نطلب رأي الدار الموقرة في عطلة الجمعة والسبت بدلًا عن الخميس والجمعة، وهل في ذلك تشبُّه بغير المسلمين؟
حكم اتخاذ يومي الجمعة والسبت عطلة
العطلات والإجازات إنما هي من المباحات المحضة التي لم يَرِد فيها تشريعٌ بخصوصه، والأمر راجعٌ فيها إلى المصلحة العامة؛ فينظمها وليُّ الأمر بما خَوَّلته له الشريعة من سُلطة تقييد المباح.
ودعوى التشبُّه بغير المسلمين إذا ما وافقت إجازتُهم إجازةَ المسلمين مردودةٌ بأن التَّشبُّه المذموم هو فيما كان شعارًا للدِّين مع قصد التشبُّه، وهو غير متحقِّقٍ هنا.
التفاصيل ....المحتويات
من له الحق في تحديد أيام الأجازات
من المقرر شرعًا أن تصرفات الحاكم مَنُوطة بالمصلحة، وأن له تقييد المباح.
ومسائلُ العطلات والإجازات وأيامها هي من المباحات المحضة التي لم يَرِد فيها تشريعٌ بخصوصه، وليس ثَمَّةَ ارتباطٌ شرعي بين الأعياد وبين العطلات والإجازات، فليس من الموروث عن سلفنا الصالح أن عيد الأسبوع وهو الجمعة أو العيدَين السنويَّين الفطر والأضحى يكونان عطلتين أو إجازتين، بل ذلك أمر تواضعت عليه المجتمعات العربية والإسلامية في زمن ما ومكان ما لمصلحة ناسبت ذلك الزمان أو ذلك المكان.
وأعيادُنا الشرعية تدعونا إلى العمل لا إلى البطالة؛ فباستثناء الصلوات والطهارة لها فالمسلم لا ينقطع عن عمله في العيد ولا في غيره انطلاقًا من وازعٍ ديني أو باعث شرعي، ولا يَحكُمُه في ذلك إلا المصلحةُ الخاصة أو العامة، وتنظيم المصلحة العامة يكون لولي الأمر بحكم المنصب الذي قلَّده الله تعالى إياه.
والنصوص الشرعية تنصح بذلك؛ فالله تعالى ينهانا عن البيع -أي: وسائر العقود والمعاملات- بعد الأذان الثاني يومَ الجمعة بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: 9]؛ مما يدل أنه قبل الجمعة يجوز التعامل بالبيع والشراء وغير ذلك من إقامة الأسواق وممارسة الحياة بكافة أنشطتها، وأن ذلك يجب التوقف عنه لخصوص صلاة الجمعة، وأنه مخصوصٌ بمن يَتَوَجَّب عليهم الجمعة دون مَن سواهم، ثم بعد ذلك يقول عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: 10]؛ أي عُودُوا إلى حياتكم العامة وما ترونه صالحًا لدينكم ودنياكم، وإلى ما يُفِيدُكم فيما خُلِقتم من أجله مِن عبادة وعِمارة، ولم يَدعُنا النصُّ الشرعي للإجازة في يوم الجمعة، ولا للبقاء في المسجد وجوبًا أو حتى استحبابًا.
ومن النقول الفقهية ننتقي ما ساقه شيخ الإسلام البيجوري في "حاشيته" على ابن قاسم شارح "متن أبي شجاع" في فقه السادة الشافعية في (باب الإجارة)؛ حيث قال: [واعلم أنه لو استأجره لعمل وقَدَّره بمدة فزمنُ الطهارةِ والصلاةِ -ولو السننَ الراتبة- مستثنًى شرعًا، ولا يُنقَص من الأجر شيءٌ، وكذلك السبت لليهود والأحد للنصارى] اهـ.
وهذا النقل وأمثاله وهو قريب عهد بِنَا؛ حيث إن البيجوري رحمه الله تعالى متوفًّى في عام 1277هـ يدل على حال المسلمين من كونهم لا يتعطلون حتى في يوم الجمعة، وأن عطلة السبت والأحد هذه خاصة بغير المسلمين؛ مما يدل على أن أصل عطلة الجمعة ليست أصيلة عند المسلمين، بل طرأت على مجتمعاتهم، والظنُّ أن اختيارهم يوم الجمعة كعطلة راجع لغرضٍ صحيحٍ يناسب مجتمعاتهم وقتها.
مما سبق يتبين أنه لو بدت المصلحةُ في اتخاذ يومٍ أو أكثر من أيام الأسبوع للعطلة أو الإجازة فمرجع ذلك للاتفاق والتواضع المصلحيين.
زعم التشبه بغير المسلمين في العطلة يوم السبت
ما قد يَعِن لبعضهم من شُبهةِ تَشَبُّهٍ بغير المسلمين في اختيار إجازة وعطلة يوم السبت فمردودٌ بأن التَّشبُّه المذموم هو فيما كان شعارًا للدين مع قصد التَّشبُّه، أما إن كان في أمرٍ عارٍ عن كونه شعارًا للدين يميز أصحابه عن سائر المِلَلِ والنِّحَلِ أو كان خاليًا عن قصد التَّشَبُّه فلا يكون حرامًا ولا ممنوعًا شرعًا؛ وها هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يحاكي الرومَ في عمل الدواوين، وما نَعَتَه أحدٌ بالبدعة المذمومة أو بكونه متشبهًا بالكفار، وها هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما فُتِحت بلاد الفرس صَلَّوا في سراويلهم، وما كان هذا معدودًا من التَّشبُّه بغير المسلمين، والمسلمون الآن يلبسون ألبسةً هي في أصل نشأتها وتاريخ منشئها ألبسةٌ لغير المسلمين، لكنها لم تعد الآن شعارًا لهم ولا خاصَّةً بهم، بل تُنُوسِيَ أَصلُها ولم تَعُد حكرًا على أصحابها الأوائل.
ولَمَّا تكلم الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" عن (الطَّيلَسان) الذي هو في أصله من ألبسة اليهود، وعن حديث: «مَن تَشَبَّهَ بقَومٍ فهو منهم» قال: [وإنَّما يَصلُحُ الاستِدلالُ بقِصَّةِ اليَهُودِ في الوَقتِ الذي تَكُونُ الطَّيالِسة مِن شِعارهم، وقد ارتَفَعَ ذلك في هذه الأَزمِنة فصارَ داخِلًا في عُمُوم المُباح، وقد ذَكَرَه ابنُ عبدِ السَّلام في أَمثِلة البِدعة المباحة] اهـ.
ولا يستطيع أحدٌ أن يدَّعي أن السبت الآن هو شعارٌ على اليهود فقط؛ بل إن معظم العالم على اختلاف مذاهبه وملله يَتَّخِذه إجازةً وعطلة لمصلحة يَرتَئيها، فلم يعُد خاصًّا بهم، أضف إلى ذلك أن المسلم إذا وجد المصلحةَ في اتخاذ السبت إجازة أو عطلة وتَرَجَّحَ له ذلك فإنه يكون من باب المصلحة لا غير، ودون التفاتٍ بالتَّشبُّه باليهود أو احترامٍ لشيء يخصُّهم.
الخلاصة
تلخص مما سبق: أن الأمر في اتخاذ الجمعة والسبت إجازةً أمرٌ راجعٌ للمصلحة والسياسة الشرعية، فينبغي أن يكون الجهدُ الحقيقي موجهًا للبحث عن كون ذلك مظنةً للمصلحة مِن عدمه، ثم تكون التجربة العملية والتنفيذ الفعلي حاكِمَين على راجحية التقنين أو مرجوحيته. أمَّا الانبعاث في الحكم على ذلك من منطلق التَّشبُّه أو البدعة أو ما شابه فهو إبعادٌ للنُّجعة وتَبوِيرٌ للسِّلعة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.