 
                                هل سورتا الخَلْع والحَفْد كانتا من سور القرآن الكريم حقيقة -وهما الدعاء الذي تقنت به الحنفية في الوتر-؟ وما هي المصادر التي يرجع إليها في ذلك؟ وهل أسلوبهما يشاكل أسلوب القرآن؟ وما سبب إبعادهما من كتاب الله تعالى؟
إذا صحت رواية هذا القنوت أنه كان قرآنًا متلوًّا -وهي رواية آحاد- فقد نسخت تلاوته بوحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وإن بقي معناه وزالت عنه أحكام القرآن.
ذكر الحافظ السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القران": أن دعاء القنوت من جملة ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان سورتين كتبهما أُبَي بن كعب رضي الله عنه في "مصحفه"، كل سورة ببسملة وفواصل:
إحداهما: تسمى سورة الخَلْع -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام- وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونتوب إليك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونترك ونخلع من يفجرك.
والثانية: تسمى سورة الحَفْد -بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء- وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد -بكسر الفاء-، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار ملحِق. اهـ ملخصًا.
ومعنى "نخلع من يفجرك": نترك من يعصيك ويُلحد في صفاتك.
و"نحفد": نبادر ونسارع إلى طاعتك، وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في العمل والخدمة، ومنه الحَفَدَة -بفتحات- للأعوان والخدم، ولولد الولد؛ لإسراعهم في تلبية الولي.
و"الجد": الجِد بكسر الجيم: الحق الثابت.
و"ملحِق" بكسر الحاء وهو الرواية المشهورة: أي لاحق بهم، وروي بفتحها أي أن الله يلحقه بهم.
وسمى الشيخ ابن تيمية في "فتاويه" هذا الدعاء: القنوت كسورتي أبي بن كعب رضي الله عنه.
ونقل عبارةَ السيوطي: العلامةُ الطهطاوي في حاشيته "إمداد الفتاح على شرح نور الإيضاح" في مذهبنا، ولم تتعرض معتبرات كتب المذهب فيما رأيتُ لذكر أصل هذا القنوت، وإنما ذكرت أن القنوتَ المرويُّ عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" -(1/ 786)- من فقهاء الحنابلة: وهاتان سورتان في "مصحف أُبَيّ" رضي الله عنه كما رواه أبو عبيدة بإسناده عن عروة وابن سيرين.
ونقل الإمام النووي في "مجموعه" -وهو من أمهات كتب الشافعية-، عن أبي عمرو بن الصلاح، أن القاضي عياضًا المالكي حكى الاتفاق على أنه لا يتعين في القنوت دعاءٌ إلا ما روي عن بعض أهل الحديث؛ من أنه يتعين قنوت "مصحف أُبَيّ" رضي الله عنه: اللهم إنا نستعينك.. إلخ.
وصرح العلامة الرهوني في حاشيته على "شرح الزرقاني على متن خليل" -وهو من أهم كتب المالكية- أن هذا القنوت سورة في "مصحف أبي" رضي الله عنه. اهـ.
فهذا القنوت كان وحيًا منزلًا متلوًّا، ثم نسخت تلاوته بوحي من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فانسلخ من قرآنيته وإن بقي معناه، وزالت عنه أحكام القرآن؛ من التقييد بالتلاوة، وحرمة القراءة والمس على الجنب والحائض والنفساء، وحرمة المس على المحدث حدثًا أصغر، ولم يبق له وجود في القرآن الذي نقرؤه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا، ونحفظه في صدورنا، والذي يروى بالتواتر الصادق في كل عصر من لدن صاحب الرسالة المنزل عليه القرآن كله جملةً وتفصيلًا، لفظًا ومعنى وترتيبًا إلى وقتنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة، والذي تكفل مُنَزِّلُهُ سبحانه بحفظه من التغيير والتحريف والزيادة والنقص بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، والذي جُمعت صحفه المكتوبة جمعًا مضبوطًا في عهد الصديق رضي الله عنه، وكتبت "مصاحفه" في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه، وبعث بها إلى الأمصار تحقيقًا لوعد الله تعالى بحفظه وعصمته، فمن المقطوع به أن هذا القنوت قد نسخت تلاوته إذا صحت رواية أنه كان قرآنًا متلوًّا وهي رواية آحاد، ولو لم تنسخ لبقي سورة من القرآن متلوة مكتوبة محفوظة كسائر السور، ولله تعالى في كل شأن من شؤونه كلمة بالغة تدركها عقولنا، وقد تعجز عن إدراكها؛ نؤمن بها كما نؤمن بالغيب الذي حجبه عنا واستأثر بعلمه، وكما نؤمن بالمتشابه من التنزيل ونفوض علم حقيقته إلى الله تعالى، وكما نؤمن بكل ما ثبت من أخبار الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه عن ربه العليم الحكيم.
ونسخ تلاوته قرآنًا لا يمنع ذكره دعاءً في الصلاة وغيرها، ولذلك اختاره الحنفية والمالكية في القنوت، وهو دعاء جامع في معناه، قوي في أسلوبه، بليغ في معناه كسائر الأدعية المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم طلب الشفاعة من سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام بقول اشفَع لنا يا رسول الله صلَّى الله عليكَ وعلى آلِكَ وسلَّمَ؟
هل يجوز للعاميّ أن يأخذ الأحكام الشرعية من نصوص القرآن والسنة مباشرة دون الرجوع إلى أهل العلم والعلماء؟
ما معنى الصعود لله في قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾؟ وهل يفيد إثبات جهة معينة لله تعالى؟
سائل يقول: سمعت أن اعتقاد أهل السنة والجماعة هو ثبوت رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة. فما هي أدلتهم على ذلك؟
نرفع لسيادتكم نموذجًا لما يتم تداوله بين أوساط بعض المسلمين من شبهات حول حكم بناء الكنائس وترميمها، وجاءت هذه الشبهات كالتالي:
الشبهة الأولى: بناء الكنائس والبِيَع حرام؛ حيثُ إنَّ المساجد بيوت عبادة الله للمسلمين، والكنائس والبِيَع معابد اليهود والنصارى يعبدون فيها غير الله، والأرض لله عز وجل، وقد أمر ببناء المساجد وإقامة العبادة فيها لله عز وجل، ونهى سبحانه عن كل ما يُعبَد فيه غير الله؛ لِمَا فيه من إقرار بالباطل، وتهيئة الفرصة للقيام به، وغش الناس بوضعه بينهم، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85].
وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
الشبهة الثانية: أجمع العلماء على وجوب هدم الكنائس وغيرها من المعابد الكفرية إذا أُحدثَت في أرض الإسلام، ولا تجوز معارضة ولي الأمر في هدمها؛ بل تجب طاعته.
وبهذا يُعلم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية؛ مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره؛ والله عز شأنه يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
قال شيخ الإسلام: "من اعتقد أنَّ الكنائس بيوت الله وأنَّ الله يُعبدُ فيها، أو أنَّ ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحب ذلك ويرضاه، أو أعانهم على فتحها وإقامة دينهم وأنَّ ذلك قربة أو طاعة فهو كافر".
وليحذر المسلم أن يكون له نصيب من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ۞ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ۞ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 25-28].
الشبهة الثالثة: صار من ضروريات الدين تحريمُ الكفر الذي يقتضي تحريم التعبد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام؛ ومنه: تحريم بناء معابد وفق شرائع منسوخة؛ يهودية، أو نصرانية، أو غيرهما؛ لأنَّ تلك المعابد سواء كانت كنيسة أو غيرها تعتبر معابد كفرية؛ لأنَّ العبادات التي تؤدى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23]، ولا يجوز اجتماع قبلتين في بلدٍ واحدٍ من بلاد الإسلام، ولا أن يكون فيها شيء من شعائر الكفار لا كنائس ولا غيرها؛ ولهذا أجمع العلماء على تحريم بناء هذه المعابد الكفرية. وقد قال شيخ الإسلام: "من اعتقد أنَّ زيارة أهلِ الذمة كنائسَهم قربةٌ إلى الله فهو مرتدٌّ، وإن جهل أنَّ ذلك محرم عُرِّف ذلك، فإن أصرَّ صار مرتدًّا" اهـ.
الشبهة الرابعة: من المعلوم أنَّ الأشياء التي ينتقض بها عهد الذمي: الامتناع من بذل الجزية، وعدم التزام أحكام الإسلام، وأن يُقاتل المسلمين منفردًا أو في الحرب، وأن يلتحق الذمي بدار الحرب مُقيمًا بها، وأن يتجسس على المسلمين وينقل أخبارهم، والزنا بامرأةٍ مسلمة، وأن يذكر الله تعالى أو رسوله أو كتبه بسوء.
وإذا انتقض عهد الذمي: حلَّ دمه وماله، وسار حربيًّا يُخير فيه الإمام بين القتل، أو الاسترقاق، أو المن بلا فدية، أو الفداء.
الشبهة الخامسة: ذكر البعضُ أنَّ البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمُون عنوةً وتملكوا أرضها وساكنيها لا يجوز إحداث كنائس فيها، ويجب هدم ما استحدث منها بعد الفتح؛ لأنَّ هذه الكنائس صارت ملكًا للمسلمين بعد أن فتحوا هذه البلاد عنوة.
وأمَّا البلاد التي أُنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صُلْحًا: فهي على نوعين:
الأول: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها، أو يصالحهم على مالٍ يبذلونه وهي الهُدنة؛ فلا يُمنعون من إحداث ما يختارونه فيها؛ لأنَّ الدار لهم.
الثاني: أن يُصالحهم على أنَّ الدار للمُسلمين، ويؤدون الجزية إلينا، فحكمها ما اتُّفقَ عليه في الصلح، وعند القدرة يكون الحكم ألَّا تُهدم كنائسهم التي بنوها قبل الصلح، ويُمنعون من إحداث كنائس بعد ذلك.
الشبهة السادسة: حكم بناء ما تهدَّمَ من الكنائس أو ترميمها: على ثلاثة أقوال:
الأول: المنع من بناء ما انهدم وترميم ما تلف.
الثاني: المنع من بناء ما انهدم، وجواز ترميم ما تلف.
الثالث: إباحة الأمرين.
فالرجاء التفضل بالاطلاع والتوجيه بما ترونه سيادتكم نحو الإفادة بالفتوى الشرعية الصحيحة في هذا الشأن حتى يمكن نشرها بين أهالي القرى؛ تصحيحًا للمفاهيم ومنعًا للشبهات.