ما حكم عرض المسلسل التليفزيوني محمد رسول الله؟ فقد جاء بجريدة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ 20 من رمضان 1400ه. الموافق أول أغسطس 1980م. ما يلي: يعرض التليفزيون مسلسلًا دينيًّا بعنوان: "محمد رسول الله". ويلاحظ على هذا المسلسل أنه يثير لدى الكثيرين من الغيورين على تعظيم أنبياء الله ورسله وآل بيوتهم تساؤلًا يتعلق بمدى جواز ظهور أمهات الأنبياء والرسل وأخواتهم وبناتهم على الشاشة، كما حدث مع أم موسى عليه السلام وأخته وزوجته بنت نبي الله شعيب عليه السلام، وما دُمْنا لا نجيز لأحد من الممثلين أن يؤدي شخصية النبي والرسول فإن الأمر يتطلب بالضرورة أن نفعل الشيء نفسه مع آل بيت هذا النبي أو الرسول، وطلبت جريدة الأهرام بيان الرأي في ذلك.
حكم عرض المسلسل التليفزيوني (محمد رسول الله)
إن كان ما ألمَحَتْ إليه الأهرام فيما نشرت صحيحًا، فإنَّه يجب أن يُنَقَّى هذا المسلسل وغيره من المناظر المُصَوَّرة التي يُمَثَّلُ فيها الأنبياء أو أصولهم -كالأُمِّ أو زوجاتهم وأولادهم- بأشخاص ظاهرين؛ لأنه مُنافٍ لالتزام المسلمين نحو الأنبياء بالتكريم والتوقير والبعد عن كل ما ينقص من مكانتهم التي صانها الله تعالى لهم.
وكذلك الحال مع الأصحاب الذين عاصروا الرسالة وأسهموا في إبلاغها؛ لأن القدوة فيهم من بعد النبي، ويكفي أن نسمع أقوالهم مُردَّدَةً من خلال الأصوات التالية لها.
وقد أجاب فضيلة المفتي على هذا التساؤل بالبيان التالي: تعقيبًا على ما نُشِر بجريدة الأهرام يوم الجمعة 20 رمضان 1400 هجرية في خُصوص المسلسل التليفزيوني: "محمد رسول الله" أن القصص القرآني على تنوعه ليس مجرد بيان معجز في أسلوبه وصياغته، وإنما هو مضمون موضوعي مُقيَّد بغرض ديني يَهدف إلى إبانته وتحقيقه وإقراره، فالقصة تتكرر في غير مَوضع وتُصاغ في عبارات مُغايرة وفي كل مرة تدعو دعوةً مباشرةً لشيء، وفي ذات الوقت لا تَنْفَك عن إعجاز القرآن، ومع هذا وذاك تبتعد عن الخيال، وكيف يحتويها أو يحوطها الخيال والقرآن كلمة الله.
ومن بين قصص القرآن كانت قصص الأنبياء عليهم السلام، جاءت تصحيحًا لمفاهيم خاطئة امتلأت بها كتب الديانات السابقة المحرفة، كما جاءت مُبَيِّنة لما كان لهم من شرائع درست بنبذ أهلها إياها، وتحدث القرآن الكريم عن أنبياء الله ورسله باعتبارهم المُصْطَفَيْنَ الأخيار من بني الإنسان، ومع هذا فهم بشر يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام ويجري عليهم الموت، اختارهم الله لما عَلِمَه فيهم سلفًا من نقاء وفضل، فهم أفضل البشر على الإطلاق وإن تفاوتوا في الفضل فيما بينهم ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 55]، وهم بهذه المنزلة أعَزُّ من أن يُمَثِّلَهم أو يَتَمَثَّلَ بهم إنسان أو حتى شيطان، فقد عصمهم الله واعتصموا به فلم يَزِلُّوا؛ لأنَّ لهم عصمة تصونهم وتقودهم بعيدًا عن الخطايا الكبار والصغار قبل الرسالة وبعدها، يَدُلنا على هذه الحصانة كما نُسَميها في تعبيراتنا العصرية الحديث الشريف الذي رواه أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي» رواه البخاري، وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِى فِى الْيَقَظَةِ، لاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى» رواه مسلم، وهذا واضح الدلالة في أن الشيطان لا يَظهر في صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيانًا أو منامًا؛ صونًا من الله لرسله وعصمةً لسيرتهم بعد أن عصم ذمتهم ونفوسهم، وإذا كان هذا الحديث الشريف يَقُودنا إلى أن الله قد عصم خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام من أن يَتَقمص صورتَه شيطانٌ فإن فقه هذا المعنى أنه يَحرم على أي إنسان أن يتقمص شخصيته ويقوم بدوره، وإذا كان هذا هو حكم الفقه في جانب الرسول الخَاتَم فإنه أيضًا الحكم بالنسبة لمن سبق من الرسل؛ لأن القرآن الكريم جعلهم في مرتبة واحدة من حيث التكريم والعصمة، فإذا امتنعوا بعصمة من الله أن يتمثلهم الشيطان امتدت هذه العصمة إلى بني الإنسان فلا يجوز لهم أن يمثلوا شخصيات الرسل؛ إذ لا يُوجد الإنسان الذي ابيضَّتْ صفحتُه وطَهُرت سيرتُه ونقَّاه الله من الخطايا والدنايا كما عصم أنبياءه ورسله، ويستدل على ذلك من قول الله سبحانه: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، وإذا كان في قَصَصِهم عبرة لأولي الألباب كما قال القرآن: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111]. فإنَّ القصة لا تُستَفاد منها العبرة آخذة بالنفوس إلا إذا كانت من الإنسان الذي اصطفاه الله واختاره لإبلاغ الرسالة وإنقاذ أمته، وكيف تتأتى الاستفادة من تمثيل إنسان لشخص نبي ومن قبلُ مثَّل شخصَ عربيدٍ مقامرٍ وسكيرٍ رفيق حانات وأخ للدعارة والداعرات، ومن بعد يمثل كل أولئك أو الكثير منهم؟! إنه لجميل جدًّا أن نتجه إلى القَصَص القرآني نَعرضه بطرق العصر ولغته ومواده ونُقربه إلى أذهان أولادنا بدلًا من القصص المستورد الذي يُحرض على التحلل والانحلال، نعم إن هذا أمر محمود، لكن لا بد فيه من الالتزام بآداب الإسلام ونصوص القرآن، ولنصوِّر الوقائع كما حكاها القرآن واقعًا لا خيال فيه، ولنحجب شخص النبي الذي تُعْرض قَصَصُه مع قومه، فلا يَتَمثلُه أحد، وإنما نَسمع من يُرَدِّدُ إبلاغه الرسالة ومُحاجَّته لقومه وإبانته لمعجزته كما أوردها القرآن الكريم، وإذا كان هذا أمرًا لازمًا بمقتضى فقه ذلك الحديث الشريف، فإن ما بدا من مسلسل "محمد رسول الله" من إظهار شخص المتحدث باسم رسول الله موسى عليه السلام وقت النطق بما يُردده من أقوال هذا النبي، هذا الذي حدث يكون منافيًا لالتزامنا نحن المسلمين نحو الأنبياء من التكريم والتوقير والارتفاع عن الغض من مكانتهم التي صانها الله.
كما أن النبي هارون وأم موسى وأخته وزوجه يأخذون هذا الحكم، فلا يجوز أن يَتَقمَّصَ أشخاصَهم أحدٌ من المُمَثِّلين بل نسمع الأقوال المنسوبة إليهم نطقًا؛ لأنَّ الله سبحانه كرم أُمَّ موسى بقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7]، وأيًّا ما كان معنى هذا الوحي وطريقه فهو وحي من الله إلى من اصطفاها أُمًّا لنبيه ترتفع به عن مستوى الغير فلا تتمَثَّلُها امرأةٌ مع الاحترام لأشخاص من قاموا بهذا التمثيل، وهذه أخته وهذه زوجه لكل منهما مكانتُها وموضعها الذي رفعها الله إليه في قرآنه، ثم هذا النبي هارون شريك موسى في الرسالة ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي • وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ [طه: 31-32]، إن فقه كل ذلك يجعل لأولئك مكانًا عليًّا بالتبع لهذا النبي إن لم يكن لذواتهم التي كرمها الله وشرفها بالوحي، ولعلنا نسترشد في هذا المعنى بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حق نفسه ونشأته ونسبها: «أنا خيارٌ مِن خيار».
وهذا الحكم كما سبق يمتد إلى غيره ممن سبقه من الأنبياء، من أجل ذلك يجب أن يُنَقَّى هذا المسلسل وغيره من المناظر المُصَوَّرة التي يُمَثل الأنبياءُ فيها بأشخاص ظاهرين أو يمثل فيها أصولُهم كالأم أو زوجاتهم وأولادهم، بل إن هذا الحظر يمتد إلى الأصحاب الذين عاصروا الرسالة وأسهموا في إبلاغها؛ لأن القدوة من بعد النبي في هؤلاء الأصحاب، ومن ثم كان لزامًا صونهم عن التمثيل والتشخيص، ويكفي أن نسمع أقوالهم مُرَدَّدَة من خلال الأصوات التالية لها، وإني لأهيب بالمسؤولين عن الإذاعة والتليفزيون أن يبادروا إلى تصحيح ما وقع من تجاوز في هذا المسلسل وغيره، إن كان ما ألمحت إليه الأهرام فيما نشرت صحيحًا، وأهيب بالمسؤولين عن الثقافة في المسارح أن يعيدوا النظر فيما لديهم من قصص مُستَقاة من القرآن أو السيرة النبوية الشريفة، وأن يَرفعوا منها كل ما كان فيه تشخيص لأحد الأنبياء أو زوجه أو ولده ووالده ووالدته أو أحد أصحابه، فإنه إذا كانت المصلحة في تقريب القصص تمثيلًا وتصويرًا للناس إلا أن المفسدة في تجسيد النبي أو أحد هؤلاء الأقربين إليه عظيمة والخطر منها أفدح، ولا شك أن "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" كما تقضي قواعد الشريعة.
وأهيب بمن بيدهم الرقابة على هذه المُصَنفات أن يُتابعوا مراحل إعدادها وإخراجها، وأن يقولوا للناس ما انتهوا إليه من رأي فيها، فإنهم إن سكتوا عما فيها من تجاوزات كانوا مُقرين لها وهم في هذا آثمون مخالفون للحديث الشريف: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» رواه مسلم.
إن شريعة الإسلام هي قانوننا بمقتضى نصوص القرآن والسنة تنظيميًّا بمقتضى المادة الثانية من دستورنا.
ومن أجل هذا أهيب بالمختصين في مجمع البحوث أن يتخذوا الإجراءات القانونية في حال ثبوت مخالفة النصوص المعتمدة للقصص القرآنية أو المستمدة من السيرة النبوية لوقف إذاعتها أو إخراجها تمثيلًا أو تصويرًا. والله الهادي إلى سواء السبيل وهو ولي التوفيق.
والله سبحانه وتعالى أعلم.