02 أغسطس 2018 م

المُدَارَاةُ

المُدَارَاةُ

 خُلُقُ المُدَاراةِ من الأخلاق المهمَّةِ في إقامة العلاقات الإنسانية التي تنزع فتيل التوتُّر وتدرأُ عواقب الخلاف والشِّقاق وإبداءِ الكراهية، وهي تعني: لينُ القولِ والتَّجاوزِ عن البُغضِ تجاهَ شخصٍ ما في التعامل معه؛ اتِّقاءً لشرِّه وأذاه، دون أن يكون في هذا السلوك موافقة على باطلٍ يقوم به.
قال الإمام ابن بطَّالٍ في "شرح صحيح البخاري": "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة وسَلِّ السخيمة"، ومعنى: "سَلُّ السخيمة" أي: نزع الحقد والبغضاء.
ومن المهم الالتفات إلى أن المداراة لا تعني المداهنة؛ إذ بينهما فروق دقيقة؛ حيث إن المداهنة تعني: التعامل مع من يستحق البغض لشرِّه وإيذائه بالتأييد والمباركة له سعيًا في تحصيل منافع دنيوية ومخالفة لأحكام الدين.
وفي بيان هذا الفارق يقول الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين": "الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإنْ أغضيتَ لسلامَة دينِك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مُدَارٍ، وإن أغضيتَ لحظِّ نفسِك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن".
فالمدارةُ خُلُقٌ محمودٌ، أما المداهنة فخلقٌ مذموم، وفي ذلك يقول الإمام ابن حجر في "فتح الباري بشرح صحيح البخاري": "وضابط المداراة: ألَّا يكون فيها قدحٌ في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل".
وعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَّا رآه قال: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ»، فلما جلس تَطَلَّقَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيتَ الرجل َقلتَ له: كذا وكذا، ثم تَطَلَّقْتَ في وجهه وانبسطتَ إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ» رواه البخاري.
ونقل الإمام النووي عن القاضي عياض قوله: "هذا الرجل -المذكور في حديث السيدة عائشة- هو عيينة بن حِصن، ولم يكن أسلم حينئذٍ، وإن كان قد أظهر الإسلام؛ فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُبيَّن حاله ليعرفه الناس ولا يغترَّ به من لم يعرف حاله، قال: وكان منه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده ما دَلَّ على ضعف إيمانه، وارتدَّ مع المرتدين، وجيءَ به أسيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه.
ووصْفُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بأنه «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ» من أعلام النبوة؛ لأنه ظَهَرَ كما وَصَف، وإنما أَلَانَ له القول؛ تألُّفًا له ولأمثالِه على الإسلام".
ويُضيف الإمام النَّووي: "في هذا الحديث مداراة من يُتَّقَى فُحشه، وجواز غيبة الفاسق المُعلِنِ فسقه ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، ولم يمدحْه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ذكر أنه أثنى عليه في وجهه ولا في قفاه، إنما تألَّفه بشيء من الدنيا مع لين الكلام".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم"، وهذا معنى المداراة، وهي مع من يُخاف شره؛ قال الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: 96]، قال ابن عباس رضي الله عنه في معنى قوله: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [القصص: 54]، أي الفُحشَ والأذى بالسلام والمداراة.
إن المداراةَ مطلوبةُ في الكثيرِ من الأحيانِ، لتستمرَّ العلاقات قائمة بين النَّاسِ، ولو في حدِّها الأدنَى، فهذا الحدُّ قد يتيح توثيقها بصورة أكبر مع تغير الأزمان والظروف، وتجنُّبًا لردودِ أفعالٍ على الخشونة في التعامل تؤدي إلى النزاع والشِّقاق والتصادم في المجتمعات، والمداراة مطلوبة أيضًا؛ مراعاة لأعراف الناس التي قد تتصادم مع قناعات البعض، فتكون المداراة سبيلًا للتعاون والبناء في المجتمع، وكذلك هي مطلوبة في مجالات التغيير المختلفة والدعوة والتعليم وغيرها؛ من أجل الارتقاء بالأفراد والمجتمعات بتقبُّل ما لديهم من أفكار، والتعامل مع ما لديهم من إمكانات ولو محدودة، ثم الارتقاء بها رويدًا رويدًا من أجل الوصول إلى مستوياتٍ متقدمة من الأفكار والإمكانات في شتَّى المجالات.
المصادر:
- "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي.
- "شرح صحيح البخاري" للإمام ابن بطَّالٍ.
- "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي.
- "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني.

الإسلام دين المثالية والنزاهة والكمال الإنساني، يأخذ بيد الإنسان لتحصيل الفضائل والوقوف على منطقة الكمال من قواه الإنسانية -العقلية والشهوية والغضبية- فيكون محصلًا لأسمى مكارم الأخلاق، وقد قيل إنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، لأن الأمر بالعرف غاية الحكمة التي هي منطقة الكمال في القوة العقلية، والإعراض عن الجاهلين غاية الشجاعة التي هي منطقة الكمال في القوة الغضبية، وأخذ العفو غاية العفة التي هي منطقة الكمال في القوة الشهوية، فالجامع بين أمهات كمالات الإنسان الثلاث: الحكمة والشجاعة والعفة.


تُعَدُّ الغَيْرَةُ من الأخلاق المهمة التي ينبغي على الإنسان المسلم أن يتحلَّى بها، لكن عليه أن يُراعي أن لهذه الغَيرة ضوابط وحدود تجعلها غَيرة نافعة، تحافظ على الفضائل وتأبى الرذائل، أما الغَيرة المذمومة فهي تلك التي تدَّعي الحفاظ على الفضائل، ثم ترتكب في سبيل الحفاظ عليها مخالفات شرعية، كالحقد والحسد والإيذاء والاعتداء على الغير، فينقلب الحفاظ -الزائف- على الفضائل إلى رذيلة بما تتضمنه من مخالفات للشرع الشريف وللآثار النفسية والاجتماعية الضارَّة التي تترتب عليها.


الإنصاف خلق كريم، يُقرِّر حق كل شخص تجاه نفسه وتجاه غيره، فهو تطبيق لقيمة العدل، الذي هو أصل منظور الإسلام للكون والحياة، الذي تقوم عليه فلسفة الإسلام ومنهجه، وهذا الخلق الراقي يقتضي أن ينظر الإنسان إلى نفسه وغيره نظرًا موضوعيًّا متوازنًا، فيعرف حق نفسه عليه، فيما ينبغي أن يوفره لها من علم وقرب إلى الله وسياسة جسده حتى يقوى على تحمل ما يلزمه من واجبات وما يتطلع إلى تحقيقه من طموحات وتقدير ما يمكنه القيام به وما لا يمكنه


يُعَدُّ الحياء من الأخلاق السامية التي قلَّ وجودها بين الخلق، وقد انعكس ذلك بشكل خطير على علاقات الناس وتصرفاتهم مع بعضهم البعض، وباتت البغضاء والشحناء والفجاجة منتشرة في المجتمعات بسبب قلة الحياء مع غياب كثير من الفضائل الأخرى.


تفرض الأخوَّة في الدين أن يبذل المرء ما يحب من أجل إسعاد غيره، فيزداد الحب بين أفراد المجتمع، ويترابط أفراده بعُرىً وثقى، فيصير المجتمع قويًّا عفيًّا متوادًّا متعاونًا، وذلك هو خلق الإيثار الذي هو أحد أخلاق المسلمين وصفة من صفاتهم السلوكية؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]


مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 01 مايو 2025 م
الفجر
4 :37
الشروق
6 :12
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 33
العشاء
8 :57