ما ضلُع قدامى العرب فيه وحذقوا، حتى جاء نبينا الكريم بتنزيل الله الحكيم كتحدٍّ لهذي القوة وتلك الفصاحة، نشأت من تدارس كلامه تعالى وكلامهم وملازمة نصوص كتابه سبحانه ونصوصهم فروعٌ تخدمُ هذا الأصل الأصيل «العربية»، وتكشف أسرار قوة الأساليب وبلاغة البيان وفصاحة النظم، وتُوازنُ وتنقح العبارات، وتَنْغُم وتترنم بمواضعِ الإعجاز، وعلم البلاغة كغيره من العلوم نشأ ومرَّ بمراحلِ تكوينٍ وتميُّز ثم فتورٍ يعقبه إقبال ونشاط وهكذا؛ كحال سائر الأشياء ما بين قوة وارتفاع، ثم ضعف وتراخٍ يتلوه علوٌّ وهمة، لكن حرص علماؤها دومًا على إعمال الفكر والتدبُّر للوصول لغاية هذا العلم وأهدافه من تحسين التواصل والاتصال اللغوي، وتكامل الإقناع والتأثير، وتنمية القدرة على تجسيد مضمون النفس وخلجات المشاعر في صور أدبية بأساليبَ بلاغيةٍ، وضبط النظم والصياغة، ورأب المعنى والسياق، والوقوف على بواطنِ مواطنِ الإعجاز القرآني والنبوي، وغيرها من أهداف هذا العلم الشريف الذي يرسم لنا أبو هلال العسكري فضله في كلمات بديعة فيقول: «أحقُّ العلوم بالتعلُّم، وأولاها بالتحفُّظ -بعد المعرفة بالله جلَّ ثناؤه- ‌علم ‌البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى، الناطق بالحق، الهادي إلى سبيل الرُّشد، المدلول به على صدق الرسالة وصحَّة النبوة التي رفعت أعلام الحق، وأقامت منار الدين، وأزالت شُبَه الكفر ببراهينها.... وقد علمنا أنَّ الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأخلَّ بمعرفة الفصاحة لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصَّه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمَّنه من الحلاوة، وجلَّله من رونق الطَّلاوة...»[7].

ومن هنا تأتي أهمية العناية بتلك المؤلفات التي تبرز طرفًا من إعجاز النظم، وترتسم أهمية الكلمة القرآنية، وتُنَوِّهُ بملامح إحكام النظم، ومظاهر ترابط عراه، واتساق لبناته، وتراصِّ عناصره، وبنيانه.

وفي طليعة تلك المؤلفات: المؤلف الموسوم بـ (من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم)، لفضيلة الأستاذ الدكتور/ سلامة جمعة علي داود، رئيس جامعة الأزهر الشريف، وعضو مجمع البحوث الإسلامية.

وقد ابتدأه بمقدمة أشاد به بقيمة جمع الآيات القرآنية ذات الصلة بموضوع واحد؛ لما لذلك من الأهمية البالغة، والمكانة التفسيرية الفائقة، فضلًا عما فيه من فوائدَ كثيرة منثورة، وعوائدَ جمَّة معقودةٍ، مرتسمًا منهجه، وطريقة عمله بإيجاز، ثم خطة مؤلفه، والتي قد انتظمت مقدمة، وثلاثة فصول.

أما الفصل الأول: فجاء بعنوان: (من بلاغة آيات الحج والعمرة في سورتي البقرة وآل عمران). وقد انعقد على مبحثين:

الأول: من بلاغة آيات الحج والعمرة في سورة البقرة، وقد تناول فيه قوله تعالى: {وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا...} الآية [البقرة: 125]، فبين أن هذا أول موضع يذكر فيه (البيت) في القرآن الكريم، معربًا عن سر التعبير به، وبيان حقيقة المثابة، وسر التنكير في قوله سبحانه وتعالى: {مَثَابَةٗ} {وَأَمۡنٗا}، وسر الجمع بينهما. ثم تطرَّق إلى الآيات المشابهة تشابهًا لفظيًّا مع الآية هنا، مبرزًا ما بينهما من فروق بيانية، وآثارٍ بلاغية، ودقائقَ معنوية.

ثم بين سرَّ كونِ أول ما ذكر في القرآن من مناسك الحج والعمرة هو الصلاة خلف مقام إبراهيم، مقررًا سِرَّ البدء به، وحقيقة تقديمه على ما عداه في مساقه.

وتناول الأمر بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود، مبرزًا سرَّ التعبير بقوله تعالى: {وَعَهِدۡنَآ}، وسر حذف متعلق الفعل في قوله تعالى: {طَهِّرَا بَيۡتِيَ}، وسبب إسناد الفعل إلى (ألف الاثنين)، وحيثية إيثار التعبير بالبيت لا بالكعبة، ومدى استجابة التعبير لمساقه.

ثم بيَّن المراد بالطائف والعاكف، متعرضًا لدلالة تقديم (الطائفين) على ما نظم في سلكه من المعطوفات، وكاشفًا عن وجه المجاز في التعبير بـ (الركع السجود) وأثر بناء صيغته في السياق.

ثم تعرض لمسألة تشريع السعي بين الصفا والمروة المدلول عليها بقوله سبحانه وتعالى: {۞إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِۖ...} الآية [البقرة: 158]، فبين سِرَّ إيثار هذا السعي في سياق الابتلاء، مصورًا أثر تقديم الصفا على المروة في النظم، ومبرزًا معنى الشعائر، ومجليًا بلاغة التعبير بنفي الإثم مرة، ونفي الجناح أخرى، وحقيقة الفعل {يَطَّوَّفَ}، والمراد بالتطوع في نظم الآية الكريمة، وسر التنكير في قوله: {خَيۡرٗا}.

وتناول عنوان الأهلة مواقيت للناس والحج؛ فبين سياق الآية الكريمة، وتعرض لقضية النهي عن إتيان البيوت من ظهورها مسجلًا نمطًا عجيبًا من النظم القرآني، وتناول الفرق بين تفسير البر في الآية وتفسيره في تحويل القبلة.

ولا يخفى أنه قد أماط اللثام عن سر الاعتراض بآيات قتال المشركين عند المسجد الحرام ملقيًا الضوءَ على السمت الخاص لآيات قتال المشركين هنا عن جميع آيات القتال. وقد تخلَّل ذلك بيانُ حقيقة المواقيت، وسر إطلاقها عن الأعمال المؤقتة.

هذا، وقد سجل في تناوله للآية خصائصَ الدرس البلاغي، وبليغ أثره في النظم القرآني.

ثم تطرَّق إلى حكم المحصر والمتمتع بالحج والعمرة، والمناسبة بين الإحصار والتمتع، مؤكدًا أن الآية لم تُعْنَ بتفاصيلِ كيفية إتمام الحج والمرة؛ فهي مجملة، وقد عُنِيَتِ السُّنة النبوية بتفصيل ذلك الإجمال على أتمِّ وجهٍ، وأبْلغِ بيانٍ.

وقد أفصح عن أسرار تقديم حكم المحصر على ما بعده من أحكام الحج، مُبيِّنًا حقيقةَ الإحصار، وسر بناء الفعل للمفعول، ودلالة تقيده بـ (إن) الشرطية، حيث قيد مقابله وهو {أَمِنتُمۡ} بـ (إذا).

وأوغل في بيان سر التعبير بالفعل {ٱسۡتَيۡسَرَ} في النظم، وقد تعرض لسر التعبير بالحلق دون التقصير... وغير ذلك من تتمات بلاغية تتعلق بمفردات الآية القرآنية، وأسرارها البيانية.

ثم تطرق للمناسبة بين الإحصار والتمتع، مبينًا ما بين الفعل {أُحۡصِرۡتُمۡ}، و{أَمِنتُمۡ} من الطباق، ومقررًا مواطنَ الحذف الكثيرة المتواريةَ خلفَ الألفاظِ في قوله تعالى: {فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖ فِي ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡ} [البقرة: 196].

ثم تناول الميقات الزماني للحج وذكر بعض المنهيات والمأمورات، بمقتضى قوله تعالى: {ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞ...} الآية [البقرة: 197]، وقد تطرق لمساق الآية، وتعرض لسر إيثار جمع القلة هنا في {أَشۡهُرٞ}، وحقيقة الفعل {فَرَضَ} وسر إسناده إلى ضمير الحاج، وسبب إظهار الحج في موضع الإضمار، كما شرع في بيان المراد بالنفي في قوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّ}، وعلام يدل نفي الجنس هنا، مقررًا القراءات الواردة في المفردة القرآنية.

وقد بين سرَّ نفي الجدال بـ (لا)... وغير ذلك من مباحثَ بلاغيةٍ كثيرة اشتملت عليها الآية القرآنية، سواء فيما يتعلق بالمباحث اللفظية، أو بالقضايا الأسلوبية.

وعُني عنايةً خاصةً بقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰ} مسجلًا ما فيه من فرائدَ قرآنية، وما تلوح به من آثار تفسيرية وبلاغية.

ثم عرض للإفاضة من عرفات، والأمر بذكر الله تعالى عند المشعر الحرام، مقررًا ما في ذلك من دروس ومواعظَ، وحكم وأسرار.

وأفرد عنوانًا للفرق بين نفي الجناح بـ (لا) النافية للجنس، وبـ (ليس) منوهًا بما في ذلك من أسرار بلاغية، ورسائلَ بيانية.

وانتقل إلى قضية مهمة، وهي السرُّ في أن الآية لم تصرح بالوقوف بعرفات مع أنه الركنُ الأعظم للحج! ثم بيان الحكمة في أن الآية لم تذكر مزدلفة باسمها، بل بجزء موجود فيها، وهو (المشعر الحرام).

وبين ضمن ذلك أسرار الفنون البلاغية من الحذف، والاستعارة، والمجاز... وغير ذلك، وما يستتبعه الأثر البلاغي من تحقيق رسائلِ البيان لمفردات القرآن.

وأظهر قانونًا مهمًّا من قوانينِ التأويل، مقررًا غفلة الكثيرين من أرباب الأقلام عنه.

ثم تناول الأمر بذكر الله سبحانه وتعالى والدعاء عند قضاء المناسك، وتعرض لمسألة الأمر بذكر الله تعالى أيام رمي الجمار {۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖ} [البقرة: 203]، وسر التعبير بجمع القلة في {مَّعۡدُودَٰتٖ}، وسر ذكرها بعنوان العددية لا المعلومية.

وشرع في التعجل والتأخر في النفرة من (منى)، مصداقَ قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ...} الآية. فأماط اللثام عن سر التعبير بـ {تَعَجَّلَ}، وحذف مفعوله، وتقديم التعجيل... إلخ.

ومن ثم فقد تناول كل آيات الحج والعمرة في نظم السورة مستخلصًا منها مواقعَ الموعظة، وأبلغ النِّكات، وأعظم الرسائلِ، مقررًا في ضوئها وقع الدرس البلاغي، ومسجلًا عظيم أثره في السياق القرآني.

ثم جاء المبحث الثاني بعنوان: (من بلاغة آيتي الحج في سورة آل عمران)، وقد صدره بتساؤل: ما سرُّ ذكر فرضية الحج على الناس في سورة آل عمران؟ ثم عرج على فرائدِ السياق، وتفسير الاستطاعة في الحج، متعرضًا لأبرز الفروق بين آيات الحج هنا وغيرها من السياقات المذكورة في سورة البقرة وغيرها.

وأما الفصل الثاني: فعنوانه: (من بلاغة آيات الحج والعمرة في سورة المائدة). وقد بين فيه ملامح انفرادات سورة المائدة، وتعرض للتوطئة بذكر حكم قتل الصيد للمحرم في فاتحة السورة الكريمة، وقدم تحليلًا موجزًا لفاتحتها، منوهًا بفصاحتها، وكثرة معانيها مع قلة ألفاظها.

ثم انتقل إلى قضية حرمة قاصدي البيت الحرام، وحرمة الزمان والمكان والهدْي والصيد المذكورة في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ...} الآية [المائدة: 2].

وقد ألقى الضوءَ على سر النداء بعنوان الإيمان، وحكمة التعبير بـ {شَعَٰٓئِرَ} وإضافتها إلى اسم الجلالة، وإسناد التحليل إلى ضمير المخاطبين، والمراد بالشهر الحرام، وسر التعبير بالبيت الحرام عن الكعبة، وموقع النداء عمومًا، وما يحققه من الاعتراض المقرر لما قبله، والممهد لما بعده... إلخ.

وقد تناول كل لبنة قرآنية في نظم الآيات كاشفًا عن حقيقتها، ومبرزًا بلاغة التعبير بها، ومقدمًا طرفًا من حقيقة إيثارها في مساقها.

وقد استخلص منها أعجب مواقع الاعتراض في القرآن الكريم، وأثره بمقتضى لسانه العربي المبين.

ثم انتقل إلى سياق آيات الحج والعمرة في آخر السورة، فذكر توطئة لتفصيل ما يَحِلُّ للمحرم من الصيد وما يحرم، بقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ...} الآية [المائدة: 94]، مبرزًا في تناوله سر النداء بعنوان الإيمان، وحقيقة الابتلاء في النظم، وتنكير كلمة (شيء) في ضوء نصوص أعلام التفسير وأرباب صنعة البيان، مبينًا معنى (الصيد)، وسر التعبير به عن اسم المفعول، وما فيه من مجاز مرسل، مقررًا أثره في النظم، وبلاغته التي تبرز اتساقه مع المقام بما لا يخفى.

ثم تناول جزاء من قتل الصيد وهو مُحْرم، ثم تفصيل ما يَحِلُّ للمُحْرم من الصيد وما يحرم، مبينًا ما في السبك القرآني من أسرارٍ بلاغية، ونكات بيانية تشهد بكونه معجزًا من رب البرية، وانتهى بحسن الختام مسجلًا الكلمات الجامعة.

وعليه فقد تناول كل آيات الحج والعمرة في نظم سورة المائدة، مختتمًا بمواقعِ الموعظة في آيات الحج الواردة في سياقها.

وأما الفصل الثالث: فعنوانه: (من بلاغة آيات الحج والعمرة في سورة الحج).

وقد أعرب عن فلسفة تسمية السورة باسم فريضة الحج، وقرر مناسبة آيات الحج لمطلع السورة، وتعرض للسياق القريب لآيات الحج في السورة.

وقد تحدث عن مسألة كون الصدِّ عن سبيل الله والمسجد الحرام مدخلًا إلى ذكر أحكام الحج. وقد أظهر في ثنايا ذلك مدى مناسبة كل لفظ في نظم الآيات لسياقه، سواء أكان القريب، أم البعيد.

وقد عرج على قضية مهمة، وهي خصوصية الرسم العثماني، وما فيه من أسرار تتبع الإعجاز القرآني، وقد تجلى ذلك في حذف الياء من قوله تعالى: {وَٱلۡبَادِ}، فأعرب عن سر هذا الحذف في السياق، ومناسبته للمقام.

وعرض لقضية بيان موضع البيت للخليل صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله تعالى: {وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ...} الآية [الحج: 26]، ثم تناول أمر الخليل صلى الله عليه وآله وسلم بأن يؤذن في الناس بالحج، وسر التعبير بالأذان، والتعبير عن المشاة بالرجال، وتقديم الراجلين على الراكبين، ووصف الراحلة بالضمور، وسر التعبير بالفج، ومدى تساوقه مع مقتضى مقامه، وأهداف حال سياقه.

ثم بين مناسبة الآية لمقصد السورة، متعرضًا لطرف من منافع الحج، وملقيًا الضوء على سر التعبير بالشهود عن الحضور في قوله: {لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ...} الآية [الحج: 28]، وسخاء التعبير بكلمة {مَنَٰفِعَ}، وسر تقديم الذبح على الحلق والطواف، وكشف عما في كلمة (بهيمة) من أسرار تذكر بنعمة البيان، وتناول الأمر بإطعام البائس والفقير، فعرض لسر التعبير بالإطعام، والجمع بين وصفي البؤس والفقر، مقدمًا وجهًا من لطائف فقه الإمام الشافعي المتعلقة بنظم الآية الكريمة.

ثم بين المراد بقضاء التفث، وحقيقة معناها، مقررًا أنها من فرائد القرآن الكريم، ومن مبتكراته.

ثم شرع في الأمر بالوفاء بالنذور، وما يوحي به من دلالات بلاغية، ودقائقَ بيانية، متعرضًا لسر تقديم الأمر بالوفاء بها على الأمر بالطواف، ومقررًا المناسبة بين الطواف والوفاء بالنذور.

ثم عرج على سر وصف البيت بالعتيق، وإبداع الفاصلة القرآنية في نظمها.

وانتقل إلى الحج وتعظيم حرمات الله تعالى، بقوله تعالى: {ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ...} الآية [الحج: 30].

ثم بيَّن سرَّ تقديم الأمر باجتناب ما حرم الله تعالى من الأنعام على الشرك به تعالى، معلنًا أثر ذلك في النظم.

كما سجل المناسبة بين قول الزور والإشراك بالله تعالى. وبيَّن سرَّ تشبيه المشرك بمن خرَّ من السماء، مؤكدًا أن ذلك من فرائد القرآن الكريم.

ثم عرج على حقيقة تقوى القلوب معلنًا أن هذا التعبير لم يرد إلا في هذه الآية على كثرة مجيء التقوى في القرآن الكريم.

وأفرد عنوانًا تحدث فيه عن تآخي المفردات والجمل في النظم.

ثم شرع في الحديث عن المتواضعين وصفاتهم، يريد قوله تعالى: {وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ} [الحج: 34]، منوهًا ببلاغة أسلوب الاعتراض الذي ابتني عليه النظم الكريم، ثم بين ترتيب صفات المخبتين كاشفًا عن مناسبتها لمقام الحج.

ثم تعرض لختام آيات سورة الحج في السورة بدءًا من قوله تعالى: {وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ...} الآيات. فقرر ما فيها من مباحثَ تتعلق بالمعاني والبيان، وأثر ذلك في نظم القرآن.

وليس بخافٍ أنه قد أصَّلَ فيه من القضايا البلاغية في سياقاتها القرآنية، فتعرض لبلاغة الكلمة، وكشف عن سر إيثارها في مقامها، ودلائل بلاغتها في سياقها.

وجدير بالذكر: أن هذا المؤلف ينمُّ عن عقلية علمية، وقريحةٍ بلاغية، قد جالت في السياقات القرآنية فأدْلَتْ بدلوها، وجادَتْ بعطاءاتها، فقررت جملةً من الدقائقِ التي قلما تجتمع في مكان واحد، وسطرت من البيان نفائس عزَّ مَنْ اهتدى إليها.

والناظر في هذا المؤلف يرى جملةً من الأساليبِ البلاغية قد وظفت في سياقها، لا سيما أسلوب التجريد، والتشابه، والإيجاز، والاستطراد، والاعتراض... إلخ، فقد انطوى هذا السِّفْر على كثير من أساليبِ علوم البلاغة الثلاث: المعاني، والبيان، والبديع، وامتاز بتنزيلها على النظم القرآني، والإفادة منها في ميدانه المقامي الذي بلغ من درجات البلاغة المنتهى، ومن مدارج الإعجاز البياني الغاية.

وقد قدم جملة من القضايا والمسائل التي ينبو المقام عن تفصيلها؛ لكثرة ما فيها من دروس بلاغية عميقة، ودقائقَ بيانية فريدة، ونكات تفسيرية عظيمة.

وقد عُنِيَ مؤلفه بالمفردة القرآنية أيما عناية؛ فوجهها في نظمها، ووظفها في سياقها، وقرَّر ملامح استجابتها لمقامها، وشيَّد دعائم بلاغتها، وأقام ركائز إعجازها، بصورة تكشف عن غزارة العلم ودقَّة الفهم وجودة الاستنباط وجميل التوجيه.

فاللهَ العظيمَ أسأل أن يجزيَ صاحبَه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء، وأن يجعلَ هذا العمل في ميزان حسناته؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه وهو تعالى حسبي ونعم الوكيل.

هذا، وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أ.د نظير محمد عياد

مفتي الديار المصرية

 رئيس الأمانة العامة
لدور وهيئات الإفتاء في العالم



 

 

[1] الأَنُوقُ: الرَّخَمة، وَقِيلَ: ذَكَرُ الرَّخَمِ. وَفِي الْمَثَلِ: أَعزُّ مِنْ بَيْضِ الأَنُوق لأَنها تُحْرِزه فَلَا يَكَادُ يُظْفَر بِهِ لأَن أَوْكارها فِي رؤوس الْجِبَالِ والأَماكن الصعْبة الْبَعِيدَةِ. (لسان العرب: 10/10) دار صادر- بيروت، الطبعة: الثالثة - 1414 هـ.

[2] قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: العَيُّوق نَجْمٌ أَحمر مُضِيءٌ فِي طَرَفٍ المَجَرَّة الأَيمن يَتْلُو الثُّرَيّا لَا يَتَقَدَّمُهُ. (لسان العرب:10/280).

[3] تفسير أبي السعود (1/4)، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

[4] البرهان في علوم القرآن، الإمام الزركشي، (1/4)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، ط:1، 1376هـ - 1957م، بتصرف.

[5] الإعجاز البياني في القرآن الكريم عند بديع الزمان سعيد النورسي، لطيفة الفارسي، صـ11، دار سوزلر للنشر، 1430هـ/2009م.

[6] سنن التِّرمذيِّ 5/172، حديث رقم (2906)، باب ما جاء في فضل القرآن.

[7] الصناعتين صـ 1.

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 15 ديسمبر 2025 م
الفجر
5 :11
الشروق
6 :43
الظهر
11 : 50
العصر
2:38
المغرب
4 : 57
العشاء
6 :20