ما حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني؟ حيث يدَّعي بعض الناس أن ذلك محرَّم شرعًا لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصةً إذا كان جمادًا؛ لأنه حينئذٍ يكون شِركًا أو ذريعةً إلى الشِّرك، وكذلك هو من التشبه بالكفار في عاداتهم القبيحة، كما أنه يعتبر بدعة؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم.
حكم تحية العلم والوقوف للسلام الوطني
لا مانع شرعًا من تحية العلم والوقوف للسلام الوطني؛ فكِلاهُما تعبير عن الحب لرمز الوطن وعلامته وشعاره، بل إنه لمَّا تواضع الناس وتعارفوا على كون ذلك دالًّا على احترام الوطن وتعبيرًا عن الانتماء ووسيلةً لإظهار ذلك في الشأن الوطني والعلاقات بين الدول، وأن تركه يشعر بالاستهانة أو قلة الاحترام، ويفضي إلى الخصام والشحناء وشق الصف والتراشق بالتهم بين أبناء الوطن أو المواقف المضادة في العلاقات الدولية، فإنه يتعين حينئذٍ الالتزام به ويصير واجبًا مطلوبًا شرعًا.
ولا يمكن القول بأن هذا من التعظيم المحرم؛ لأن التعظيم الممنوع هو ما كان على وجه عبادة المعظَّم، كما لا يمكن القول بأنه من التشبه بغير المسلمين المنهي عنه شرعًا؛ فالتشبه إنما يحرم فيما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية إذا قصد المسلمُ بها التشبه.
المحتويات
- المقصود بالعلم واتخاذ النبي عليه السلام للرايات والأعلام
- حكم تحية العلم
- حكم الوقوف للسلام الوطني
- الرد على من يدعي عدم جواز تحية العلم والوقوف للسلام الوطني
- الخلاصة
المقصود بالعلم واتخاذ النبي عليه السلام للرايات والأعلام
العَلَم له عدة معانٍ في اللغة؛ منها: الفصل بَين الْأَرَضينِ، والشيء المنصوب في الطريق يهتدى به، والجبل، والرسم فِي الثَّوْب، والراية. انظر: "تاج العروس" للإمام الزبيدي (33/ 131-132، ط. دار الهداية).
والمراد منه هنا: هو خصوص الراية التي هي الآن رمز للوطن وعلامة للدولة. واعتبار العَلَم رمزًا كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام لا سيما في الحروب، وقد تضمَّن الشعر الجاهلي ذكر الرايات والأعلام والألوية؛ من ذلك قول عنترة العبسي:
وتَرَى بها الراياتِ تَخْفُقُ والقَنَا ... وتَرَى العَجَاج كمثل بحر مُزْبِد
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ الرايات والألوية والأعلام، وعقد عليه المحَدِّثون أبوابًا في كتبهم؛ فقالوا: في "سنن أبي داود" (باب في الرايات والألوية)، و"سنن الترمذي" (باب ما جاء في الألوية)، و"سنن البيهقي" (باب ما جاء في عقد الألوية والرايات)، ونحوه.
وروى الإمامان الترمذي وابن ماجه عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض"، وروى الإمام أبو داود عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم رضي الله عنه قال: "رأيت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفراء"، وروى الترمذي عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض"، وروى الإمامان أحمد وابن ماجه عن الحارث بن حسان البكري رضي الله عنه قال: "قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، وبلال رضي الله عنه قائم بين يديه مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا، وإذا رايات سود، فسألت: من هذا؟ فقالوا: عمرو بن العاص رضي الله عنه قدم من غَزَاةٍ". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 127، ط. دار المعرفة): [كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مغازيه يدفع إلى رأس كل قبيلة لواء يقاتلون تحته] اهـ.
وللدلالة الرمزية للأعلام والرايات، فإنه قد جرتِ العادة بأن يعمد العدو إلى ضرب حامل الراية وإسقاطه قبل غيره؛ ليثبط من عزيمة الجيش؛ فمتى كان العَلَم مرفوعًا كان ذلك دالًّا على العزة والقوة والصمود، ومتى نُكِّس وسقط كان ذلك دالًّا على الهزيمة والذل والانكسار، وفي المقابل كان يحرص حامله على إبقائه مرفوعًا، ولو بذل في سبيل ذلك نفسه وروحه، لا لخصوص تعظيم القماش، بل لما يرمز إليه.
وقد روى الإمام البخاري في "صحيحه" عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ -يعني: في غزوة مؤتة-، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَإِنَّ عَيْنَىْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ».
وروى الإمام الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريبة منه إذ رد السلام، ثم قال: «يَا أَسْمَاءَ، هَذَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِيكَائِيلَ مَرُّوا فَسَلَّمُوا عَلَيْنَا فَرُدِّي عَلَيْهِمُ السَّلَامَ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَقِيَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ مَمَرِّهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، فَقَالَ: لَقِيتُ الْمُشْرِكِينَ فَأُصِبْتُ فِي جَسَدِي مِنْ مَقَادِيمِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ فَأَخَذْتُ اللِّوَاءَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَقُطِعَتْ، ثُمَّ أَخَذْتُهُ بِيَدِي الْيُسْرَى فَقُطِعَتْ، فَعَوَّضَنِي اللهُ مِنْ يَدِي جَنَاحَيْنِ أَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا، فَآكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا مَا شِئْتُ»، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ رضي الله عنها: هَنِيئًا لِجَعْفَرٍ مَا رَزَقَهُ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ لَا يُصَدِّقُ النَّاسُ، فَاصْعَدِ الْمِنْبَرَ فأَخْبِرْ بِهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ جَعْفَرًا مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ عَوَّضَهُ اللهُ مِنْ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيَّ» ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُ حَيْثُ لَقِيَ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَبَانَ لِلنَّاسِ بَعْدَ الْيَوْمِ الَّذِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَعْفَرًا لَقِيَهُمْ؛ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ.
وتحية العلم بنحو الإشارة باليد بهيئة معينة، أو الهتاف بالدعاء عند رفعه بأن تحيا البلاد، هو من قبيل الحركة أو الكلام، وإلف ذلك وتكراره -كما هو الحاصل- يجعله من العادات؛ إذ العادة هي: اسم لتكرير الفعل والانفعال حتى يصير سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية. انظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني (ص: 594، ط. دار القلم).
حكم تحية العلم
الأصل فيما كان كذلك الإباحة، ما لم يرد دليل على المنع؛ قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: 119]، وروى الإمام الترمذي عن سيدنا سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِى كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِى كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».
ثم إن هذه الممارسات والأفعال هي مما ارتبط عند الناس بحب الأوطان، وتواضعوا على دلالتها على ذلك، فصارت بذلك وسيلة عامة للتعبير عن حب الأوطان وإظهار الانتماء وتأكيد الولاء، وقد تقرر في قواعد الشريعة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان حب الوطن مِن المطلوبات الشرعية كما هو متقرر في أدلة الشريعة فإن وسيلتَه الجائزةَ في أصلها تكون كذلك مشروعة مطلوبة، ويتأكد ذلك إذا كان عدمُ القيام أمارةً عند الناس على عدم الاحترام.
حكم الوقوف للسلام الوطني
أما السلام الوطني فهو عبارة عن مقطوعة موسيقية ملحَّنة على نشيد البلد أو الوطن تكون رمزًا للبلد أو الوطن تعزف في الحفلات العسكرية وبعض المناسبات العامة. والمختار أن الموسيقى من حيث هي لا حرمة في سماعها أو عزفها؛ فهي صوت حسنُه حَسَنٌ وقبيحه قبيح، وما ورد في تحريمها: صحيحُهُ غير صريح، وصريحُهُ غير صحيح.
وعدم التحريم هو المنقول عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ومن التابعين: خارجة بن زيد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والشعبي، وأكثر فقهاء المدينة، وممن بعدهم: الشيخ أبو محمد بن حزم، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ عبد الغني النابلسي، وغيرهم خلق كثيرون.
وورد في كتاب "فرح الأسماع برخص السماع" للشيخ لأبي المواهب الشاذلي (ص: 12، ط. الهند): [ولما سئل سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام عن الآلات كلها، قال: مباح، فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنَّة على تحريمه، فسمعه الإمام عز الدين، فقال: لا، أردت أن ذلك مباح] اهـ.
وأفرد بالتصنيف في الكلام عن إباحتها جماعة من الأئمة؛ منهم: ابن حزم، وابن السمعاني، وابن القيسراني، والإدفوي، وأبو المواهب الشاذلي المالكي وغيرهم.
والسلام الوطني الشأن فيه هو الشأن في العَلمِ؛ من حيث كون كل منهما رمزًا، والوقوف عند عزفه ليس المراد منه إلا إظهار الاحترام والتقدير والإكرام لما يُمَثِّلُه، وهو الوطن. وحب الوطن أمر قد جُبِل عليه الإنسان؛ حتى قال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحُبِّ الوطن. انظر: "الحنين إلى الأوطان" للجاحظ (ص: 10، ط. دار الكتاب العربي).
وقد روى الإمام البخاري عن حميد الطويل أنه سمع أنسًا رضي الله عنه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته -أي: أسرع السير بها-، وإن كانت دابة حركها". قال الإمام البخاري: زاد الحارث بن عمير عن حُمَيدٍ: حركها من حبها. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 621، ط. دار المعرفة): [وفي الحديث دلالة.. على مشروعية حب الوطن والحنين إليه] اهـ.
وقال الإمام ابن بطال في "شرحه" (4/ 453، ط. مكتبة الرشد): [قوله: من حبها؛ يعني: لأنها وطنه، وفيها أهله وولده الذين هم أحب الناس إليه، وقد جبل اللهُ النفوس على حب الأوطان والحنين إليها، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة] اهـ.
والتعبير عن هذا الحب الوارد في الحديث له دوال ومظاهر؛ منها ما يكون بالأقوال ومنها ما يكون بالأفعال، ومن ذلك قول الشاعر قيس بن المُلَوَّح:
أَمُرُّ عَلى الديارِ دِيارِ لَيلى ... أُقَبِّل ذا الجِدار وَذا الجِدارا
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي ... ولَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيارا
والأصل في ذلك كله الإباحة حتى يرد الدليل الناقل عنها، ومن جملة الأفعال المعبرة عن الحب القيامُ لرمز الوطن وعلامته وشعاره، وهو العَلم أو السلام الوطني؛ فالمحب يتعلق ويعتني بكل ما له صلة بمحبوبه، ولا يُذَمُّ مِن ذلك إلا ما ذَمَّه الشرع بخصوصه.
الرد على من يدعي عدم جواز تحية العلم والوقوف للسلام الوطني
أما دعوى أن ذلك محرم شرعًا؛ لما فيه من تعظيم، والتعظيم لا يجوز للمخلوق، خاصة إذا كان جمادًا، فيجاب عنه بأن ذلك وإن كان فيه تعظيم، إلا أن القول بأن مطلق التعظيم لا يجوز للمخلوق هو قول باطل، بل الذي لا يجوز هو ما كان على وجه عبادة المعظم، كما كان يعظم أهل الجاهلية أوثانهم، فيعتقدون أنها آلهة وأنها تضر وتنفع من دون الله، وهذا هو الشرك.
أما ما سوى ذلك مما يدل على الاحترام والتوقير والإجلال فهو جائز، إن كان المُعَظَّم مستحقًّا للتعظيم، ولو كان جمادًا؛ وقد روى الإمام البخاري عن سيدنا عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال واصفًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ".
وروى الإمامان أحمد والحاكم أن عائشة رضي الله عنها قالت: "لقد رأيت من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه -أي: العباس- أمرًا عجيبًا".
وروى الإمام البيهقي بسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفًا، وتعظيمًا، وتكريمًا، ومهابة».
وروى الإمام الدارمي عن عكرمة بن عمرو بن هشام رضي الله عنه "أنه كان يضع المصحف على وجهه، ويقول: كتاب ربي، كتاب ربي".
وقال الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 265، ط. الإمارات): [ويقال: ومن تعظيم الله عزَّ وجلَّ تعظيم ذي الشيبة المسلم] اهـ.
وتفصيل ذلك: أن هناك فارقًا كبيرًا وبَوْنًا شاسعًا ما بين الوسيلة والشرك؛ فالوسيلة المأمور بها شرعًا هي: التقرب إلى الله بكل ما شرعه، ويدخل فيها تعظيمُ ما عظَّمه سبحانه مِن الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فيسعى المسلم مثلًا للصلاة في المسجد الحرام والدعاء عند قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والملتزم تعظيمًا لما عظمه الله سبحانه وتعالى من الأماكن، ويتحرى قيام ليلة القدر، والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة، وفي ثلث الليل الآخر تعظيمًا لما عظَّمه الله من الأزمنة، ويتقرب إلى الله تعالى بحب الأنبياء والصالحين تعظيمًا لمن عظمه الله من الأشخاص، ويتحرى الدعاء حال السفر وعند نزول الغيث وغير ذلك تعظيمًا لما عظمه الله من الأحوال... وهكذا؛ أي إنها تعظيمٌ بالله، والتعظيم بالله تعظيمٌ لله كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طاعةٌ لله تعالى الذي أرسله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، ومبايعته مبايعة لله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10].
أما الشرك فهو تعظيمٌ مع الله أو تعظيمٌ مِن دون الله؛ ولذلك كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام إيمانًا وتوحيدًا، وكان سجود المشركين للأوثان كفرًا وشِركًا مع كون المسجود له في الحالتين مخلوقًا، لكن لَمَّا كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام تعظيمًا لِمَا عظَّمه الله كما أمر الله كان وسيلة مشروعة يستحق فاعلها الثواب، ولَمَّا كان سجود المشركين للأصنام تعظيمًا كتعظيم الله كان شِركًا مذمومًا يستحق فاعله العقاب.
وعلى ذلك فهناك فرق كبير بين الوقوف تعبُّدًا للموقوف له وبين الوقوف احترامًا؛ فالأول ممنوع لغير الله تعالى، والثاني قد ورد في السنة الشريفة ما يشهد لجواز جنسه في حق المخلوقين؛ ففي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سعد بن معاذ رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُم».
قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (4/ 219، ط. دار الكتب العلمية): [يسنُّ القيام لأهل الفضل من علم أو صلاح أو شرف أو نحو ذلك؛ إكرامًا لا رياء وتفخيمًا. قال في "الروضة": وقد ثبت فيه أحاديث صحيحة] اهـ.
وقد نص العلماء على استحباب القيام للمصحف؛ قال الإمام النووي في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 191، ط. دار ابن حزم): [ويستحب أن يقوم للمصحف إذا قدم به عليه؛ لأن القيام مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار، فالمصحف أولى] اهـ.
ونص العلماء على أن جريان العادة بكون الوقوفِ لبعضهم علامةً على الاحترام يَجعَلُ تَرْكَ الوقوفِ لِمَا هو آكدُ احترامًا أقربَ إلى الذَّمِّ؛ فقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي في "الفتاوى الكبرى" (1/ 49، ط. دار الكتب العلمية): [إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض، فقد يقال: لو تركوا القيام للمصحف مع هذه العادة لم يكونوا محسنين في ذلك ولا محمودين، بل هم إلى الذم أقرب؛ حيث يقوم بعضهم لبعض، ولا يقومون للمصحف الذي هو أحق بالقيام؛ حيث يجب من احترامه وتعظيمه ما لا يجب لغيره... وقد ذكر من ذكر من الفقهاء الكبار قيام الناس للمصحف ذِكْر مُقَرِّرٍ له، غيرِ مُنْكِرٍ له] اهـ.
والقيام للعَلَمِ أو عند سماع نشيد السلام الوطني له نظير في فعل المسلمين قديمًا، فقد نص بعض العلماء على أنَّ مِن حُسْنِ الأدب ما اعتاده الناس مِن القيام عند سماع توقيعات الإمام، وأخذوا مِن ذلك أولويةَ القيامِ للمصحف، وأنَّ تَرْكَ القيامِ احترامًا إنما كان في أول الأمر، فلما اعتاده الناس وصار تركه مشعرًا بالاستهانة انتقل من الجواز إلى الاستحباب؛ جاء في "غاية المنتهى" للشيخ مرعي الكرمي وشرحه "مطالب أولي النهى" للشيخ مصطفى الرحيباني من كتب السادة الحنابلة (1/ 157-158، ط. المكتب الإسلامي): [ويباح القيام له -أي: المصحف-، قال الشيخ تقي الدين: إذا اعتاد الناس قيام بعضهم لبعض، فقيامهم لكتاب الله أحق. وفي "الفروع" و"المبدع": يؤخذ من فعل أحمد الجواز؛ وذلك أنه ذكر عنده إبراهيم بن طهمان، وكان متكئًا، فاستوى جالسًا، وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ. قال ابن عَقِيل: فأخذت من هذا حسن الأدب فيما يفعله الناس عند ذكر إمام العصر من النهوض لسماع توقيعاته. قال في "الفروع": ومعلوم أن مسألتنا أولى، وذكر ابن الجوزي أن ترك القيام كان في الأول، ثم لما صار ترك القيام كالهوان بالشخص، استحب لمن يصلح له القيام] اهـ.
فليس القيام للمصحف أو للقادم ذي الشأن إلا لإظهار الاحترام والتوقير، وتعليلات العلماء ناطقة بهذا، فلا بأس إذن من القيام عند رفع العلم أو السلام الوطني؛ إذ العلة واحدة.
أما دعوى أنه من التشبه بالكفار في عاداتهم القبيحة، فلا نسلم أصلًا أن ذلك من عادات الكفار المختصة بهم، بل تلك دعوى عارية عن الدليل، ولو صحت لقلنا: لم يصر ذلك مختصًّا بهم الآن، بل صار عادة دخلت بلاد المسلمين وتواطؤوا عليها حتى تُنُوسِيَ أَصلُها، فصارت من باب قاعدة: "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء". "المنثور للزركشي" (3/ 375، ط. وزارة الأوقاف الكويتية).
ولو كان تشبهًا بهم، فمجرد التشبه لا يكون حرامًا إلا فيما يتعلق بعقائدهم وخصوصياتهم الدينية، وقد وردت أدلة كثيرة على هذا؛ منها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بتغيير الشيب؛ فقال فيما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ»، وكان عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم لا يخضبون، ولم يُنقَل أن الخاضبين قد أنكروا عليهم بأنهم قد ارتكبوا محرمًا بتركهم الخضاب لما في ذلك من التشبه الممنوع.
وقد نقل الإمام الطبري في "تهذيب الآثار" (ص: 518، ط. دار المأمون للتراث) الإجماع على أن الأمر بتغيير الشيب والنهي عن المشابهة هنا للكراهة لا للتحريم.
ومنها: ما رواه الإمام أبو داود عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُصَلُّونَ فِى نِعَالِهِمْ وَلاَ خِفَافِهِمْ»، ولم يُنقَل عن أحد من الفقهاء القولُ بوجوب الصلاة في النعال، بل اختلفوا هل هو مستحب أو مباح أو مكروه. "فيض القدير" (4/ 67، ط. المكتبة التجارية الكبرى).
ومنها: ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أُكْلَةُ السَّحَرِ». والسحور مستحب، ونقل الإمام ابن المنذر الإجماعَ على ذلك في كتابه "الإجماع" (ص: 49، ط. دار المسلم).
ومنها: ما رواه العلامة ابن سعد في "الطبقات" (1/ 159-160، ط. دار صادر) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: «وأَمَّا أًنْتَ يا جَعفر فَشَبِيهُ خَلْقِى وَخُلُقِى»، قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا هَذَا يَا جَعفر؟» فقال: يا رسول الله! كان النجاشي إذا أرضى أحدًا قام فحجل حوله.
وظاهر ذلك أن هذه كانت عادةَ نصارى الحبشة، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه لم ينكر على جعفر ما أخذه من نصارى الحبشة، فهذا نصٌّ صريح في أن المخالفة ليست واجبة.
ومنها: ما رواه الإمام الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "قد مرضت فاطمة رضي الله عنها مرضًا شديدًا، فقالت لأسماء بنت عميس رضي الله عنها: ألا ترَين إلى ما بلغت أُحمَلُ على السرير ظاهرًا؟ فقالت أسماء رضي الله عنها: ألا لعمري، ولكن أصنع لك نعشًا، كما رأيت يصنع بأرض الحبشة، قالت: فأرِنيه. قال: فأرسلت أسماء إلى جرائد رطبة، فقطعت من الأسواف، وجعلت على السرير نعشًا، وهو أول ما كان النعش، فتبسمت فاطمة رضي الله عنها، وما رأيتها متبسمة بعد أبيها إلا يومئذٍ، ثم حملناها ودفناها ليلًا".
وهذا كان بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم ينقل إنكار أحدهم لصنيع فاطمة رضي الله عنها بأن في ذلك تشبهًا بنصارى الحبشة، فكان إجماعًا سكوتيًّا، وهو حجة.
قال في "جمع الجوامع" وشرحه للعلامة المحلي (2/ 221 مع حاشية العطار، ط. دار الكتب العلمية): [والصحيح أنه -أي: الإجماع السكوتي- حجة مطلقًا] اهـ.
وممن أشار إلى أن التشبه بغير المسلمين لا يحرم بمجرده، الإمام الحافظُ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 98، ط. دار المعرفة) عند كلامه على الأسباب التي من أجلها حَرُم استعمال أواني الذهب والفضة؛ حيث قال: [وقيل: العلة في المنع التشبه بالأعاجم. وفي ذلك نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله. ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك] اهـ.
وقال الإمام المَوَّاق المالكي في "سنن المهتدين في مقامات الدين" (ص: 249، ط. مؤسسة الشيخ مُرَبِّيهِ رَبُّه بالمغرب): [ونص مَن أثق به من الأئمة أنه ليس كل ما فعلته العجم منهيًّا عن ملابسته، إلا إذا نهت الشريعة عنه ودلت القواعد على تركه... ويختص النهي بما يفعلونه على خلاف مقتضى شرعنا، وأما ما فعلوه على وفق الندب أو الإيجاب أو الإباحة في شرعنا، فلا نترك ذلك لأجل تعاطيهم إياه؛ لأن الشرع لا ينهى عن التشبه بمن يفعل ما أذن الله فيه؛ فقد حفر صلى الله عليه وآله وسلم الخندق على المدينة تشبهًا بالأعاجم، حتى تعجب الأحزاب منه، ثم علموا أنه بدلالة سلمان الفارسي عليه] اهـ.
ثم إننا لو سَلَّمنا أن التشبُّه بغير المسلمين ممنوع في كل صوره، فإن مجرد حصول ما يشبه صنيع أهل الكتاب لا يسمَّى تشبهًا إلا إذا كان الفاعل قاصدًا لحصول الشبه؛ لأن التشبه: تَفَعُّل، وهذه المادة تدل على انعقاد النية والتوجه إلى قصد الفعل ومعاناته؛ قال الإمام السيوطي في "جمع الجوامع" وشرحه "همع الهوامع" في علوم العربية (3/ 305، ط. المكتبة التوفيقية): [وتَفَعَّل وَهُوَ لمطاوعة فَعَّل ككسرته فتكسر وعلمته فتعلم والتكلف كتحلم وتصبر وتشجع إِذا تكلَّف الْحلم وَالصَّبْر والشجاعة وَكَانَ غير مطبوع عَلَيْهَا] اهـ.
ومن الأصول الشرعية اعتبار قصد المكلف، ويدل على ذلك أيضًا ما رواه الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اشتكى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا، فقعدنا، فلما سَلَّم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم؛ إن صلَّى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا»، وكاد تدل في الإثبات على انتفاء خبرها مع مقاربة وقوعه، وفعل فارس والروم وقع منهم فعلًا، لكن الصحابة لما لم يقصدوا التشبه انتفى ذلك الوصف عنهم شرعًا.
والمسلم الذي يُحَيِّي العَلَمَ أو يقوم للسلام الوطني الشأنُ فيه أنه لا يخطر بباله التشبه بغير المسلمين، فضلًا عن قصده.
قال الإمام الطحطاوي في حاشيته على "مراقي الفلاح" (1/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [التَّشبُّه بأهل الكتاب لا يُكرَه في كل شيء؛ فإننا نأكل كما يأكلون ونشرب كما يشربون، وإنما الحرام التَّشبُّه بهم فيما كان مذمومًا وما يُقصَد به التَّشبُّه. قاله قاضي خان في شرح الجامع الصغير] اهـ.
وقال العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (1/ 624، ط. دار الفكر) معلقًا على قول صاحب "الدر المختار": [(التشبه بهم -أي: أهل الكتاب- لا يكره في كل شيء) فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون... ويؤيده ما في "الذخيرة" قبيل كتاب التحري. قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسًا؟ قال: لا. قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأن فيه تشبهًا بالرهبان؛ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان. فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلق به صلاح العباد لا يضر؛ فإن الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع اهـ. وفيه إشارة أيضًا إلى أن المراد بالتشبه أصل الفعل: أي: صورة المشابهة بلا قصد] اهـ.
أما دعوى أن ذلك يُعَدُّ بدعةً؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، فنقول: سلمنا ببدعية ذلك، ولكن لا يلزم من البدعية التحريم، لأن البدعة تطرأ عليها الأحكام الشرعية الخمسة، فالبدعة ليست مرادفة للمُحَرَّم، بل البدعة قِسْم والمُحَرَّم قِسْم.
قال شيخ الإسلام الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه الفَذِّ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 204، 205، ط. دار الكتب العلمية): [البدعة: فعل ما لم يُعهَد في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تُعْرَض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة؛ أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك واجب؛ لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب... وللبدع المحرمة أمثلة؛ منها:... مذهب المجسمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة. وللبدع المندوبة أمثلة؛ منها:... صلاة التراويح... وللبدع المكروهة أمثلة؛ منها:... تزويق المصاحف. وللبدع المباحة أمثلة؛ منها: المصافحة عقيب الصبح والعصر] اهـ.
ولمسألتنا شبيه ونظير، وهو مسألة تقبيل الخبز على وجه إكرام النعمة، والجامع بين هذه وتلك: هو إرادة الإكرام في كلٍّ دونَ نظر إلى المُكرَم بالذات، بل لما يمثله، وقد سئل العلامة الجلال السيوطي عنه، وهل هو بدعة؟ فقال في "الحاوي للفتاوي" (1/ 221، ط. دار الفكر): [أما كون تقبيل الخبز بدعة فصحيح، ولكن البدعة لا تنحصر في الحرام، بل تنقسم إلى الأحكام الخمسة، ولا شك أنه لا يمكن الحكم على هذا بالتحريم؛ لأنه لا دليل على تحريمه، ولا بالكراهة؛ لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص، ولم يرد في ذلك نهي. والذي يظهر أن هذا من البدع المباحة، فإن قصد بذلك إكرامه؛ لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحَسَنٌ] اهـ.
ونقل العلامة ابن عابدين ذلك الحكم في "حاشيته" (6/ 384، ط. دار الكتب العلمية) عن الشافعية عمومًا، ثم قال: [وقواعدنا لا تأباه] اهـ.
فإذا تقرر مما سبق أن المسؤول عنه جائز شرعًا في أصله، وحقيقة الجائز أنه مأذون في فعله أو تركه، ثم لمَّا تواضع الناس وتعارفوا على كونه دالًّا على احترام الوطن وتعبيرًا عن الانتماء ووسيلة لإظهار ذلك في الشأن الوطني والعلاقات بين الدول، صار حكمُه حكمَ مدلولِه ومقصدِه، فإذا انضاف إلى ذلك أن تركه يشعر بالاستهانة أو قلة الاحترام ويفضي إلى الخصام والشحناء وشق الصف والتراشق بالتهم بين أبناء الوطن أو المواقف المضادة في العلاقات الدولية، فإنه يتعين حينئذٍ الإعراض عن تركه؛ اتقاءً لهذه المحاذير، وممن نَصَّ على هذا المعنى الإمام شهاب الدين القرافي في "الفروق" (4/ 430، ط. دار الكتب العلمية) نقلًا عن شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ومقرًّا له؛ فقال: [حضرت يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام -وكان من أعيان العلماء، وأولي الجِد في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلًا عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم- فقُدِّمَت إليه فُتيا فيها: ما تقول أئمة الدين -وفقهم الله- في القيام الذي أحدثه أهل زماننا مع أنه لم يكن في السلف؛ هل يجوز، أم لا يجوز ويحرم؟ فكتب إليه في الفتيا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَبَاغَضُوا، ولَا تَحَاسَدُوا، ولَا تَدَابَرُوا، ولَا تَقَاطَعُوا، ووَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»، وترك القيام في هذا الوقت يفضي للمقاطعة والمدابرة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدًا] اهـ.
الخلاصة
عليه: فإن تحية العلَم المعهودة أو الوقوف للسلام الوطني أمران جائزان لا كراهة فيهما ولا حرمة كما شغَّب به مَن لا علمَ له، فإذا كان ذلك في المحافل العامة التي يُعَدُّ فيها القيام بذلك علامة على الاحترام وتركه مشعرًا بترك الاحترام: فإن الوقوف يتأكَّد؛ فيتعيَّن فعلُه حينئذٍ؛ دفعًا لأسباب النفرة والشقاق، واستعمالًا لحسن الأدب ومكارم الأخلاق.
والله سبحانه وتعالى أعلم.