الخلافة والدولة الإسلامية

الخلافة والدولة الإسلامية

 هل توجد دولة بعد الخلافة العثمانية تعدُّ دولة إسلامية، وما حكم طاعة الحكام في هذه الحالة؟

الخلافة أو الإمامة العظمى مترادفتان في الدلالة على معنًى واحدٍ هو القيام بخلافة صاحب الشَّرع في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا، والحاصل الآن أن منصب الخلافة بمعناها المتمثِّل في شخصٍ واحد قد انقضى، إلا أنَّ علَّته المتمثلة في الحفاظ على مصالح الناس وسياستهم لا تزال قائمة، وهذا بعينه ما يقوم به رئيس الدولة حديثًا؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شؤونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر.
وبما أنَّه قد تقرر شرعًا أن "الميسور لا يسقط بالمعسور"، فعند تعسَّر وجود رجل واحد متمثِّل في شخص الخليفة، ووُجد حكامٌ أعانوا الناس على إقامة الشعائر وساسوهم بما يُحقق مصالحهم، فإنه تجبُ طاعتهم شرعًا ما لم يأمروا الناس بمعصية.

التفاصيل ....

الخلافة هي: القيام مقام صاحب الشرع لتحقيق مصالح الدين والدنيا؛ قال ابن خلدون في "مقدمة التاريخ" (1/ 239، ط. دار الفكر): [الخلافة هي حمل الكافَّة على مقتضى النَّظر الشَّرعي في مصالحهم الأخرويَّة والدُّنيويَّة الرَّاجعة إليها؛ إذ أحوال الدُّنيا ترجع كلُّها عند الشَّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشَّرع في حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا به] اهـ.
وقد نصَّ العلماء على أن إقامة الخلافة فرض كفاية على الأمة؛ إذ لا بد لها ممن يقيم لها أمور دينها ودنياها، فبه يدفع الله تعالى الظلم عن الناس ويحقق لهم المصالح ويدفع عنهم المفاسد.
قال السعد التفتازاني في "شرح العقائد النسفية" (ص 96، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [الإجماع على أن نصب الإمام واجب] اهـ.
وقال ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 548، ط. دار الفكر): [(قوله ونصبه) أي: الإمام المفهوم من المقام، (قوله: أهم الواجبات) أي من أهمها؛ لتوقف كثير من الواجبات الشرعية عليه] اهـ.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (4/ 108، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(باب الإمامة) العظمى (وهي فرض كفاية) كالقضاء؛ إذ لا بد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلومين ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها (فإن لم يصلح) لها (إلا واحد)، ولم يطلبوه (لزمه طلبها) لتعينها عليه (وأجبر) عليها (إن امتنع) من قبولها] اهـ.
وقال الرملي الكبير في "حاشيته على أسنى المطالب" (4/ 108، ط. دار الكتاب الإسلامي): [قال قوم: الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص... والأولى أن يقال: هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كل كافة الأمة. (قوله: وهي فرض كفاية) للإجماع، وقد بادر الصحابة إليها، وتركوا التشاغل بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم مخافةَ أن يدهمهم أمر، وأيضًا لو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يردعهم عن الباطل رادع لهلكوا، ولَاسْتَحْوَذَ أهل الفساد على العباد؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ [البقرة: 251]] اهـ.
ولما جاء الإسلام نقل العرب من كونهم رعاة للغنم إلى كونهم رعاة للأمم، ونقلهم إلى الحضارة في شتى مناحي الحياة صغيرها وجليلها. وكان من مظاهر هذه الحضارة أنه نقلهم من القبلية إلى الدولة، المتمثلة في نظام الخلافة، وقد حافظ المسلمون على الحكم بها، وعلى توحيدها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، حتى في زمن ضعف الخلافة وظهور الدويلات والسلاطين راعى كثير منهم إظهار التبعية الظاهرة للخلافة ولو بالدعاء للخليفة على المنابر، ثم حدث أن نزلت بالمسلمين نازلة إلغاء الخلافة سنة 1342هـ /1924م، وانقسمت البلاد الإسلامية إلى دول ودويلات رسمت حدودها اتفاقية "سَيكِس بيكو".
وهذه البلاد المقسمة صار لكل واحدة منها دستور ورئيس وقانون يحكمها وسيادة على أراضيها مستقلة عن غيرها؛ ومن هنا فإنه يمكن أن نعدَّ هذا شبيهًا بالدويلات التي كانت قائمة في عصر ضعف الخلافة، فهي وإن كانت غالبًا تخضع للخلافة ولو في الصورة، فإن بعضها قد انفصل نهائيًّا وصار هناك أكثر من خلافة، كما حدث في دولة الأندلس حين بدأت تابعة للخلافة ثم غلب عليها عبد الرحمن الداخل فلم يعد للخليفة العباسي إلا الدعاء له، ثم منع الدعاء له وتسمت الدولة باسم (الإمارة)، ثم أعلنت (الخلافة).
ومع ذلك كانت تقوم بأمر الخلافة كاملًا من أمور اقتصادية وحربية وقضائية وغير ذلك، ولم يمتنع الجند من الجهاد في الدولة، وكذا باشر الأئمة في المساجد أعمالهم، وتصدى القضاة والفقهاء للقضاء والفتيا والتدريس والتصنيف.
قال ابن خلدون في "مقدمة التاريخ" (1/ 260، ط. دار الفكر): [صار الأمر إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحرِّي الدِّين ومذاهبه والجري على منهاج الحقِّ، ولم يظهر التَّغيُّر إلَّا في الوازع الَّذي كان دِينًا ثم انقلب عصبيَّة وسيفًا، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصَّدر الأوَّل من خلفاء بني العبَّاس إلى الرَّشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبقَ إلَّا اسمها وصار الأمر مُلكًا بحتًا، وجرت طبيعة التَّغلُّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتَّقلُّب في الشَّهوات والملاذِّ، وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرَّشيد من بني العبَّاس واسم الخلافة باقٍ فيهم؛ لبقاء عصبيَّة العرب، والخلافة والملك في الطَّورين ملتبس بعضهما ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيَّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكًا بحتًا، كما كان الشَّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبرُّكًا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء، وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب، مثل صنهاجة مع العبيديِّين ومغراوة وبني يفرن أيضًا مع خلفاء بني أميَّة بالأندلس والعبيديِّين بالقيروان، فقد تبيَّن أنَّ الخلافة قد وجدت بدون الملك أوَّلا ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيَّته من عصبيَّة الخلافة، والله مقدِّر اللَّيل والنَّهار وهو الواحد القهَّار] اهـ.
وعليه: فمن حكم دولة من هذه الدول المعاصرة فإن له حكم الإمارة، فيجب على الناس أن يطيعوه، ما لم يأمرهم بمعصية؛ فالغرض من الإمامة هو بعينه ما يقوم به رئيس الدولة حديثًا؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شؤونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر، وهو ما قام به أمراء الدويلات قديمًا، وبما قامت به الخلافات المتعددة الخارجة عن الخلافة الأم.
وقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح عليه». وفي هذا الحديث أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قد تولى الإمارة دونَ إمرة، ورضي المسلمون عن هذا الأمر وأطاعوه في باقي المعركة، وأقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك من غير نكير، بل وردَ مدحُه له، وتأييد الله له بالفتح، ولم ينزل فيه وحي ينقض ما صنعه أو يلومه كما يحدث في مثل هذه الأمور.
قال ابن المُنَيِّر: يؤخذ من حديث الباب أن من تعين لولاية وتعذَّرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المعين شرعًا وتجب طاعته حكمًا. كذا قال، ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه] اهـ. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6 /180، ط. دار المعرفة).
ونقل إمام الحرمين في "غياث الأمم" (ص 387، ط. مكتبة إمام الحرمين) عن بعض العلماء أنه قال: [لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قُطَّانِ كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات] اهـ.
وعلَّق الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني جواز نصب إمامين في إقليمين عند الحاجة؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (10 /47، ط. المكتب الإسلامي): [وقال الأستاذ أبو إسحاق: يجوز نصب إمامين في إقليمين؛ لأنه قد يحتاج إليه، وهذا اختيار الإمام -يعني الجويني] اهـ.
كما يؤيد ذلك القاعدة الشرعية أنَّ "الْمَيْسُور لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ"؛ فإذا كان المطلوب شرعًا أن يكون الأمراء حاكمين الدول تحت إمرة واحد، هو الخليفة، ثم تعسَّر وجود الخليفة، لم يسقط وجوب حكم أمراء الدول، وفي معناهم رؤساء الدول المعاصرة.
كما أن القول بغير هذا يؤدي إلى أن يصير الناس ولا رئيسَ لهم ولا ضابط يسوسهم، وهذا مآله إلى الفوضى وعدم استقرار أمور البلاد والعباد، وهو ضد مقصود الشارع من كل وجه؛ لغلبة المفاسد المترتبة عليه التي تَكِرُّ على المقاصد الشرعية الخمسة التي جاءت كل الملل بحفظها بالنقصان أو بالبطلان، وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال.
ولذلك فإن المتصفح للفقه الإسلامي يجد أن الفقهاء قد أقرُّوا أشياء هي في مبدئها مذمومة، ولكنها لما وقعت ولم يكن بُدٌّ عنها لصلاح العباد والبلاد واستقرار الأمور عَدُّوها مشروعة من حيث هي وقعت، فهي من باب "ما يغتفر في الدوام ولا يغتفر في الابتداء".
من ذلك: الاعتراف بإمارة المتغلب؛ قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 13، ط. دار المعرفة): [وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء... ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها] اهـ.
وقال في "مطالب أولي النهى" من كتب الحنابلة (6/ 263، ط. المكتب الإسلامي): [(لو تغلَّب كل سلطان على ناحية) من نواحي الأرض، واستولى عليها (كـ) ما هو الواقع في (زماننا فحكمه)؛ أي: المتغلب (فيها)؛ أي: الناحية التي استولى عليها (كـ) حكم (الإمام) من وجوب طاعته في غير المعصية والصلاة خلفه وتولية القضاة والأمراء ونفوذ أحكامهم وعدم الخروج عليه بعد استقرار حاله؛ لما في ذلك من شق العصا وهو متجه] اهـ.
ومنه أيضًا: عدم اشتراط العدالة في الإمام لدفع المفسدة الأكبر المترتبة على عدم تعيينه وعدم الحكم بصحة من يعينه من القضاة وغيرهم.
قال العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (1/ 79، ط. دار الكتب العلمية): [وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان] اهـ.
وهذه الدول ما دام سكانها أو أغلبهم من المسلمين ويستطيعون القيام بشعائرهم الدينية ويظهرون أحكام دينهم دون أن يمنعهم مانع من ذلك، فهي بلاد إسلامية؛ قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (2 /499، ط. المكتبة الإسلامية): [(دار الإسلام) بأن يسكنها المسلمون، وإن كان فيها أهل ذمة (أو كانت للإسلام) بأن فتحها المسلمون وأقروها بيد الكفار أو كانوا يسكنونها، ثم جلاهم الكفار عنها] اهـ.
وعليه: فإن الدول التي يتحقق فيها هذا الوصف الآن هي دول إسلامية، وحكامها شرعيون يجب طاعتهم ما لم يأمروا الناس بمعصية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا