كنت أقرأ في بعض كتب الحديث، فتفاجأت بواقعةٍ حدثت وقت موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث طلب أن يكتب للمسلمين كتابًا لكي لا يضلوا بعده، فرفض بعض الصحابة ذلك وعلى رأسهم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعالت أصوات الصحابة عنده حتى طردهم جميعًا من عنده. فكيف نستطيع أن نرد على هذه الشبهة، وماذا نفعل في الحديث الصحيح الذي بين أيدينا؟
شبهة رفض بعض الصحابة كتابة وصية سيدنا النبي ﷺ
المحتويات
- عصمة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأ
- شبهة رفض بعض الصحابة كتابة وصية سيدنا النبي
- الخلاصة
عصمة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأ
اختص الله تعالى رسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بجملة من الخصائص التي لا يشاركه فيها سابق ولا لاحق؛ فمنها أنَّ الله تعالى قد عصمه من الخطأ فيما أمر بتبليغه للأمة، وفيما أذن الله تعالى له بالاجتهاد والاختيار فيه من شئون الدنيا وأمور الدين معًا؛ وذلك لحكمة بالغة تتجلى في مشروعية الاجتهاد واستمراره إلى يوم الدين، ورفع التَّهَيُّب عن أهل العلم في استعماله والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول وإرشاد الأمة للعمل بما انتهى إليه المجتهد، خاصة في المسائل الاجتهادية الظنية متى طلب الحق وكان مؤهلًا لذلك محصلًا لشرائطه في الاستنباط والتخريج.
فإذا ما اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا ثم أرشده الله تعالى إلى شيء آخر فلا يصح اتخاذ هذه المواقف تُكَأَةً لنسبته صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخطأ وعدم العصمة، فحَاشَا أن يكون شأنه صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل ذلك كبقية البشر، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يألو جهدًا في الاجتهاد مع أنه ليس مطالبًا شرعًا بإصابة مضمون الحكم باعتبار ما عند الله تعالى؛ حيث إن ذلك ليس مقدورًا للطاقة البشرية، وإنما يراد من الصواب في مثل هذه الأمور صواب العمل الذي يصلح أن تؤسس عليه أفعال العباد وتصرفات المكلفين.
وهذا يُظهر أن ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أقوالًا وأفعالًا وتقريراتٍ مما يوهم نسبة الخطأ وانتقاص العصمة، إنما هو من قبيل العدول عن الأولى والانتقال من الصواب إلى الأصوب منه فحسب، وفيه تدرج حكيم من التشريع والتربية العملية والتوجيه إلى مكارم الأخلاق لربط الأسباب بالمسببات.
شبهة رفض بعض الصحابة كتابة وصية سيدنا النبي
من ذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته طلب أن يكتب للمسلمين كتابًا فيه وصيته لكي لا يضلوا بعده، فامتنع بعض الصحابة ومن وافقهم من آل البيت رضي الله عنهم جميعًا أن يعطوه الكتاب، وطلبوا من الباقين أن لا يعطوه، وقالوا: "نكتفي بكتاب الله تعالى".
فقد روى الإمام البخاري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ»، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ فَاخْتَصَمُوا؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاِخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «قُومُوا»، قَالَ عُبَيْدُ الله: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
وفي رواية أخرى عند البخاري -واللفظ له- ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ. ثُمَّ بَكَى حَتَّى خَضَبَ دَمْعُهُ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ: "اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَجَعُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: هَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: «دَعُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ»، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ»، وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ.
والظاهر أنه أراد كتابًا يلخص فيه مهمات الأحكام حتى يحصل الاتفاق على المنصوص عليه ويرتفع النزاع فيها، والأظهر أنه أراد النص فيه على خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حتى تُعصم الأمة من الفتن والنزاعات.
ويؤيد القول الأخير ما أخرجه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" عن ابن أبي مليكة عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «ائْتِنِي بِدَوَاةٍ وَكَتِفٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، ثُمَّ وَلَّانَا قَفَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: «يَأْبَى اللهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ».
ويؤيد ذلك أيضًا ما جاء في "مسند الإمام أحمد" عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْيَوْمِ الَّذِى بُدِئَ فِيهِ، فَقُلْتُ: وَارَأْسَاهْ؛ فَقَالَ: «وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكِ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَهَيَّأْتُكِ وَدَفَنْتُكِ»، قَالَتْ: فَقُلْتُ غَيْرَى: كَأَنِّي بِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَرُوسًا بِبَعْضِ نِسَائِكَ. قَالَ: «أَنَا وَارَأْسَاهْ، ادْعُوا لِي أَبَاكِ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ وَيَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ».
وقد جاء في "صحيح مسلم" عن ابن أبي مليكة قال: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وَسُئِلَتْ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: "أَبُو بَكْرٍ". فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: "عُمَرُ". ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: "أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ". ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا.
وما كان ذلك إلا اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورحمةً بالأمة حتى لا تضل بعده، فأحبَّ أن يكتب لهم شيئًا يسترشدون به، لكن لاعتماده على ما علمه من تقدير الله تعالى واشتداد مرضه صلى الله عليه وآله وسلم وتنازعهم عَدَل عن ذلك مكتفيًا بما رسخه من قبلُ، حيث استخلفه في الصلاة في عدة مواضع؛ قال العلامة الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (11/ 90-91، ط. دار إحياء التراث العربي): [اعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصومٌ من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصومٌ من ترك بيان ما أُمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصومًا من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سُحِرَ صلى الله عليه وآله وسلم حتى صار يُخَيَّلُ إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ولم يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحال كلامٌ في الأحكام مخالفٌ لما سبق من الأحكام التي قررها... وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم همَّ بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحةٌ أو أوحي إليه بذلك، ثم ظهر أنَّ المصلحة تركه، أو أوحي إليه بذلك ونُسخ ذلك الأمر الأول] اهـ.
فليس لأحد أبدًا أن يدَّعي أنَّ ذلك كان مما أمره الله عز وجل بتبليغه، ولا يجوز أن يُحمل قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أنَّه اتَّهَمَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ظنَّ به شيئًا مما لا يليق به بحال؛ فإنَّ المتأمل في روايات الحديث المتعددة يجد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة وآل البيت رضي الله عنهم جميعًا إنما كان يحضرهم قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وقوله عز وجل: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38]، فما قالوا ذلك انتقاصًا لقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما شفقة منهم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاله؛ فإنهم كانوا يتألمون لألمه، ولم يكونوا يظنون أن هذا هو مرض موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لا مانع من تأجيل ما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابته إلى أن يصحَّ من وعكته؛ حيث قصد بقوله: "قد غلب عليه الوجعُ" أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد زاد عليه الألم واشتد به المرض، فما أحب أن يشقوا عليه بالكتابة وهو بهذه الحالة، وأنَّه يمكن أن تتم كتابة الكتاب في أي وقت آخر بعد أن يشفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مرضه؛ قال العلامة الإمام النووي في المرجع السابق -نفسه-: [وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وآله وسلم أمورًا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصةٌ لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: "حسبنا كتاب الله"؛ لقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء﴾، وقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ﴾ فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأَمِنَ الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه... قال البيهقي: وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ﴾ وعَلِمَ أنه لا تقع واقعةٌ إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصًّا أو دلالةً، وفي تكلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، ورأى عمر الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصًّا أو دلالةً؛ تخفيفًا عليه، ولئلا ينسدَّ باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول وقد كان سبق قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأصَابَ فَلَه أجْرَانِ وإذَا اجتَهَدَ فأخْطَأ فلَهُ أجرٌ» وهذا دليل على أنه وَكَلَ بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء وجعل لهم الأجر على الاجتهاد فرأى عمر الصواب تركهم على هذه الجملة؛ لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
كما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم لم ينكر على من خالف أمره؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقر مخالفة الواجب إجماعًا واتفاقًا. وقد بقي الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم بعد ذلك أربعة أيام دون أن يكتب شيئًا، أو أن يعيد عليهم الأمر بالكتابة فلو كان أمره على سبيل الوجوب أو كان الله تعالى قد أوحى إليه بالكتابة لما سمح بتأخيرها، ولأعاد الأمر بها، فلا شك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الصادق الأمين الذي يُبلِّغ ما أُمر به، ولو أنكر أحد أمانته صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر.
وفي ذلك قرائن ودلالات تؤيد ما ذهب إليه سيدنا عمر ومن وافقه من الصحابة وآل البيت رضى الله عنهم جميعًا من أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن على سبيل الوجوب، وإن كان آخرون منهم قد فهموا غير ذلك.
الخلاصة
بناء على ما سبق: فإن هذا الموقف من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدل على قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه أراد التخفيف عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين غلبه وجعُ المرض وألمُ الكرب، وأنه أخذ من ذلك قرينة دلت على أن الأمر ليس على اللزوم بل على الاختيار، ولو أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد فاشتبه عليه الأمر وكان مخطئًا في اجتهاده هذا، فإن سائر أهل الاجتهاد مثابون على اجتهادهم؛ لأنهم أطاعوا الله ورسوله فيما فعلوه من الاجتهاد بحسب استطاعتهم، ولهم أجر على ذلك، فمن اجتهد منهم وأصاب كان له أجران، ومن اجتهد وأخطأ كان له أجر، وفي تركه صلى الله عليه وآله وسلم الإنكار عليه إشارة إلى تصويب رأيه.
أما عن قول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الرزية -من الرُّزء بالضم وهو المصيبة- كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب الكتاب"، فمفهومه أنَّ هذا الحائل يكون رزية في حق من شك في خلافة الصديق، أو اشتبه عليه الأمر؛ لأنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، أما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه.
ومن توهَّم أنَّ هذا الكتاب كان بخلافة سيدنا علي كرم الله وجهه ورضي عنه فهو ضالٌّ؛ لأن قوله بذلك فيه اتهام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنه يستلزم تأخير البيان إلى مرض موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
أما قولهم: "هجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، فالأصح فيه رواية: "أهجر؟"، فهو على سبيل الاستفهام، إذ معنى الهجر سيئٌ لا يتصور أن يصف به الصحابةُ أو آلُ البيت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، والروايات الأخرى الواردة بقوله: "هجر" على سبيل القطع يمكن حملها على الخطأ في التعبير؛ لشدة ما شاهده من حالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والخوف مما يكون بعد وفاته؛ فأجرى الهجر مجرى شدة الوجع؛ قال العلامة الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (11/ 92-93): [قال القاضي عياض: وقوله: (أهجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) هكذا هو في "صحيح مسلم" وغيره أهجر على الاستفهام وهو أصح من رواية من روى هجر ويهجر؛ لأن هذا كله لا يصح منه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن معنى هجر: هَذَى، وإنما جاء هذا من قائله استفهامًا؛ للإنكار على من قال لا تكتبوا، أي: لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يهجر. وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها قالها بغير تحقيق، بل لما أصابه من الحيرة والدهشة؛ لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به وخوف الفتن والضلال بعده، وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع)] اهـ.
فالذين يقفون عند هذا الحديث بهذا الفهم البعيد الوارد في السؤال؛ إنما يثيرون بذلك فتنة يطلقون عليها "رزية الخميس". ويجب التنبه إلى أنَّ هذا الكلام ونحوه إنما هو من التأويلات المغرضة التي لا أساس لها من الصحة، ولا مساغ مطلقًا للقول بأن مراجعة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن كانت من قبيل الافتئات على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت وغمط حقوقهم وبغضهم؛ لأنه مغالطة مفضوحة واستنتاج فاسد، فتوقير عمر رضي الله عنه لآل البيت ومعرفته بمقامهم ومكانتهم ثابت ومنقول بالتواتر، وكذلك الأمر بالنسبة لآل البيت واحترامهم لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
قال العلامة ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 69، ط. دار الكتب العلمية): [قال يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن عبيد بن حنين: حدثني الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، قال: (أتيت عمر رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر فصعدت إليه فقلت: انزل عن منبر أبي، واذهب إلى منبر أبيك. فقال عمر رضي الله عنه: لم يكن لأبي منبر. وأخذني فأجلسني معه أقلّب حصى بيدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله، فقال لي: من علَّمك؟ قلت: والله ما علَّمني أحد. قال: بأبي، لو جعلت تغشانا). قال: (فأتيته يومًا وهو خالٍ بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر فرجعت معه فلقيني بعدُ، قلت: فقال لي: لم أرك. قلت: يا أمير المؤمنين، إني جئت وأنت خالٍ بمعاوية، فرجعت مع ابن عمر. فقال: أنت أحقُّ بالإذن من ابن عمر: فإنما أنبتَ ما ترى في رؤوسنا اللهُ ثم أنتم). سنده صحيح وهو عند الخطيب] اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.