طلاق الغضبان إذا تم توثيقه وطلاق المكره

طلاق الغضبان إذا تم توثيقه وطلاق المكره

رجل متزوج من نحو ستة عشر عامًا، وله ابن سنُّه أربعة عشر عامًا، وقد حدثت خلافات بينه وبين زوجته كان من نتيجتها أن أثبت طلاقها رسميًّا لدى المأذون في إشهادٍ قرر فيه أنه طلقها مرتين مع أن إحدى هاتين المرتين كان الطلاق فيها في حالة غضب شديد، والأخرى التي كانت بتاريخ الإشهاد كانت في حالة عادية، ثم حدث بعد هذا أن قامت أزمة خلاف شديد احتدم بينهما، وتألمت منه الزوجة ألمًا نفسيًّا شديدًا دفعها إلى تهديده بالانتحار إن لم يطلقها، ولعلمه لظروفها النفسية وظرفه الاجتماعي، ورغبةً في تهدئة خاطرها، ومنعًا لها من إتمام تنفيذ تهديدها حيث كان نصفها خارج البلكونة من الدور الثامن نطق بالطلاق بقوله: "أنت طالق" في مواجهتها. فهل الطلاق الذي نطق به السائل وقت غضبه، والطلاق الذي نطق به في حال محاولتها الانتحار بإلقاء جسدها من البلكونة في الدور الثامن، هل هذان الطلاقان واقعان شرعًا مع هذه الظروف، أم لا؟

طلاق الغضبان لا يقع إذا بلغ الغضب بالزوج نهايته وكان لا يدري ما يقول ولا ما يقصده، أو كان الغضب أخف من ذلك لكنه يسبب له خللًا واضطرابًا في أقواله وأفعاله، أما إذا كان الغضب لا يحول دون إدراك ما يصدر منه وكان يعي ما يقول فإن الطلاق في هذه الحالة يقع، ومع ذلك لا يجوز إسقاط هذا الطلاق إلا بحكم المحكمة المختصة ما دام قد وثقه لدى المأذون.
أما طلاق المكره المذكور فلا يقع إذا كانت الزوجة قادرة على تحقيق ما هددت به وعجز الزوج عن منعها من ذلك وغلب على ظنه إصرارها على فعل ما تُقْدِمُ عليه إن لم يطلقها في الحال، مع عدم توافر أي اختيار للزوج إلا التلفظ بصريح الطلاق بغير نية الطلاق، وعلى الزوج أن يتقي الله في تقدير ظروف الطلاق على النحو السالف بيانه؛ لأن الأمر متعلق بحلِّ وحرمة عشرته لزوجته.

التفاصيل ....

نصَّ الفقهاء على أن طلاق الغضبان لا يقع في حالتين:
الحالة الأولى: أن يبلغ به الغضب نهايته فلا يدري ما يقوله ولا يقصده.
الحالة الثانية: أن لا يبلغ به الغضب هذه الحالة، ولكنه يصل به إلى حالة الهذيان، فيغلب الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، أما إذا كان الغضب أخف من ذلك وكان لا يحول دون إدراك ما يصدر منه ولم يستتبع خَلَلًا في أقواله وأفعاله وكان يعي ما يقول، فإن الطلاق في هذه الحالة يقع من غير شبهة، واختلف فقهاء الشريعة في وقوع طلاق المكره أو عدم وقوعه: فذهب الفقه الحنفي إلى وقوع الطلاق مع الإكراه، وذهب فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن طلاق المكره غير واقع؛ لحديث: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» رواه ابن ماجه، وبهذا النظر جاء حكم المادة الأولى من القانون رقم 25 لسنة 1929م حيث قررت أن طلاق السكران والمكره لا يقع، واختلف أصحاب هذا الرأي في مدى الإكراه وشروطه.
ففي الفقه المالكي: إن الإكراه على إيقاع الطلاق بالقول لا يلزم به شيء لا قضاء ولا ديانة، بشرط أنه لا ينوي حلَّ عقدة الزواج باطنًا، ثم إن الإكراه الذي لا يقع به الطلاق هو أن يغلب على ظن المكرَه أنه إن لم يفعل الطلاق يلحقه أذًى مؤلم من قتل أو ضرب كثير أو قليل أو سجن وإن لم يكن طويلًا أو يغلب على ظنه أنه إن لم يطلق يقتل ولده أو يلحقه أذًى، ومثل الولد الوالد، ففي هذه الأحوال إذا طلق لا يقع الطلاق، ومثل التهديدِ بما سلف التهديدُ بإتلاف المال أو أخذه ولو كان يسيرًا على المعتمد في المذهب. اهـ. "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (2/ 415 وما بعدها).
وفي الفقه الشافعي: إن الإكراه يحصل بالتخويف في نظر المكره كالتهديد بالضرب الشديد أو الحبس أو إتلاف المال، وتختلف الشدة باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، فالوجيه الذي يهدد بالتشهير به أو الاستهزاء به أمام الملأ يعتبر ذلك في حقه إكراهًا، والشتم في حق رجل ذي مروءة إكراه، ومثل ذلك التهديد بقتل الولد أو الفجور به أو الزنا بامرأته؛ إذ لا شك في أنه إيذاء يلحقه أشدُّ من الضرب والشتم، ومثل ذلك التهديد بقتل أبيه أو أحد عصبته وإن علا أو سفل أو إيذاء بجرح، وكذلك التهديد بقتل قريبه من ذوي أرحامه أو جرحه أو فجور به كل ذلك يعتبر إكراهًا، وقال الفقهاء الشافعيون: إن طلاق المكره لا يقع بشروط أن يقع التهديد بالإيذاء من شخص قادر على تنفيذ ما هدد به عاجلًا، وأن يعجز المكره عن دفع التهديد وأن يظن المكره أنه إن امتنع عن الطلاق يقع الإيذاء الذي هدد به، وأن لا يكون الإكراه بحق، وأن لا يظهر من المكره نوع اختيار، وأن لا ينوي الطلاق. "تحفة المحتاج وحواشيها بشرح المنهاج" (8/ 36، 37) في كتاب الطلاق.
ويشترط الفقه الحنبلي لعدم وقوع طلاق المكره: أن يكون الإكراه بغير حق، وأن يكون بما يؤلم كالقتل أو قطع اليد أو الضرب الشديد أو ضرب يسير لذي مروءة، أو أخذ مال كثير، أو إخراج من الديار، أو تعذيب لولده بخلاف باقي الأقارب، وأن يكون المهدد قادرًا على تنفيذ ما هدد به، وأن يغلب على ظن المكره أنه إن لم يطلق يقع به الإيذاء المهدد به، وأن يعجز عن دفع ما هدد به. "المغني" لابن قدامة الحنبلي (7/ 315) في كتاب الطلاق.
ومن هذا العرض الموجز لأقوال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الإكراه الذي لا يقع معه الطلاق وشروطه يظهر أن الفقه الشافعي هو الذي اتسعت فيه دائرة الإكراه حيث يتضح من الأمثلة المضروبة فيما سبق أنهم لا يقصرون الإيذاء الواقع بالإكراه على ذات المكره فقط، بل إذا كان الإكراه بإيذاء بقتل أو فجور أو قطع أو ضرب لأحد عصبته أو ذوي الأرحام كما مثلوا بالزنا بامرأة المكره، وإن تلك الأمثلة بوجه عام تعني أن فقهاء هذا المذهب قد راعوا ما نسميه الآن بالإكراه الأدبي، لما كان ذلك وكان السائل قد قرر في طلبه أنه أوقع الطلاق الأخير بلفظ صريح نزولًا على طلب زوجته التي أقدمت على الانتحار بإلقاء نفسها من شرفة المسكن بالدور الثامن وكان نصف جسدها في الهواء خارج الشرفة دخل هذا الفعل منها في باب الإكراه الأدبي لزوجها السائل تخريجًا على الأمثلة التي ذكرها فقهاء الشافعية، لكن يلزم توافر الشروط التي اشترطها هؤلاء الفقهاء؛ لعدم وقوع الطلاق، وموجزها أن تكون هذه الزوجة وقت التهديد قادرة على فعل ما هددت به وأقدمت عليه فعلًا، وأن يكون السائل في حالة عجز بنفسه أو باستغاثة عن منعها من الانتحار بهذا الطريق، وأن يغلب على ظنه إصرارها على الانتحار إن لم يوقع الطلاق في الحال، وأن لا يظهر منه نوع اختيار كما إذا أكره على الطلاق بلفظ محدد فنطق بلفظ آخر، وأخيرا أن لا ينوي الطلاق وقت التلفظ به حال الإكراه بمعنى أن لا يوافق لفظه نية مستقرة في قلبه بالطلاق، فإذا توافرت هذه الشروط في حال السائل فإنه يكون مكرهًا إكراهًا أدبيًّا فلا يقع باللفظ الذي صدر منه في حال إقدام زوجته على الانتحار بالكيفية الموضحة بالسؤال طلاقٌ، وأمْر التحقق من توفر هذه الشروط متروكٌ له شخصيًّا، وعليه الإثم إن لم تكن الشروط متحققة، أما عن الطلاق الذي قال إنه أوقعه في حال غضب شديد فإنه إذا كان الغضب قد بلغ به واحدةً من الحالتين الموصوفتين فإن طلاقه الذي نطق به حال الغضب غير واقع، وإذ أقر به في ورقة رسمية هي إشهاد الطلاق فلا يرفع أثره نظامًا وتوثيقًا إلا حكمٌ من المحكمة المختصة، أما إذا كانت حالة الغضب ليست في نطاق واحد من تلك الحالتين، بل كانت في نطاق الحالة الثالثة من حالات الغضب، فإن الطلاق فيها واقع، وعليه أيضًا عبء تقدير درجة غضبه بنفسه أو بمن شاهده حال الغضب ممن يوثق بدينهم، فليتَّقِ اللهَ السائلُ في تقدير ظروف الإكراه والغضب وانطباقها فعلًا على ما تقدم من بيان؛ لأن الأمر متعلق بحلِّ وحرمة عشرته لزوجته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا