الاستفادة من ضرائب الخمر والسجائر

الاستفادة من ضرائب الخمر والسجائر

خصصت الحكومة التايلاندية جزءًا من الضريبة المجبية من إنتاج وتجارة الخمور والسيجارات في الدولة، قدره 2% سنويًّا، تستخدمه في تأسيس وتمويل جهاز مستقل تسميه صندوق تدعيم الصحة العامة، يقوم هذا الجهاز بمكافحة شرب الخمر والدخان في المجتمع التايلاندي، موزعًا ميزانيته المعطاة من قِبل الحكومة إلى سائر المدن والقرى في تايلند لتنفيذ المشاريع المتحدة؛ بغية تقليل ظاهرة شرب الخمر والتدخين في المجتمع، حدثت المشكلة عندما عرض الصندوق ميزانيته للمجتمع المسلم في تايلاند؛ إذ نشب الخلاف حول ما إذا كانت هذه الميزانية حلالًا أم حرامًا؛ لأنه معلوم أنها ضريبة مأخوذة من إنتاج وتجارة الخمور والسيجارات خاصة، حيث لا تضعها الحكومة في خزانتها العامة فتختلط مع الضرائب الأخرى. يرى البعض أنها حرام؛ لأنها نتاج الأعمال المحرمة شرعًا، والبعض الآخر يرى أنها حلال بحجة أن تايلاند دولة غير إسلامية، فلا يتوقع من حكومتها أن تقتصر على الوسائل الحلال في البحث عن الدخل للدولة، وأنه لو لم يقبلها المسلمون لزادت مشاكل الصحة في مجتمعهم.
فما هو الحكم الإسلامي في هذه القضية؟ نرجو من فضيلتكم إفادتنا بإطناب التوضيح المتوافر بالحجج والأدلة الشرعية.

لا مانع شرعًا من صرف هذه الأموال في صندوق تدعيم الصحة العامة؛ فهناك فارقٌ كبيرٌ بين ثمن الحرام من الخمر ونحوه والضريبة عليه، حتى لو اعتبرناها حرامًا فإن الفقهاء قد نصوا على أن الحرام يجوز صرفه في المصالح العامة، بل يرى بعضهم أن قبوله في هذا المقام واجب، كما أن هذا المال بدخوله إلى الخزانة العامة للدولة يختلط بغيره من الحلال، و"الحرمة إذا لم تتعين حلت"، فلا حرج على المسلمين شرعًا في مشاركتهم غيرَ المسلمين هذه المنظومة.

التفاصيل ....

الذي نفتي به هو أن الاستفادة من الضرائب المفروضة على الخمور والسجائر جائز شرعًا، وأن تعاون المسلمين في تايلاند مع الدولة في ذلك وأخذهم لهذه الأموال في سبيل دعم الصحة العامة ومكافحة شرب الخمر والسجائر جائز شرعًا، ولا حرمة فيه، وذلك للأسباب الآتية:
1- أن هناك فارقًا كبيرًا بين ثمن الخمر والضريبة على الخمر، فثمن الخمر هو المال الذي يدفع عوضًا مقابل شراء هذه السلعة المحرمة، والخمر حرام بإجماع المسلمين، وثمنها حرام بالإجماع بين المسلمين في دار الإسلام، فلا يجوز شراؤها ولا بيعها ولا أخذ ثمنها بين المسلمين.
أما الضريبة فيعرفها أهل الاقتصاد بأنها: اقتطاع جبري تجريه الدولة على موارد الوحدات الاقتصادية المختلفة بقصد تغطية الأعباء العامة وتوزيع هذه الأعباء بين الوحدات المذكورة طبقًا لمقدرتها التكليفية؛ أي إنها مقدار محدد من المال تفرضه الدولة في أموال رعاياها سواء أكانوا أشخاصًا طبعيين أو اعتباريين، فتفرض على الأملاك والأعمال والدخول والتجارات والشركات وغيرها نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجموع، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال، وإنما تعمد الحكومات إلى ذلك؛ لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للمواطنين، باعتبار أن المصالح العامة تستلزم نفقات تحتاج إلى وجود موارد ثابتة، لا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه مهام الدولة المدنية واتسعت مرافقها.
ومن ذلك يتضح أن الضريبة التجارية حق مدني يستقطع على قدر الدخل التجاري وليست ثمنًا للسلع التي تحصل فيها التجارة؛ فلا علاقة لها بكون السلعة حلالًا أو حرامًا، وحينئذٍ فلا تكون الضريبة على الخمر أو السجائر ثمنًا لأي منهما، فلا تكون الاستفادة منها حرامًا.
2- أن هذه الضرائب بدخولها إلى خزينة الدولة قد انتقلت إلى ملكيتها، وأصبحت جزءًا من ميزانيتها ومواردها، ولو قال قائل إن هذه الضرائب حرام فإن ذلك لا يستوجب تحريم الاستفادة منها؛ لأنها مختلطة بغيرها من الموارد لا تتميز عنها، ووسيط التبادل بين الناس الآن أوراق البنكنوت وهي لا تتعين بالتعيين؛ لأن قيمتها في قوتها الشرائية لا في نفس أعيانها، ومن المقرر شرعًا أن "الحرمة إذا لم تتعين حلت"، ونص الفقهاء على أن الحرام لا يتعدى لذمتين؛ لأن الوصف بالحل والحرمة إنما هو لأفعال المكلفين، لا للأشياء والأعيان.
قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 292، ط. دار الفكر): [وفي "حاشية الحموي" عن "الذخيرة": سئل الفقيه أبو جعفر عمن اكتسب ماله من أمراء السلطان، وجمع المال من أخذ الغرامات المحرمات وغير ذلك، هل يحل لمن عرف ذلك أن يأكل من طعامه؟ قال: أحب إلى أن لا يأكل منه، ويسعه حكمًا أن يأكله إن كان ذلك الطعام لم يكن في يد المطعم غصبًا أو رشوة. اهـ. أي إن لم يكن عين الغصب أو الرشوة؛ لأنه لم يملكه فهو نفس الحرام فلا يحل له ولا لغيره. وذكر في "البزازية" هنا أن من لا يحل له أخذ الصدقة فالأفضل له أن لا يأخذ جائزة السلطان، ثم قال: وكان العلامة بخوارزم لا يأكل من طعامهم ويأخذ جوائزهم، فقيل له فيه، فقال: تقديم الطعام يكون إباحة والمباح له يتلفه على ملك المبيح فيكون آكلًا طعام الظالم، والجائزة تمليك فيتصرف في ملك نفسه. اهـ. قلت: ولعله مبني على القول بأن الحرام لا يتعدى إلى ذمتين] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 390، ط. مؤسسة الرسالة): [وروى جماعة من حديث الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا سأله، فقال: "لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني، فقال: مهنؤه لك، وإثمه عليه، قال الثوري: إن عرفته بعينه فلا تأكله"، ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا. وروى جماعة أيضًا من حديث معمر عن أبي إسحاق عن الزبير بن الخريت عن سلمان رضي الله عنه قال: "إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله، فإن مهنأه لك وإثمه عليه". قال معمر: "وكان عدي بن أرطأة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد، فيأكل منها ويطعم أصحابه"، ويبعث عدي إلى الشعبي وابن سيرين والحسن، فقبل الحسن والشعبي وَرَدَّ ابن سيرين. قال: وسئل الحسن عن طعام الصيارفة، فقال: "قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم". وقال منصور: قلت لإبراهيم اللخمي: عريف لنا يصيب من الظلم فيدعوني فلا أجيبه، فقال إبراهيم: للشيطان غرض بهذا ليوقع عداوة، وقد كان العمال يَهْمِطُونَ ويصيبون ثم يدعون فيجابون، قلت: نزلت بعامل فنزلني وأجاز لي، قال: اقبل، قلت: فصاحب ربًا؟ قال: اقبل ما لم تره بعينه"] اهـ.
3- أن هذه الضرائب المدفوعة على تجارة الخمر والدخان ستستخدم في مكافحة شربهما، وهذه طريقة مبتكرة تجعل الحد من شرب هذه الخبائث مشروعًا يتناسب طرديًّا مع مدى انتشارها، فكلما زاد انتشارها والاتجار فيها زاد الإنفاق على مكافحتها وتقليل شربها، وهي وسيلة جيدة وفعالة في إنكار المنكر، وقد أمر الشرع بإنكار المنكر بالوسائل المختلفة، ووسائله كثيرة تتغير بتغير الزمان والمكان والبيئات والعصور والأعراف، ومن المقرر أن "الوسائل لها أحكام المقاصد".
4- أنها حتى لو كانت حرامًا فإنه يجوز صرفها في المصالح العامة؛ فقد نص الفقهاء على أن الحرام يجوز صرفه في المصالح العامة، ولا شك أن مكافحة شرب هذه المحرمات من آكَدِ المصالح العامة؛ لأن في مكافحتها حفاظًا على مقصود مهم من المقاصد العليا في الإسلام، وهو حفظ العقل الذي به بناء الإنسان، وقد مثل الفقهاء في المصالح العامة ببناء القناطر والطرق وغيرها، ولا شك أن بناء الإنسان مقدم على بناء البنيان، قال الإمام النووي الشافعي في كتابه "المجموع شرح المهذب" (9/ 352، ط. دار الفكر): [(فرع) قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة؛ كالقناطر والرُّبُط والمساجد ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء... وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حرامًا على الفقير بل يكون حلالًا طيبًا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضًا فقير. وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب -وهو كما قالوه- ونقله الغزالي أيضًا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف، وعن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبقَ إلا صرفه في مصالح المسلمين... (فرع) قال الغزالي: إذا وقع في يده مال حرام من يد السلطان قال قوم: يرده إلى السلطان؛ فهو أعلم بما يملك، ولا يتصدق به... وقال آخرون: يتصدق به إذا علم أن السلطان لا يرده إلى المالك... قلت: المختار أنه إن علم أن السلطان يصرفه في مصرف باطل أو ظن ذلك ظنًا ظاهرًا لزمه هو أن يصرفه في مصالح المسلمين مثل القناطر وغيرها، فإن عجز عن ذلك أو شق عليه لخوف أو غيره تصدق به على الأحوج فالأحوج] اهـ.
بل يرى الحنابلة والظاهرية أن قبول المال الحرام الذي يخرجه صاحبه من ماله واجب؛ لأنه تعاون على البر والتقوى: قال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "الفروع" (4/ 398): [وإن وهبه لإنسان فيتوجه أن يلزمه قبوله؛ لما فيه من المعاونة على البر والتقوى، وفي رده إعانة الظالم على الإثم والعدوان، فيدفعه إلى صاحبه أو وارثه، وإلا دفعه إلى الحاكم أو تصدق به، على الخلاف، وهذا نحو ما ذكره ابن حزم، وزاد: إن رده فسق، فإن عرف صاحبه فقد زاد فسقه وأتى كبيرة، كذا قال] اهـ.
5- أنه من المقرر شرعًا جواز قبول العطايا والهبات من غير المسلمين؛ لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش كما في قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وهذا يشمل كافة أنواع العلاقات الإنسانية من التكافل والتعاون أخذًا وإعطاءً على مستوى الفرد والجماعة، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة بقبول عطايا غير المسلمين؛ فعن علي رضي الله عنه قال: "أهدى كسرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل منه، وأهدى له قيصر فقبل منه، وأهدت له الملوك فقبل منهم" رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبة سندس" متفق عليه. وعنه أيضًا رضي الله عنه: "أن ملك ذي يزن أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرًا أو ثلاث وثلاثين ناقة فقبلها" رواه أبو داود.
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: "قدمت قتيلة ابنة عبد العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا ضباب وأَقِطٍ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة: 8] إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها" رواه أحمد.
واستدل العلماء أيضًا على ذلك بقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدية من سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل إسلامه؛ يقول الحافظ العراقي في "طرح التثريب" (4/ 40، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفيه قبول هدية الكافر؛ فإن سلمان رضي الله عنه لم يكن أسلم إذ ذاك، وإنما أسلم بعد استيعاب العلامات الثلاث التي كان علمها من علامات النبوة] اهـ.
6-أن الفقهاء نصوا على قبول المسلم رد غير المسلم لدينه من ثمن الخمر؛ لصحة بيعه لها، وهذا التعليل يقتضي جواز قبول عطائه من ثمن الحرام الذي يصح له بيعه أيضًا؛ قال الإمام الحصكفي الحنفي في "الدر المختار" (6/ 385، ط. دار الفكر): [وجاز أخذ دين على كافر من ثمن خمر)؛ لصحة بيعه (بخلاف) دين على (المسلم)؛ لبطلانه، إلا إذا وكل ذميًّا ببيعه فيجوز عنده خلافًا لهما] اهـ.
7- أن المفتى به في هذا الزمان على ما هو مذهب السادة الحنفية هو جواز التعامل بالعقود الفاسدة مع غير المسلمين في ديار غير المسلمين؛ حيث ذهب الإمامان أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا ربًا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين، وأن المسلم في تلك الدار له أخذ أموالهم بأي وجه كان؛ ولو بالعقد الفاسد كالقمار أو بيع الميتة والخمر أو الربا وغير ذلك ما دام برضا أنفسهم، قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: [وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ عنهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عَرِيَ عن الغدر فيكون ذلك طيبًا له، والأسير والمستأمن سواء، حتى لو باعهم درهمًا بدرهمين أو باعهم ميتة بدراهم أو أخذ مالًا منهم بطريق القمار فذلك كله طيب له] اهـ. نقلًا عن حاشية العلامة ابن عابدين "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 186).
وإنما سمى الإمام محمد بن الحسن وغيره دار غير المسلمين بدار الحرب للتقسيم الذي كان شائعًا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين، فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره، وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، والتقسيم الحديث بين علماء الإسلام -بعدما انتهت حالة الحرب التي شنت على المسلمين-هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة، فليتنبه إلى ذلك.
ومراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار الكفر مطلقًا؛ سواء أكانت الحرب قائمة أم لا؛ بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفر لا حرب فيها وهي مكة قبل الهجرة -كما سيأتي-، ولم تكن هناك في العالم دار حرب، وصورة الدليل قطعية الدخول في الحكم إجماعًا.
وقال الإمام السرخسي الحنفي في كتابه "المبسوط" (14/ 98، ط. دار الفكر) بعد ذكره لمرسل مكحول «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ»: [وهو -أي مرسل مكحول-دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب...، وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله] اهـ.
وقول الإمامين أبي حنيفة ومحمد هو المعتمد والمختار عند السادة الحنفية؛ فقد قال الإمام السرخسي بعد نصه السابق (14/ 100): [وحجتنا -السادة الأحناف- في ذلك ما روينا وما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته: «كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»؛ وهذا لأن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم رجع إلى مكة، وكان يربي، وكان لا يخفى فعله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح -أي فصارت مكة دار إسلام-، وبه نقول] اهـ.
وقد استدل السادة الحنفية على ما ذهبوا إليه بأدلة منها:
1- ما ذكر عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ»، قال الإمام السرخسي في "المبسوط" (14/ 98): [وإن كان مرسلًا فمكحول فقيه ثقة، والمرسل من مثله مقبول] اهـ.
2- واستدل الإمام محمد بن الحسن رحمه الله بحديث بَنِي قَيْنُقَاعِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَجْلَاهُمْ قَالُوا: إنَّ لَنَا دُيُونًا لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ، فَقَالَ: «تَعَجَّلُوا أَوْ ضَعُوا»، وَلَمَّا أَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ قَالُوا: إنَّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: «ضَعُوا أَوْ تَعَجَّلُوا». وبيَّن الإمام السرخسي وجه الدلالة؛ فقال في "شرح السير الكبير" (4/ 184-185، ط. دار الكتب العلمية): [ومعلوم أن مثل هذه المعاملة -الربا المتمثل في قوله: «ضعوا أو تعجلوا»- لا يجوز بين المسلمين؛ فإن من كان له على غيره دين إلى أجل فوضع عنه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز، كره ذلك عمر وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم، ثم جوزه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقهم؛ لأنهم كانوا أهل حرب في ذلك الوقت، ولهذا أجلاهم، فعرفنا أنه يجوز بين الحربي والمسلم ما لا يجوز بين المسلمين] اهـ.
3- وبما وقع عند مصارعته صلى الله عليه وآله وسلم ركانة حين كان بمكة، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة بثلث غنمه، ولو كان مكروهًا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ لما صرعه في المرة الثالثة قال ركانة رضي الله عنه: "ما وضع أحد جنبي إلى الأرض، وما أنت الذي تصرعني"، فرد رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنمَ عليه.
يقول الإمام السرخسي في "شرح السير الكبير" (4/ 184): [وإنما رد الغنم عليه تطولًا منه عليه، وكثيرًا ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين يؤلفهم به حتى يؤمنوا] اهـ. ولا يخفى أن مكة حينئذٍ لم تكن دار حرب بل كانت دار كفر.
4- وما قاله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ، وَرِبَا الْجَاهِلِيِّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبَا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّه».
ووجه الدلالة في هذا الحديث: أن العباس رضي الله تعالى عنه بعدما أسلم بعد أن جيء به أسيرًا في غزوة بدر استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع إلى مكة بعد إسلامه، فأذن له، فكان يربي بمكة إلى زمن الفتح، وكان فعله لا يخفى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من رِبًا في دار الحرب ما لم يقبض، حتى جاء الفتح فصارت مكة دار إسلام؛ ولذا وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الربا عند الفتح.
5- وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم: 1-2] قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ: هَلْ لَك أَنْ تُخَاطِرَنَا، فَخَاطَرَهُمْ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ»، فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ. وهو القمار بعينه بين أبي بكر ومشركي مكة، وكانت مكة دار شرك. "فتح القدير لابن همام" (7/ 39، ط دار الفكر). ولا يخفى أن مكة هنا أيضًا لم تكن دار حرب؛ حيث كان ذلك قبل شرع الجهاد أصلًا.
6- ولأن مالهم مباح فحق للمسلم أن يأخذه بلا غدر؛ لحرمة الغدر.
وبناءً على ذلك: فإنه يجوز صرف هذه الأموال المأخوذة من ضرائب الخمر والسجائر في صندوق تدعيم الصحة العامة الذي يقوم بمكافحة شرب الخمر والدخان في المجتمع التايلاندي، ولا حرمة في اشتراك المسلمين في ذلك شرعًا، بل إن صرفه في هذه المصارف يعد بابًا من أبواب التعاون على الخير، ومشاركة فعالة في إنكار المنكر بتوعية المواطنين بأضرار هذه المحرمات، واندماجًا إيجابيًّا للمسلمين في مجتمعهم من غير نزاع مفتعل، ومساهمة منهم في مقاومة الفساد ومكافحته، وترسيخًا للقيم المشتركة التي أرستها الأديان السماوية واعترف بها عقلاء البشر، ولا وجه للقول بتحريم ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا