01 يناير 2017 م

عمارة الكون في الحضارة الإسلامية

عمارة الكون في الحضارة الإسلامية


اهتمت الحضارة الإسلامية بإعمار الأرض انطلاقًا من المنظور القرآني لوظيفة الإنسان في الكون وفي الحياة؛ وهو الاستخلاف في الأرض لعمارتها وإقامة عبادة الله عز وجل في ربوعها، فالإنسان هو خليفة الله في أرضه؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30]، وقال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] وقال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: 61]. ونهى الله تعالى الإنسان عن الفساد في الأرض ، وحرم على المسلم أن يفسد ملكه أو ملك غيره لأن الله تعالى لا يحب الفساد ولا المفسدين؛ لذلك كان من أشد التشريعات الجنائية في الإسلام في حق من يسعون في الأرض بالفساد، لأن الفساد ضد قوانين الاستخلاف في الأرض وعمارة الكون، ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33].

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل إعمار الأرض وإحياء مواتها، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ما من مسلم يزرع زرعًا أو يغرس غرسًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة». وبوَّب البخاري في صحيحه باب: من أحيا أرضًا مواتًا، ثم قال: وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ مَوَاتٌ، وَقَالَ عُمَرُ: "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"، وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ َقَالَ: «فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ فِيهِ حَقٌّ» وَيُرْوَى فِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ»، قَالَ عُرْوَةُ: "قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ" انتهى.

وقد اهتم الإسلام ببناء الإنسان قبل البنيان، وأرشده إلى أن العمارة المادية المتمثلة في بنيان الصخور والأحجار وحدها لا تسمى حضارة ولا عمارة ما لم تتوج بالبنيان والعمران الأخلاقي والروحي الذي يتسم به هذا الإنسان الباني، قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 19]. وقال تعالى أيضًا في شأن من يهتم بالبنيان ولا يهتم بعمارة الإنسان: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: 9] . لقد انطلق المسلمون من هذه القواعد القرآنية السامية، فشيدوا بنيان الروح الإنساني على قاعدة راسخة من الإيمان والمحبة والصلة المتينة القوية بالله تبارك وتعالى، ثم انطلق الإنسان المسلم يغرس في الأرض ويزرعها، ويبني فيها المساجد الشامخة والمنارات العالية التي ترفع قامتها إلى السماء رامزة لتوحيد الله عز وجل، وحتى في أشد الحالات التي يستبد فيها الغضب والطيش بالإنسان ألا وهي حالة الحرب والاقتتال، كان للمسلمين منهج ورونق جديد لم تعرف له البشرية مثيلًا من قبل؛ لأن المسلم لا يعرف معنى كلمة الحرب بما تحمله من دلالات توحي بالدمار والخراب الذي يعم ويشمل كل شيء، لكن المسلم يعرف الجهاد في سبيل الله تعالى بما فيه من معاني المجاهدة وضبط النفس وجعل الوسيلة على قدر الغاية لا تتجاوزها من حالة الدفاع إلى حالة الانتقام والتشفي فالجهاد في الإسلام يئول إلى السلم والسلام لا إلى الخراب والدمار، فأوصى الخليفة الراشد أبو بكر الصديق جنوده في فتح الشام بقوله: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنى: لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإن أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله".

كانت الخرائط في العصور القديمة محدودة المجال والمساحة الجغرافية وغير دقيقة وكانت آثارها ماثلة في ألواح الفخار أو أوراق البردي، وكان التصور السائد عند كثيرين أن الأرض عبارة عن قرص دائري تحيط به المياه من كل جانب، ولكن اعتناء المسلمين الخاص بهذا الفن من فروع علم الجغرافيا قد أكسبه مذاقًا خاصًّا، ودفع به قُدُمًا نحو مزيد من تغطية المساحات المكتشفة والمرسومة بقدر كبير من الدقة والضبط والحرفية.


الحضارة مشتقة من (الحضر) وهو المكان الذي يكون فيه عمران واستقرار لأهله من ساكني المدن، بخلاف أهل البداوة الذين يعيشون على التنقل في الصحراء وبواديها بحسب الظروف المعيشية المتوفرة لهم. ومفهوم الحضارة واسع يشمل مختلف أنواع وعوامل التقدم والرقي، سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو متعلقة بنظم الإدارة وممارسات الحياة العامة بأشكالها المتنوعة. ومن المظاهر الحضارية التي اعتنى بها المسلمون الاهتمام بالطب والتداوي، فلم يكن المسلمون في ميادين الطب والصيدلة مجرد ناقلين ومقلدين لخبرات الأمم الأخرى في هذا المجال، بل ترجموا ونقلوا وجربوا وهذبوا وابتكروا


تعد مقاصد الشريعة من المظاهر الحضارية للشريعة الإسلامية؛ فهي التي تحدد أساس التصور الإسلامي للسعي في هذه الحياة، والإسلام يُعنَى بدرجات مختلفة من المقاصد، تُرَتَّبُ على حسب الأولوية، فهي على ثلاثة مستويات: ضرورية، وحاجيَّة، وتحسينية.


"الأدب" كلمةٌ ترجع إلى معنى الاجتماع والضيافة والكرم، ومن ذلك تسمية العرب للمأدبة، فكان العرب يقولون: أدِبَ القومَ يأدبهم أدبًا، إذا دعاهم إلى طعامٍ يتَّخذه، وكان إقراءُ الضيوف وتقديمُ الطعام لهم من أرقى الخصال التي يتحلَّى بها المرءُ في هذه البيئَة الصَّحراويَّةِ المُقْفِرَةِ؛ حيث كان امتلاكُ الطَّعام هو السبيلُ الدُّنيويُّ الوحيد تقريبًا للحياة، فكان تقديمُه للضيوف دليلًا على رُقِيٍّ أخلاقيٍ عالٍ، وَسُمُوِّ نفسٍ كبيرٍ.


اهتم الإسلام بأمر العلم والعناية به، وقد كان ذلك من أوائل التوجيهات الإلهية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين أيضًا، فكان أول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، من هذا المنطلق كانت الرؤية واضحةً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيهاته للمسلمين، باتخاذ وسيلة ومفتاح تحصيل هذا العلم ونشره عن طريق تعلُّم الكتابة، والتي أوصى الله باستخدامها في موضع آخر، منها مثلًا ما يتعلق بتوثيق الحقوق؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ﴾ [البقرة: 282].


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 02 أغسطس 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :14
الظهر
1 : 1
العصر
4:38
المغرب
7 : 48
العشاء
9 :14