البابية والإسلام

البابية والإسلام

تصدير فضيلة الأستاذ الدكتور:
علي جمعة محمد

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على سنته واهتدى بهداه وبعد،
لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم ليكون كتابَ هدايةٍ ورحمةٍ للعالمين، قال تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الأنعام: 155]. وهو في الوقت ذاته معيارُ ومحلُّ اختبارٍ للمكلفين، فليس كل من سمعه اهتدى به؛ بل اتبعه أناس وأعرض عنه آخرون ليَمِيزَ الله الخبيث من الطيب، فالقرآن واحد ولكن القابليات تختلف في تلقيها لأنوار ذلك الكتاب العظيم، لذا فالمشكلة في المتلقِّي وليست في القرآن: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ [سورة البقرة: 26].

وقد بيَّن لنا القرآن الكريم أن السمة الأصيلة للأديان التي أرسل الله تعالى بها الرسل هي الإيمان بالله وحده لا شريك له، مع الجزم واليقين باليوم الآخر، في إطار من التشريعات والقيم التي تحافظ على الإنسان وما حوله في الكون، وهذا ما نص عليه قول الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة: 62].

وبهذا المعيار الرباني وذلك الميزان القرآني يمكن لكل ذي بصيرة وفطرة سليمة أن يدرك حقيقة الأقوال والادعاءات والفِرَق التي تحاول أن تتستر وراء الأديان السماوية وتدَّعي أنها خرجت من رحمها وأنها من أبناء جلدتها وتتشح بعباءتها.

وهناك أسباب عدة دعت هذه الفِرَق للبعد عن تعاليم صحيح الدين، بل وتحريف نصوصه وفهمها على غير الوجه الذي تتحمله، وبغير ما أجمعت عليه الأمة، فضلا عما استقر عليه علماؤها وارتضاه مجتهدوها. ويمكن إرجاع تلك الأسباب إلى أربع وهي: الجهل، واتباع الهوى، والغرور بالنفس، والرغبة الجارفة في السير وراء المصلحة المادية الشخصية وحدها، دون اعتبار لقيمة روحية أو مصلحة عامة.

وإن من تمام نعمة الإسلام العظمى ووجوب الحمد عليها أن الله تعالى جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل عن الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال جاهل قد هَدَوْه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين.

وقد شهد تاريخ الإسلام لأولئك الرجال الأفذاذ الذين نافحوا عنه فردُّوا كيد الكائدين، وفرقوا للناس بين المخلصين والمنافقين المدَّعين، ولم يَخْلُ زمانٌ من هؤلاء العلماء المخلصين، وكان للأزهر ورجاله قصب السبق في هذا المضمار، فما من زائغ إلا وفَوَّقوا إليه سهام الحق، وبينوا حِيَل المارقين في تلبيس الكذب بالصدق.

ومن هؤلاء الذين يفخر المسلمون بجهودهم في هذا السياق الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر الشريف الذي تناول في رسالته للدكتوراه دراسة شاملة وشافية عن إحدى الفرق التي ظهرت في القرن الثالث عشر الهجري الموافق للقرن التاسع عشر من الميلاد، وهي نحلة «البابية» التي أَطَلَّتْ برأسها على الشرق بعد ميلادها غير الشرعي في بلاد فارس، فاغتر بها بعض من لم يحيطوا بالشريعة من ناحية، ولم يدركوا الهدف الحقيقي من وراء تلك النحلة من ناحية أخرى، فسخَّر الله تعالى ذلك العالِم الجليل ليبين للناس حقيقة تلك الفرقة، وأصولها، والكتب التي ألفها متولي إثمها وهو الميرزا علي محمد الملقب بالباب، ثم ما لبث الشيخ تاج أن أتى على بنيانها الزائف بمعاول الحق ومنهج أهل الصدق حتى كشف أمرها وأزاح الستار عن أهدافها الحقيقية التي قد يجهلها بعضهم أو يغتر بمظهرها آخرون، وخلَص الشيخ إلى أنه لا علاقة بين هذه الفرقة المنحرفة والإسلام.

لقد ظهرت البابية -مثل غيرها من الفرق التي خلعت ربقة الإسلام- فادَّعت أنها الفرقة التي بيدها سعادة الناس ونجاتهم مما هم فيه تحت وطأة الظلم والاستبداد والفقر والجهل، غافلين عن طريق أهل الحق الذين يرون أن الخلاص دائمًا ليس في شخص أو بضعة أشخاص، وإنما يأتي ذلك من خلال منهج حكيم، وقيم عليا، ومبادئ سامية، ولا تتوفر كل هذه المقوِّمات إلا في الأديان السماوية، وقد بلغت ذروتها في الدين الإسلامي الحنيف بمصدريه الرئيسين: القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية الشريفة.

ولذلك كانت وظيفة العلماء المخلصين -ولا زالت- أنه إذا ظهرت فرق أو حركات ترتبط بشخص تُمجِّده وتصل به إلى أنه المخلِّص لهذا العالَم، ساعتها ينبري العلماء إلى إظهار وإشاعة القاعدة التي سُقْناها، وهي: أن العبرة بالأساس في المنهج، بقواعده ومبادئه وقِيَمه ومقاصده، وليس بالأشخاص فحسب، ممتثلين لقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [سورة الزخرف: 43].

وأخيرًا... فإن هذا الكتاب يكتسب أهمية كبيرة باعتبارات عدة، منها أهمية موضوعه؛ إذ لا يزال حفنة من الناس يعتقدون بصحة مذهب البابية ويدافعون عنه دون أن يقفوا على حقيقة تلك النحلة وأساس وجودها وغايتها، ويزداد الكتاب ثِقَلا أنه دراسة جادة في صميم عقيدة البابية ومن خلال كتبها وحياة المتصدرين فيها والمؤسسين لها، فهي دراسة في تلك العقيدة وليست حولها، والسمة الثالثة التي تزيد من قيمة هذا الكتاب أنه جاء على يد متخصص عالم جمع بين العلوم النقلية والعقلية، فضلا عن اطِّلاعه الواسع على الثقافة الغربية، فاتسمت الدراسة بالمنهجية والعمق والشمول، رحم الله الشيخ الدكتور عبد الرحمن تاج، ونفع بكتابه، وجعله مشعلَ نور لكل متلمس حقٍّ يبحث عن الحقيقة ويبتغي راحة القلب، وطمأنينة النفس، وسلامة الفكر، وسعادة الدارين.

كما نتقدم بالشكر لكل من الدكتور أسامة عبد الجليل في قسم الترجمة الفرنسية بدار الإفتاء المصرية والذي بذل مجهودا كبيرا في ترجمة النص الفرنسي إلى العربية، وللدكتور فاروق طنطاوي رئيس قسم الترجمة الفرنسية بدار الإفتاء المصرية الذي قام بمراجعة الترجمة للكتاب.
والحمد لله في الأولى وفي الآخرة على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.

أ.د/ علي جمعة محمد
غرة رمضان سنة 1431هـ

 

 

تصفح الكتاب

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 14 سبتمبر 2025 م
الفجر
5 :11
الشروق
6 :39
الظهر
12 : 50
العصر
4:21
المغرب
7 : 2
العشاء
8 :20