حكم بناء المسجد على المقابر المندرسة

حكم بناء المسجد على المقابر المندرسة

ما حكم بناء المسجد على المقابر المندرسة؟ فعندنا مسجد يضيق بالمصلين ولا توجد به دورة مياه، فقام أهل الحي بتوسيعه ليكون مسجدًا جامعًا يتسع للمصلين وتكون به دورة مياه، ولا يوجد مكان في هذا الحي إلا في البقعة المجاورة للمقبرة الموضحة بخريطة المسجد المرفقة مع نص السؤال، وهذه البقعة خالية وليس بها قبور ولم يثبت أنه دُفِن فيها أحدٌ بالفعل؛ حيث إن أهل الحي منعوا من الدفن في هذه البقعة وقاموا منذ زمن طويل بوضع ثلاثة حواجز لِمنع الدفن فيها نتيجة للرائحة التي يتأذى بها أهل الحي، كما كانت توجد بئر قديمة يسقي منها أهل الحي حدائقهم، ولم يكن يوصَل إلى هذه البئر إلا من خلال المرور بهذه البقعة التي بُنِيَ عليها المسجد الآن، والبئر الآن مهجورة، وهذه البقعة بها ثلاث مغارات كان يلجأ إليها أهل الحي عند نزول المطر والغارات الجوية فيما مضى، ولم يكن يوصَل إلى هذه المغارات إلا من خلال المرور بها؛ مما يدل على عدم وجود مقابر في هذه البقعة التي بُنِيَ عليها المسجد.
علمًا بأن المغارات الثلاث والبئر القديمة ومكان الحواجز الثلاث والمكان الذي بُنِيَ فيه المسجد على هيئة هضبة مجاورة للمقبرة؛ أعلاها يبدأ من البئر القديمة ثم تنحدر هذه الهضبة وتنتهي عند الطريق العمومي كما هو موضح بالخريطة.
كما نوضح لفضيلتكم أن الأرض التي بُنِيَ عليها المسجد الآن ليست من جنس أرض المقابر؛ لأنها كانت قبل بناء المسجد عليها مرتفعةً عن بقية أرض المقبرة كما سبق توضيحه، وقد تم تجريف هذا الارتفاع من الأرض وتسويته تمامًا بالجرافات الآلية، ونُقِلت التربة بعربات النقل حتى أصبحت الأرض التي بُنِيَ عليها المسجد مثلَ غيرها من الأرضين وخرجت عن كونها أرض مقبرة مع عدم ثبوت الدفن فيها، وبعد تسويتها قمنا بوضع قواعد خراسانية فيها ثم رُدِمَت هذه القواعد بتربة رملية، وقد تم بناء المسجد اعتمادًا على المعطيات السابقة والمعلومات الموضحة بالخريطة المرفقة:
أولًا: المسجد محاط بالمقابر من جهتين؛ الشرقية بأكملها تجاه القبلة، والجنوبية بأكملها كما بالخريطة.
ثانيًا: قبل بناء المسجد ترك مُشيِّدوه مسافة على هيئة طريق مسلوك يعتبر فاصلًا بين المسجد والمقبرة؛ أضيقه ثلاثة أمثار وأوسعه ستة أمتار وذلك موضح بالخريطة المرفقة مع نص السؤال.
وبعد ذلك كله فوجئنا بمن امتنع عن الصلاة في هذا المسجد بدعوى أن الأرض التي بُنِيَ المسجد عليها وقفٌ للمقبرة، والمقبرة أقدم من المسجد من حيث المكان، فاعتبروا بذلك أن المسجد مبني على أرض المقبرة، كما جعلوا المجاورة الشديدة بين المسجد والمقبرة من اتخاذ القبور مساجد، واستندوا إلى العظام والرميم التي وُجِدَت أثناء حفر السور وذكروا أنهم سمعوا سائقَ الجرَّافة أو أحد سائقي عربات النقل يذكر أنه رأى عظامًا أثناء تجريف الأرض، وأبدوا احتمالًا بوجود قبر آخر بداخل السور محاذٍ للقبر الذي هو خارج السور المشار إليه برقم (1) في الخريطة، وأنه يمكن أن يكون قد تم نبشه عن طريق الجرافة من غير أن يعلم أحد.
وقد تقصينا الأمر في ذلك وخرجنا بالنتائج التالية:
الأرض التي تم بناء المسجد عليها ليست وقفًا للمقبرة؛ لأنه لم يثبت عندنا لأحد من أهل الحي خاصة وأهل البلد عامة ملك أحد منهم لهذه الأرض، وليس هناك حجة أو قرينة تثبت ذلك من قريب أو بعيد.
أما العظام التي وُجِدت أثناء حفر السور فقد وُجِدَت بعد الانتهاء من بناء المسجد وفي غير المكان الذي بُنِيَ فيه بل في مكان يبعد عنه ستة أمتار كما هو موضح بالخريطة وذلك عند بناء السور الذي يفصل المقبرة عن الطريق والمسجد وليس في البقعة التي تم إحلالها وبناء المسجد فيها، وأما احتمال وجود قبر داخل السور تم نبشه فلم نجد ما يؤيده.
وسألنا سائق الجرَّافة عما نقلوه عنه فأنكر صدوره منه، وأنكر أنه رأى أي رميم أو عظام أثناء قيامه بتجريف الأرض، وحتى على فرض أن أحدًا رأى شيئًا فإن هذه الأرض التي بني فيها المسجد كانت خربة وكان بعض أهل الحي يدفنون فيها بهائمهم الميتة.
فما حكم الصلاة في هذا المسجد؟ وهل تدخل توسعته بذلك في اتخاذ القبور مساجد؟

إذا كان الحال كما ورد بالسؤال من أن هذه الأرض لم يكن بها قبور، أو على فرض صحة القول بأنها كانت مقابر قديمة ودرست، فإن ما فعله أهل المسجد من توسعته تصرف صحيح وجائز شرعًا إذا تحققت به المصلحة العامة ولم يعد هناك احتياج إلى الدفن في هذا المكان، ولم يترتب على ذلك نبش للقبور ولا هتك لحرمة الأموات، ويُستثنَى من ذلك قبور الصحابة والأولياء والصالحين؛ فقد نص العلماء على أنه يحرم نبش قبورهم أو استخدامها لأغراض أخرى ولو مضى عليهم وقت طويل من شأنه أن تنمحق فيه أجزاء الميت؛ تعظيمًا لقدرهم وإعلاءً لشأنهم وإحياءً لذكرهم وزيارتهم والتبرك بهم.
والصلاة في هذا المسجد صحيحة وجائزة شرعًا؛ فإن النهي عن اتخاذ القبور مساجد معناه السجود لها على وجه تعظيمها من دون الله وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان.

التفاصيل ....

المحتويات

 

سبل معرفة مكان المقابر المندرسة

مكان المقبرة يُعرَفُ بالاشتهار بين الناس أو بالنقل عمن يوثق بنقله، فإذا لم يشتهر أمر هذه المقبرة بين الناس ولم يثبت بنقل من يوثق بنقله بل كان ذلك مجرد دعوى أو احتمالات مجردة لم تجد ما يؤيدها من أهل القرية خاصة كبار السن فيهم مع توافر الدواعي على نقل ذلك إن كان صحيحًا ولم يكن عند صاحبها ما يؤيد كلامه من الوثائق الرسمية أو البينة على دعواه فإنه لا يثبت مكان هذه المقبرة ويوسع المسجد من غير نظر إلى اعتراض المعترض.

الانتفاع بالمقبرة المندرسة

لو سلمنا بصحة القول بأن أرض التوسعة كانت مقابر قديمة ودرست فإنه لا مانع أيضًا من توسعة المسجد بضمها إليه؛ لأنه يجوز الانتفاع بالمقبرة المندرسة التي لم يبقَ فيها أثر للموتى من عظم أو نحوه، حتى لو كانت موقوفة أو مملوكة، وهذا قول الإمام محمد بن الحسن من الحنفية؛ حيث ذهب إلى بطلان وقفها حينئذٍ وَعَوْدها إلى ملك الواقف إن كان حيًّا أو إلى ورثته إن كان ميتًا، وإن لم يكن له ورثة فهي كاللقطة عنده تصرف مصرف اللقطة فتصرف للعاجزين الفقراء فقط على رأي، أو إلى المصالح العامة مطلقًا على رأي آخر.
وأما عند الإمام أبي يوسف فتبقى وقفًا أبدًا على هذه الجهة كما في المسجد إذا تخرب واستغنى الناس عنه والسقاية والرباط وغير ذلك عنده.

والفتوى في ذلك إنما هي بمذهب الإمام محمد إذا تحققت المصلحة العامة ولم يعد هناك احتياج إلى الدفن في المقبرة المندرسة، ولم يترتب على ذلك نبش للقبور ولا هتك لحرمة الأموات، كما أفتى بذلك غير واحد من المفتين السابقين للديار المصرية كالشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ أحمد هريدي، وغيرهما.
هذا، مع التنبيه على أن ذلك في المقبرة الثابتة بالاشتهار أو النقل الصحيح، أما مجرد الدعوى في ذلك من غير حجة ولا برهان فغير معتبرة.
قال الشيخ الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق": [ولو بَلِي الميتُ وصار ترابًا جاز دفنُ غيره في قبره وزرعُه والبناءُ عليه] اهـ.
وقال الشيخ العبدري في "التاج والإكليل لمختصر خليل" (3/ 74-75): [وقال ابن عبد الغفور: تحرث المقبرة بعد عشر سنين إن ضاقت عن الدفن. وقال غيره: لا يجوز أخذ حجر المقابر العافية ولا لبناء قنطرة أو مسجد وعلى هذا لا يجوز حرثها. ثم قال: وإن حُرِثَتْ جُعِل كِراؤُها في مؤنة دفن الفقراء. وقال ابن رشد: أما بناء مسجد على المقبرة العافية فلا كراهية فيه، قاله ابن القاسم؛ لأن القبر والمسجد حَبْسَانِ على المسلمين ودفن موتاهم، فإذا لم يكن التدافن واحتيج أن تتخذ مسجدًا فلا بأس بذلك؛ لأن ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعض ذلك على ما النفع فيه أكثر والناس أحوج إليه] اهـ.
وقال الشيخ الرهوني المالكي في "حاشيته على شرح الزرقاني على مختصر خليل" (2/ 236، ط. المطبعة الأميرية): [وأما بناء المسجد للصلاة فيه على المقبرة العافية فلا كراهة فيه؛ لأن المقبرة والمسجد حَبْسَانِ على المسلمين لصلاتهم ودفن موتاهم، فإذا غصت المقبرة بالقبور ولم يمكن التدافن فيها أو استُغْنِيَ عن التدافن فيها واحتيج إلى أن تُتَّخَذَ مسجدًا يُصَلَّى فيه فلا بأس بذلك؛ لأن ما كان لله فلا بأس أن يُستَعان ببعض ذلك في بعض على ما كان النفع فيه أكثر والناس إليه أحوج] اهـ.

حرمة نبش والتعدي على قبور الصحابة والأولياء والصالحين

هذا الحكم العام بجواز الانتفاع بالمقابر المندرسة المستغنَى عنها يُستثنَى منه قبور الصحابة والأولياء والصالحين؛ فقد نص العلماء على أنه يحرم نبشهم أو استخدام أماكن قبورهم لأغراض أخرى حتى ولو مضى عليهم وقت طويل من شأنه أن تنمحق فيه أجزاء الميت؛ تعظيمًا لقدرهم وإعلاءً لشأنهم وإحياءً لذكرهم وزيارتهم والتبرك بهم؛ قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 332): [(فرع: يحرم نبش القبر قبل البلى عند أهل الخبرة) بتلك الأرض لهتك حرمة الميت، (فإن بلي الميت) بأن انمحق جسمه وعظمه وصار ترابًا (جاز) نبش قبره ودفن غيره فيه، (وحرم) حينئذٍ (تجديده) بأن يستوي ترابه عليه ويعمر عمارة قبر جديد (في) مقبرة (مسبلة)؛ لأنه يوهم الناس أنه جديد فيمتنعون من الدفن فيه، واستثنى بعضهم ما لو كان المدفون صحابيًّا أو ممن اشتهرت ولايته فلا يجوز نبشه عند الانمحاق، قال الزركشي: وهو حسن، ويؤيده ما في الوصايا أنه تجوز الوصية بعمارة قبور الأنبياء والصالحين لِمَا فيه من إحياء الزيارة والتبرك] اهـ.
وفي "حاشية الشهاب الرملي" عليه: [(قوله: فإن بلي الميت جاز) يرجع في ذلك إلى أهل الخبرة بتلك الناحية (قوله: قال الزركشي) وغيره (قوله: وهو حسن) وهو ظاهر] اهـ.
والحفاظ على قبور الأولياء والصالحين والعلماء ومراعاتها وإحياؤها بالزيارة هو الذي جرى عليه عمل المسلمين سلفًا وخلفًا؛ حيث بقيت شواهد قبورهم معلومة بارزة للناس تملأ شرق الدنيا وغربها.

بناء المساجد على القبور والصلاة فيها

القول بأن في ذلك اتخاذًا للمساجد على القبور وأن ذلك هو المقصود بحديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ»، فهو فهم غير سديد للحديث الشريف؛ فالمساجد: جمع مَسجِد، والمسجد في اللغة: مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، ومعنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان -كما فسرَته الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا! لَعَنَ اللهُ قومًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهِم مَسَاجِد»، فجملة «لَعَنَ اللهُ قومًا..» بيانٌ لمعنى جَعل القبر وثنًا، والمعنى: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُسجَدُ له ويُعبَد كما سجد قوم لقبور أنبيائهم.
قال الإمام البيضاوي: [لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا لعنهم الله ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجدًا بجوار صالِحٍ أو صلَّى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه -لا التعظيم له والتوجه- فلا حرج عليه؛ ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثم الحطيم، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة؛ لِما فيها من النجاسة] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما فعله أهل المسجد من توسعته تصرف صحيح وجائز شرعًا، والصلاة في هذا المسجد صحيحة وجائزة ولا حرمة فيها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا