ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما طُلِب منه التسعير: «إنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ..» إلخ الحديث؟ وهل هناك في التسعير ما هو ظلم محرّم، وما هو عدل جائز؟ وما هو رأي الشرع في مسألة السعر أو التسعيرة؟ وهل رفع السعر حرام أم جائز؟ وإذا كان في التسعير مصلحة عامة للأمة فهل يجوز شرعًا لولي الأمر أن يضبط الأسعار بنفسه؟ وما هي حدود تدخله؛ هل ذلك مطلَق له في أي وقت، أم أن تدخله في حالة الخلل فقط؟
أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأسلوب البليغ أن يلفت أنظار الصحابة الكرام وينبّههم على أن غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى، وأن عليهم اللجوء إلى الله تعالى ودعاءه، مع اتخاذ الأسباب الممكنة، والسبل المتاحة، والوسائل المقدورة، وحتى لو فُهِم من الحديث امتناعُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير فإن هذه واقعةُ عينٍ جاءت على حال معينة لها ظروفُها وملابساتُها، وقد تقرر في قواعد الأصول: أن وقائع الأعيان لا عموم لها.
فامتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير في هذه الحالة لا يعني أنه ممنوع مطلَقًا؛ فإن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، وهذا الفهم هو الذي جرى عليه عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء المتبوعين وهو المفهوم من كلامهم؛ وهو أن مسألة التسعير ترجع إلى مراعاة المصلحة، وأنها من قبيل السياسة الشرعية التي تُقَدَّم فيها المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فإن كانت المصلحة لا تتم إلا بالتسعير: سعَّر ولي الأمر تسعيرًا عادلًا يراعي فيه مصلحة العامة، بل وله أن يعزِّر من يخالف ذلك؛ لا سيما وأن سوق البيع والشراء أصبح في العصر الحاضر منظومة مرتبطة باقتصاد الدولة واستقرارها.
المحتويات
روى الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "السنن" عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلا السِّعْرُ؛ فَسَعِّرْ لَنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ؛ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ»، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حِبّان، وإسناده على شرط الإمام مسلم كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني.
ومعنى هذا الحديث: لفت نظر الصحابة إلى نسبة الأفعال حقيقةً إلى الله تعالى؛ كما في قوله عز وجل: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]؛ فإنهم لَمّا اشتكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلاءَ السعر نبّههم على أن غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى، وأرشدهم بذلك إلى التعلق بالله تعالى ودعائه؛ كما جاء في الرواية الأخرى بسند حسن عند أبي داود في "سننه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعِّرْ لَنَا، فقال: «بَلْ أَدْعُو».
وبذلك يُعلَم أن هذا الحديث لا يدل على تحريم التسعير؛ فإنه تنبيه على اللجوء إلى الله تعالى في الأزمات، مع اتخاذ الأسباب الممكنة، والسبل المتاحة، والوسائل المقدورة، وحتى لو فُهِم من الحديث امتناعُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير فإن هذه واقعةُ عينٍ جاءت على حال معينة لها ظروفُها وملابساتُها، وقد تقرر في قواعد الأصول: أن وقائع الأعيان لا عموم لها، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "قَضَايَا الأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الاسْتِدْلال"؛ فهذا الحديث لَمّا كان واردًا على قضية عين لم يصح حملُه على عمومه.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (28/ 76، ط. مجمع الملك فهد): [ومَن منع التسعير مطلقًا محتجًّا بهذا الحديث فقد غلط؛ فإن هذه قضية معينة وليست لفظًا عامًّا، وليس فيها أن أحدًا امتنع من بيعٍ يجب عليه، أو عملٍ يجب عليه؛ أو طلبَ في ذلك أكثرَ من عوض المثل] اهـ بتصرف يسير.
كما أن امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير في هذه الحالة لا يعني أنه حرام مطلَقًا؛ فإن التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز؛ كما يقول الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 76): [فإذا تضمن ظلمَ الناس وإكراهَهم بغير حق على البيع بثمن لا يرضَوْنه، أو مَنْعَهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومَنْعَهم مما يَحرُم عليهم مِن أخذ زيادةٍ على عِوَض المثل فهو جائز، بل واجبٌ] اهـ.
ومعنى ذلك: أن امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير هو من تصرفاته بمقتضى الإمامة والسياسة الشرعية؛ حيث راعى النبي عليه الصلاة والسلام المصلحةَ التي كانت تدعو إليها تلك الظروف حينئذٍ، وكان امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير معلَّلًا بقوله: «وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ»؛ أي: أنه راعى ألا ينال أحدًا شيءٌ من الظلم، بائعًا كان أم مشتريًا، وذلك بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد بغير حق، يكون أيضًا بحماية المشتري من غبن البائع له واستغلال ضرورته وحاجته، كما في حالة الاحتكار التي تستدعي التسعير لمقاومة ظلم المحتكرين، ولو كان هذا الغلاء مسبَّبًا عن ظلم الباعة من جهة أو المشترين من جهة أخرى لسعى صلى الله عليه وآله وسلم في رفع هذا الظلم بالأخذ على يد الظالم وإلزامه بحد لا يتجاوزه؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» رواه ابن ماجه في "سننه".
الدليل على ذلك: أن معنى التسعير موجود في الشرع الإسلامي؛ كما في الشفعة، وكما في سِرَايَة العتق في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المروي في "الصحيحين": «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ». فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تقويم جميع العبد بقيمة المثل هو حقيقة التسعير كما يقول ابن تيمية، وهو أصلٌ في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة، وإذا كان هذا واجبًا لمصلحة العبد الخاصة وهي تكميل عتقه فهو أوجب وأولى في المصلحة العامة التي تكون حاجة الناس إليها أعظم؛ كالطعام والشراب واللبس وغير ذلك مما فيه قوام عيشهم وعماد حياتهم.
وهذا الفهم هو الذي دلّ عليه فعل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين:
فروى الإمام مالك في "الموطأ": أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ رضي الله عنه وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: "إِمَّا أَنْ تَزِيدَ في السِّعْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُرْفَعَ مِنْ سُوقِنَا".
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار" (6/ 413، ط. دار الكتب العلمية): [وقال الليث بن سعد، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد: لا بأس بالتسعير على البائعين للطعام إذا خيف منهم أن يُفسِدوا أسواق المسلمين ويُغلوا أسعارَهم، وحق على الوالي أن ينظر للمسلمين فيما يُصلحهم ويعمُّهم نفعُه.
قال الليث: وقال ربيعة: السوق موضع عصمة ومنفعة للمسلمين؛ فلا ينبغي للوالي أن يترك أهل الأسواق وما أرادوه من أنفسهم إذا كان في ذلك فساد لغيرهم، ولو كان في ذلك إخراجهم من السوق وإدخال غيرهم فيه، والقيمة حسنة (أي: تقويم السعر وتحديده)، ولا بد منها عند الحاجة إليها مما لا يكون فسادًا ينفر به الجالب ويمتنع به التاجر من البيع؛ لأن ذلك أيضًا بابُ فسادٍ لا يدخل على الناس ولم يكن رأي الوالي إقامة السوق وإصلاحها، قال ربيعة: وإصلاح الأسواق حلال] اهـ.
وقال أيضًا (8/ 373): [وقد قال مالك: لا يجوز احتكار الطعام في سواحل المسلمين؛ لأن ذلك يضر بهم ويزيد في غلاء سعرهم، ومن أضر بالناس حيل بينه وبين ذلك. وقال أيضًا: لا يُخرَج الطعام من سوق بلد إلى غيره إذا كان ذلك يضر بأهله، فإن لم يضر بهم فلا بأس أن يشتريه كلُّ من احتاج إليه] اهـ.
وقال الإمام الباجي المالكي في "المنتقى شرح الموطأ" (5/ 18، ط. مطبعة السعادة): [وروى أشهب عن مالك في "العتبية" في صاحب السوق يُسعِّر على الجزّارين: لحم الضأن ثلث رطل، ولحم الإبل نصف رطل، وإلا أخرجوا من السوق. قال: إذا سعَّر عليهم قدرَ ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أن يقوموا من السوق.. ووجه قول أشهب: ما يجب من النظر في مصالح العامة، والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع، وإنما يُمنَعُون مِن البيع بغير السعر الذي يحده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة] اهـ.
ونصوص الفقهاء في ذلك تدور على أن هذه المسألة ترجع إلى مراعاة المصلحة، وأنها من قبيل السياسة الشرعية التي تُقَدَّم فيها المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن الحرمة في التسعير إنما هي في حالة انعدام المصلحة الشرعية منه.
قد نص الفقهاء على بعض الحالات كمثال لِمَا يكون للحاكم فيه حقُّ التسعير، بل يجب عليه التدخل إذا اقتضت ذلك مصلحة الناس، ومن هذه الحالات:
1- تعدي أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا:
وفي هذه الحالة صرح فقهاء الحنفية بأنه يجوز للحاكم أن يسعر على الناس إن تعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديًا فاحشًا، وذلك بعد مشورة أهل الرأي والبصيرة، وهو المختار وبه يُفتَى؛ لأن فيه صيانةَ حقوق المسلمين عن الضياع ودفعَ الضرر عن العامة.
ففي "الأشباه والنظائر" للعلامة ابن نُجَيم من الحنفية (ص: 74-75، ط. دار الكتب العلمية): [يُتحمَّل الضررُ الخاص لأجل دفع الضرر العام، وهذا مقيد لقولهم: الضرر لا يُزال بمثله، وعليه فروع كثيرة؛ منها.. التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش] اهـ.
2- حاجة الناس إلى السلعة:
وفي هذا المعنى قال الإمام المرغيناني من الحنفية في "العناية شرح الهداية" (10/ 59، ط. دار الفكر): [لا ينبغي للسلطان أن يُسعِّر على الناس إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة] اهـ.
كما اشترط المالكية كونَ الإمام عدلًا وأن يرى فيه مصلحة؛ كما في "المختصر الفقهي" للإمام ابن عرفة (5/ 349، ط. مؤسسة خلف).
قال العلامة الأبي المالكي في "إكمال إكمال المعلم في شرح مسلم" (4/ 304-305، ط. مطبعة السعادة 1328هـ): [قال ابن العربي: وإذا زاد السعر فأراد أحدٌ أن يزيد: فإن كان جالبًا فله أن يبيع كيف شاء، وإن كان بلديًّا قيل له: بع بسعر الناس أو تخرج من السوق. وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يبيع بأقل مما يبيع الناس، حتى يرجع إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضًا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله، أو إلى القدر الذي يصلح بالناس، ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره، عفا الله عنه] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (28/ 75-76): [لولي الأمر أن يُكرِه الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه؛ مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يُجبَرُ على بيعه للناس بقيمة المثل؛ ولهذا قال الفقهاء: من اضطُّر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره] اهـ.
3- احتكار المنتِجين أو التجار:
لا خلاف بين الفقهاء في أن الاحتكار حرامٌ في الأقوات؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْجَالِب مَرْزُوق وَالْمُحْتَكِر مَلْعُونٌ» رواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنِ اِحْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الله وَبَرِئَ الله مِنْهُ» أخرجه الإمام أحمد والحاكم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقد نص الفقهاء على اختلاف مذاهبهم: أن من حق ولي الأمر أن يبيع السلع المحتكرة جبرًا على صاحبها بالثمن المتعارف عليه مع تعزيره ومعاقبته إن اقتضت المصلحة ذلك.
4- حصر البيع لأناس معيَّنين:
إذا تمالأ التجار على أن لا يبيعوا السلع الضرورية إلا لأناس معينين، ويحرموا الناس من شرائها، فإنه يجوز لولي الأمر أن يقوم بالتسعير؛ حتى يمنع الظلم عن الناس.
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (28/ 77): [وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا أن لا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرُهم ذلك مُنِع: إما ظلمًا لوظيفة تؤخذ من البائع، أو غير ظلم، لِمَا في ذلك من الفساد، فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء؛ لأنه إذا كان قد مُنِعَ غيرُهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه، فلو سُوِّغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا أو اشتروا بما اختاروا كان ذلك ظلمًا للخلق من وجهين: ظلمًا للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال. وظلمًا للمشترين منهم. والواجب إذا لم يمكن دفع جميع الظلم أن يُدفَع الممكن منه. فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع، وحقيقته: إلزامهم ألا يبيعوا أو لا يشتروا إلا بثمن المثل] اهـ.
5- تواطؤ البائعين ضد المشترين أو العكس:
إذا تواطأ التجار أو أرباب السلع على سعر يحقق لهم ربحًا فاحشًا، أو تواطأ مشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس فإن التسعير يكون واجبًا حينئذٍ.
يقول الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (28/ 78-79): [ولهذا منع غير واحد من العلماء -كأبي حنيفة وأصحابه- القُسّام الذين يقسمون العقار وغيره بالأجر أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلَوْا عليهم الأجر، فمَنْعُ البائعين -الذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلا بثمن قدَّروه- أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا؛ فإنهم إذا اشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى أيضًا، فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعًا من السلع أو تبيعها قد تواطأت على أن يهضموا ما يشترونه -فيشترونه بدون ثمن المثل المعروف، ويزيدون ما يبيعونه بأكثر من الثمن المعروف، ويُنَمُّوا ما يشترونه- كان هذا أعظم عدوانًا من تَلَقِّي السلع، ومن بيع الحاضر للبادي، ومن النجش (وهي كلها بيوعٌ منهيٌّ عنها)، ويكونون قد اتفقوا على ظلم الناس حتى يُضطَّروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، والناس يحتاجون إلى ذلك وشرائه، وما احتاج إلى بيعه وشرائه عمومُ الناس فإنه يجب أن لا يُباع إلا بثمن المثل إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة] اهـ.
6- احتياج الناس إلى صناعة طائفة:
وهذا ما يقال له "التسعير في الأعمال": وهو أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفةٍ؛ كالفِلاحة والنِّساجة والبناء وغير ذلك؛ فلولي الأمر أن يُلزمهم بذلك بأجرة المثل إذا امتنعوا عنه، ولا يُمَكِّنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يُمَكِّن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم.
وهذه الحالات المذكورة ليست حصرًا للحالات التي يجوز فيها التسعير، بل كلما كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير ولا تتحقق مصلحتهم إلا به كان واجبًا على الحاكم حقًّا للعامّة؛ مثل وجوب التسعير على الوالي عام الغلاء كما قال به الإمام مالك، وهو وجهٌ للشافعية أيضًا.
خلاصة القول في التسعير: أنه إذا لم تتم مصلحة الناس إلا بالتسعير: سعَّر عليهم ولي الأمر تسعيرًا لا ظلم فيه ولا وكسَ ولا شططَ، أمّا إذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه فإنه حينئذٍ لا يفعله؛ لأنه خلاف الأصل.
كما أنه لا بد لفرض التسعير من تحقق صفة العدل؛ إذ لا يكون التسعير محققًا للمصلحة إلا إذا كانت فيه المصلحةُ للبائع والمبتاع، ولا يسوغ له منه ما يضرُّ بالناس أو يُلغِي ربح التُّجّار بالكلية؛ ولهذا اشترط الإمام مالك عندما رأى التسعير على الجزارين أن يكون التسعير منسوبًا إلى قدر شرائهم، أي: أن تُراعَى فيه ظروفُ شراء الذبائح ونفقة الجزارة، وإلا فإنه يخشى أن يقلعوا عن تجارتهم ويقوموا من السوق.
وقد صرّح الحنفية والمالكية والشافعية بأن الإمام له أن يعزِّر من خالف التسعير الذي رسمه؛ لِمَا فيه مجاهرة الإمام بالمخالفة.
جاء في "الفتاوى الأنقروية" للإمام الأنقروي الحنفي (1/ 147، ط. الآستانة): [وسئل -الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى- عن متولي الحسبة إذا سعَّر البضائع بالقيمة، وتعدَّى بعض السوقيَّة (أي: من أهل السوق) فباع بأكثر من القيمة، هل له أن يعزِّره على ذلك؟ فأجاب: إذا تعدَّى السوقيُّ وباع بأكثر من القيمة يعزره على ذلك] اهـ.
وقد أعطت الشريعة الإسلامية للحاكم حق تقييد المباح إذا رأى في ذلك المصلحة؛ كما في تقييد الملك الخاص بل ونزعه استثناءً إذا اقتضت ذلك المصلحةُ العامة، وإحياء الموات، وتملك المعادن، وحماية الحِمَى.
ونص الفقهاء على أن للحاكم أن يتخير من أقوال العلماء ومذاهبهم في المسائل الخلافية والأمور الاجتهادية ما يراه محققًا لمقاصد الشرع ومصالح الناس، وأن عليه أن يجتهد في تحقيق المصلحة قدر ما يستطيع فيما لا يخالف قطعيات الشرع وثوابته، وأنه إذا أخطأ في اجتهاده هذا مع توخِّيه المصلحةَ وقصدِه وجهَ الله تعالى من وراء ذلك فإن خطأه مغفور، بل إن الشرع الشريف كفل له الأجر في الحالتين: حالة الخطأ وحالة الصواب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، بل وفي رواية الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِذَا قَضَى القاضي فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ كَانَتْ لَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ، وَإِذَا قَضَى فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أَجْرَانِ».
فإذا انضاف إلى ذلك أن عقود البيع والشراء لم تَعُدْ عقودًا بسيطة تقتصر آثارُها على أطرافها أو على طائفة معينة أو أناس معينين كما كان الحال في السابق، بل أصبحت في العصر الحاضر عقودًا مركَّبةً مرتبطةً بالنظام العامّ للدولة المدنية؛ حيث دُعِمَت السِّلَع والأقوات، وارتبطت الأسعار بأجور الموظفين، وأصبح الاحتكار خطرًا يهدد أمن الدولة واقتصادها واستقرارها، فإن التسعير حينئذٍ يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الاقتصادية للدولة، ويصبح القضاء على الاحتكار واجبًا شرعيًّا وقوميًّا لا خلاف ولا نزاع فيه، مع مراعاة التوازن في ذلك بما يحافظ على تطوير الاستثمار وإنعاش الصناعة وزيادة التنافس في جودة الإنتاج.
وبذلك أفتت دار الإفتاء المصرية في عهد فضيلة مفتى الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم؛ وذلك بتاريخ: 15 جمادى الأولى 1362 هجرية/ 19 من يونيه 1943م، عندما سُئِل من وزارة التموين عن رأي الشريعة في تحرج بعض الناس من التبليغ ضد التجار الجشعين لبيعهم المواد بأسعار مرتفعة فادحة تزيد على الأسعار المقررة، أو ضد من يختزنون أقوات الناس وأهم ما يلزمهم من احتياجات معاشهم من ذوى الأطماع ومنتهزي الفرص؛ لاعتقادهم أن هذا التبليغ ليس واجبًا عليهم شرعًا؛ فكان الجواب: بوجوب التزام التجار بالبيع بالأسعار التي حددتها الدولة لما يحتاجه الناس في معيشتهم من طعام وغيره، ووجوب التبليغ عن ذلك إنكارًا للمنكر ومنعًا للظلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم اشتراط تحمل الخسارة مناصفة بين الشريكين مع الاختلاف في قدر رأس المال؟ فهناك رجلٌ يعمل تاجرًا للمواشي، فاتفق مع أحد أصدقائه من التجار على أن يدفع كلُّ واحد منهما مبلغًا معينًا من المال، فدفع الأول الثلث، ودفع الثاني الثلثين من قيمة المبلغ المتفق عليه، ثم إذا كانَا في السوق اشترى وباعَ كلاهما ما يراه مناسبًا أو مُربِحًا من المواشي بمشاوَرَة صاحبه، إلا أن صاحب الثلثين اشترط على الآخر أن تكون الخسارة بينهما مناصفة، فهل يجوز ذلك شرعًا؟
سأل أحد المحضرين بمحكمة مصر الأهلية في رجل وصِيّ على ابن أخيه القاصر، بلغ ابن الأخ المذكور سفيهًا، ثم بعد ما بلغ عمره ثماني عشرة سنة ذهب إلى المجلس الحسبي وادَّعى أنه رشيد، وأتى بشاهدين شهدا له بحسن السير واستقامته، فبناءً على ذلك أثبت المجلس الحسبي رشده -على خلاف الواقع- بشهادة الشاهدين المذكورين، ثم إن الوصيّ المذكور اشترى منه ثمانية أفدنة وكسورًا بملبغ مائتي جنيه إنكليزي باسم ولده المراهق بغبن فاحش بالنسبة لثمن مثل الأطيان المذكورة، مع غروره لابن أخيه المذكور بقوله له: إن تلك الأطيان لا تساوي أكثر من ذلك، ولم يعطه من الثمن المذكور إلا خمسة عشر جنيهًا، ثم لمَّا علم بعض أقاربه بحالته التي اتصف بها ذهب إلى المجلس الحسبيّ وأوقع الحجر عليه رسميًّا، فهل هذا البيع الصادر من الولد المذكور يكون فاسدًا ويجب فسخه حيث كان بغبن فاحش مع التغرير، خصوصًا وقد أثبت بعض أقاربه الحجر عليه بعد ذلك؟ وهل إذا علم الوصي قبل الحجر عليه بسفهه لا يجوز تسليمه أمواله؟ أفيدوا الجواب ولفضيلتكم الأجر والثواب. أفندم.
ما حكم شراء السلع المدعومة من السوق السوداء؟ وهل من يشتري منهم يكون معاونًا ومشاركًا في الإثم؟
ما حكم حرق البضاعة من أجل الحصول على المال؟ مثل شراء سلعة بالتقسيط وبيعها في نفس الوقت للحصول على سيولة مالية؟ حيث ظهر في هذه الأيام ما يسمّونه بـ"حرق البضائع" وهي طريقة بيع يلجأ إليها البعض للحصول على سيولة مالية، وصورته: أن يشتري من التاجر سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها لذات التاجر بسعر حالٍّ معجل، لكنه أقل؛ رغبة في توفير سيولة نقدية لقضاء بعض الحوائج الحياتية أو التجارية، فهل هذا جائز؟
وهل هذه المعاملة هي العِينَة التي ورد النهي عنها في السنة المشرفة؟
وهل يختلف الأمر لو كان المشتري للسلعة ثانيًا ليس هو بائعها الأول؟
سائل يقول: أعمل في مجال شراء الفواكه، وأقوم بعمل عقد لشراء محصول الموز، وذلك وفق إحدى الصيغتين الآتيتين: الصيغة الأولى: يتفق فيها الطرفان البائع والمشتري على بيع محصول الموز عندما يحين وقت نضجه وحصاده بعد فترة زمنية لا تقل عن أربعة شهور بالشروط الآتية المتفق عليها: يدفع المشتري حين توقيع العقد مبلغًا قدره 30000 جنيهًا لكلِّ فدان كتأمين.
يحق للمشتري دون غيره الاستحواذ على المحصول وشراؤه، والذي يتصف بالسلامة والخلو من العيوب المتعارف عليها؛ مثل: الطفرات أو المتأثرة بالصقيع أو الجراد وما شابه.
يمنح المشتري خصم قدره: جنيه واحد عن كل كيلو من الثمار عند حصاده وبعد وزنه وذلك من سعر الموز المتداول والمتعارف عليه يوم تقطيع السبايط.
تراضى الطرفان عن هذه الشروط وعلى المخالف شرط جزائي قدره 50000 جنيهًا.
وهذه الصيغة من العقود هي الشائعة والمتداولة حاليًّا بين تجار الموز.
الصيغة الثانية: يتفق فيها الطرفان (أ) البائع والطرف (ب) المشتري على بيع محصول الموز من الطرف (أ) إلى الطرف (ب) والذي يبدأ حصاده بعد مرور أربع شهور، وذلك على الشروط الواردة والمتفق عليها، وهي:
يدفع المشتري (ب) للبائع (أ) مبلغًا قدره 30000 جنيهًا عن كلِّ فدان موز؛ بصيغة مقدم مالي، وتأمين نقدي لغرض الشراء.
يلتزم المشتري (ب) بعدة مهام هي: تقطيع وجمع سبايط الموز وتحمل مصاريف ذلك، وحمل سبايط الموز من الأرض للسيارة وتحمل مصاريف ذلك. وتولي مهمة تسويق وبيع المحصول لنفسه أو للغير. ويحق للبائع (أ) مشاركة المشتري (ب) في مهمة تسويق المحصول وبيعه وتحديد سعر البيع وصفة المشتري؛ لغرض تحقيق أحسن الأسعار، وجودة الأداء والتنفيذ. ويحق للمشتري (ب) ما هو قدره 1 جنيه عن كل كيلو موز يتم وزنه بعد حصاده لجميع المحصول، وذلك مقابل ما تم من عون ومهام من الطرف المشتري للطرف البائع. وعلى المخالف لأي من شروط العقد شرط جزائي قدره 50000 جنيهًا.
فما حكم هذا العقد؟ وهل يوجد هناك فرق مؤثر في الحكم بين الصيغتين؟
ما حكم شراء شقة بالتمويل العقاري بفائدة متناقصة؟ فقد تقدمنا لحجز شقة في مشروع الإسكان الاجتماعي في مصر، وكان النظام المتبع أن ندفع 5 آلاف جنيه جدية حجز، وبعد قيام وزارة الإسكان بفرز الأوراق والاستعلام تقوم بتحويل الأوراق لأحد البنوك التابعة للبنك المركزي في إطار مبادرة التمويل العقاري، حيث يقوم البنك بسداد قيمة الوحدة، ثم يقوم بتحصيلها من المواطن بفائدة متناقصة 7 بالمائة سنويًّا، مع منع العميل من التصرف في الشقة بالبيع أو الهبة حتى يتم الانتهاء من السداد. فما حكم ذلك شرعًا؟