هل يجوز للمسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية كالقانون الدولي؟
التحاكم إلى القوانين الوضعية الدولية
المحتويات
- بيان مفهوم التحكيم
- مفهوم القانون والتكييف الشرعي لعملية إنشاء القوانين من الجهات المختصة
- مدى جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية الدولية
- الأدلة على ذلك من القرآن الكريم
- الأدلة على ذلك من السنة النبوية
- بيان ما ورد في كتب السيرة في ذلك
- الخلاصة
بيان مفهوم التحكيم
التحاكم لغة: كالتحكيم؛ وهو تفويض الحكم إلى شخصٍ.
وشرعًا: هو تفويض المتخاصمَيْن الحكم فيما يتنازعان فيه إلى واحدٍ يرتضيانه لفصل خصومتهما ودعواهما. انظر: "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 578، المادة 1790، ط. دار الجيل).
والحكم: القضاء، وأصله: المنع، يقال: حكمتُ عليه بكذا، إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من ذلك، وحكمتُ بين القوم. فصلتُ بينهم، فأنا حاكم، وحَكَم، بفتحتين. انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 145، ط. الكتب العلمية).
ويقول ابن فارس في "مقاييس اللغة" (2/ 91، ط. دار الفكر): [(الحاء والكاف والميم) أصلٌ واحدٌ، وهو المنع. وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم] اهـ.
وفي "مختار الصحاح" (1/ 78، ط. المكتبة العصرية): [حكّمه في ماله تحكيمًا، إذا جعل إليه الحكم فيه، فاحتكم عليه في ذلك. واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنىً، والمحاكمة المخاصمة إلى الحاكم] اهـ.
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي كثيرًا عن المعنى اللغوي للتحاكم والتحكيم. انظر: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (7/ 24، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"تبصرة الحكام" لابن فرحون (1/ 62، ط. دار الكتب العلمية).
ففي "مجلة الأحكام العدلية" المادة 1790: [التحكيم هو عبارة عن اتخاذ الخصمين آخر حاكمًا برضاهما؛ لفصل خصومتهما ودعواهما، ويقال لذلك: حَكَمٌ -بفتحتين-، ومُحَكَّم -بضم الميم وفتح الحاء وتشديد الكاف المفتوحة-] اهـ من "درر الحكام شرح مجلة الأحكام" (4/ 578).
فتحكيم القانون أو التحاكم إليه يعني: تفويض من يحكم به في فض الخصومة، والتزام طرفيها بموجبه.
مفهوم القانون والتكييف الشرعي لعملية إنشاء القوانين من الجهات المختصة
القانون كلمة غير عربية الأصل، والمراد بها في اصطلاح السِّياسيين والقضاة ورجال الدولة: [مجموعة القواعد التي تحكم سلوك الأفراد في الجماعة -المجتمع- بحيث يتعين على كل فرد أن يخضع لها طوعًا أو كرهًا، ومتى رفض الانقياد لها وإطاعتها فإنَّ الدولة تقسره على ذلك] اهـ من "المدخل للعلوم القانونية" للدكتور توفيق فرج (ص: 15).
ونعت القوانين بـــ"الوضعية" يعني أنها مستمدة بداية من الفكر البشري، فهي من وضع البشر وصناعتهم، وقد يصرف واضعها النظر عن ملاءمتها لفطرة الإنسان النقية أو موافقتها للأديان السماوية؛ ولهذا فتلك القوانين لا تكون مطلقةً ولا صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ولا لكلِّ شخصٍ، وإنما جوهرها النسبيةُ والتغير وفقًا لتطور المجتمعات والمؤسسات.
وقد وضح مما تقدم أنه ليس من شرط القوانين الوضعية أن تكون متعارضةً مع الشريعة أو متوافقة معها، بل قد توافقها أو تخالفها كليَّا أو جزئيًا بناءً على توافق المجتمع مع نخبته المُخَوَّل إليها وضع القوانين وصياغة موادها وبنودها.
وعملية إنشاء القوانين واعتمادها من الجهات المختصة في الدولة تكيَّف فقهيًا على أنها عملية إنشاء عقود بين أطراف اعتبارية هم الحكَّام والمحكومين أو السلطة المنتخبة والشعب؛ فالشعب ينتخب سلطته لتكون وكيلًا عنه في ضبط علاقات المجتمع من خلال تشريع القوانين وتنفيذها، والأصل في العقود الإباحة ما لم تتعارض مع الشريعة في إباحة حرامٍ أو تحريم مباحٍ، وبهذا التوسع في دائرة العقود قال بعض العلماء؛ كأحمد ومالك وابن تيمية وابن القيم وغيرهم؛ قال الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (29/ 132، ط. مجمع الملك فهد) بعد أن ذكر خلاف العلماء في هذا الأصل: [القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا عند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها يجري على هذا القول. ومالك قريب منه لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه..
ثم قال في (29/ 137-138): وعلى هذا فمن قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد. قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق أو مقتضى العقد مطلقًا؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له؛ وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد كاشتراط الطلاق في النكاح أو اشتراط الفسخ في العقد. فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح؛ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار مع الاستصحاب وعدم الدليل المنافي] اهـ.
ويقول الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/ 259، دار الكتب العلمية) تأييدًا لهذا الرأي: [الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفوٌ حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله] اهـ.
ويدل على أن الأصل هو الصحة والجواز في كل ما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية بما في ذلك العقود والاتفاقيات والقوانين المنظمة للمجتمع ما رواه الترمذي وابن ماجه في السنن عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن، والجبن، والفراء؟ قال: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ، فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».
وأخرج البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا» حسنه الحافظ السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية).
مدى جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية الدولية
بذلك يتبين جواز التحاكم إلى ما كان من القوانين الوضعية غير متصادم مع الشريعة الإسلامية باعتبار تلك القوانين عقودًا أو اتفاقيات مستحدثة لرعاية المصالح الاجتماعية، وبناءً على ما اختاره بعض أهل العلم من أن الأصل في العقود الصحة والجواز إلا ما دلَّ الشرع على بطلانه وتحريمه.
وفيما يخص التحاكم إلى القوانين الدولية فإنه قد يحدث أحيانا نزاعات بين الدول على نحو أراض أو مياه أو بترول أو ما أشبه ذلك، فيلجئون إلى التحاكم الدولي الذي تكون له قوانينه غير المستمدة من الشريعة الإسلامية.
والأحكام التي نظمت علاقة المسلمين بغيرهم سلمًا وحربًا قد أطلق عليها الفقهاء القدامى اسم "السير"، وسماها المحدثون باسم "القانون الدولي".
والحكم في المسألة أنه إن كان القانون الدولي في هذه المسألة لا يخالف الشريعة خاصة فيما يتعلق بالأعراض، بل هي مسائل مالية كالتي مثَّلنا بها، أنه لا بأس بذلك في هذه الحالة؛ لأن المسلمين لا يعيشون بمعزلٍ عن العالم، ولا بد لهم من التعامل مع غيرهم مما يؤدي إلى توافق ومخالفة كما هي العادة بين البشر، فإن كان كل فريقٍ لا ينزل على رغبة الفريق الآخر، أو لا يوافق على قوانينه أو وجهة نظره في القضية فلا بد من التحاكم إلى من يفض هذا النزاع، ولا يشترط في هذه المعاهدات أن تكون نابعة أصالة من قانون الشريعة، بل تكون وفق ما يراه ولي الأمر من مصلحة المسلمين.
الأدلة على ذلك من القرآن الكريم
ومن الأدلة على ذلك من القرآن الكريم:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95].
ووجه الدلالة: أن الله تعالى جعل جزاء الصيد يرجع إلى حكم اجتهادي في مسألة صيد الحرم، وقد احتج بهذه الآية على التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما حين ناظر الخوارج -كما سيأتي-.
كذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء: 35].
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5 / 179، ط. دار الكتب المصرية): [وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم وليس كما تقول الخوارج: إنه ليس التحكيم لأحدٍ سوى الله تعالى، وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل] اهـ.
الأدلة على ذلك من السنة النبوية
ومن الأدلة على ذلك من السنة النبوية:
مراعاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للأعراف الجارية بين الدول في عدم قتل الرسل أو حبسهم؛ فعن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعثتني قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أُلْقِيَ في قلبي الإسلامُ، فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبدًا. قال: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنْ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قال: فذهبت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلمت. رواه أبو داود.
قال الإمام الطيبي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (6/ 2564، ط. دار الفكر): [المراد بالعهد هاهنا: العادة الجارية المتعارفة بين الناس من أن الرسل لا يتعرض لهم بمكروه؛ ويدل عليه قوله في الحديث الآتي بعده: «أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ..» الحديث] اهـ.
وعن نعيم بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجلين جَاءَا من عند مسيلمة الكذاب: «أَمَا وَاللهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» رواه أحمد وأبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد هو ابن معاذ رضي الله عنه، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان قريبًا منه، فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، فجاء، فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: «إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ»، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية، قال: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ المَلِكِ» متفق عليه.
ووجه الدلالة واضحٌ من قبوله صلى الله عليه وآله وسلم من التحكيم نزولًا على قول اليهود.
وقد فعل ذلك أيضًا مع غيرهم؛ فقد أخرج ابن شاهين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أصابت بنو العنبر دماء في قومهم فارتحلوا فنزلوا بأخوالهم من خزاعة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقًا إلى خزاعة، فصدقهم ثم صدق بني العنبر، فلما رأت بنو العنبر الصدقة قد أحرزها وثبوا فانتزعوها، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن بني العنبر منعوا الصدقة. فبعث إليهم عيينة بن حصن رضي الله عنه في سبعين ومائة، فوجد القوم خلوفًا، فاستاق تسعة رجالٍ وإحدى عشرة امرأةً وصبيانًا، فبلغ ذلك بني العنبر، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم سبعون رجلًا؛ منهم الأقرع بن حابس، ومنهم الأعور بن بشامة العنبري وهو أحدثهم سنًا، فلما قدموا المدينة بهش إليهم النساء والصبيان، فوثبوا على حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قائلته فصاحوا به: يا محمد، عَلَام تُسبَى نساؤنا ولم ننزع يدًا من طاعتك؟ فخرج إليهم فقال: «اجعلوا بيني وبينكم حَكَمًا». فقالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة. فقال: «بل سيدكم ابن عمرو». قالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة، فحكّمه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحَكَمَ أن يُفدَى شطرٌ وأن يُعتَقَ شطرٌ". راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 95، ط. دار الجيل).
بيان ما ورد في كتب السيرة في ذلك
كان العرب في الجاهلية يتحاكمون فيما بينهم؛ وكان لهم حكّامٌ معروفون بذلك، وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة والأقرع بن حابس وربيعة بن مخاشن وضمرة بن ضمرة لتميم، وعامر بن الظرب وغيلان بن سلمة لقيس، وعبد المطلب وأبو طالب والعاصي بن وائل والعلاء بن حارثة لقريش، وربيعة بن حذار لأسد، ويعمر الشداخ وصفوان بن أمية وسلمى بن نوفل لكنانة. انظر: "القاموس المحيط"، و"تاج العروس" مادة: (ح ك م).
ومن قصصهم في ذلك: قصة حفر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لبئر زمزم؛ ذكر ابن إسحاق عنه: أنه غدا بِمِعْوَلِهِ، ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب -وليس له يومئذٍ ولد غيره- فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًّا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خُصصت به دونكم، وأُعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قال: نعم. وكانت بأشراف الشام. فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفرٌ، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم، فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة، وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه، حتى يكون آخرهم رجلًا واحدًا؛ فضيعة رجلٍ واحدٍ أيسر من ضيعة ركبٍ جميعًا. فقالوا: نعم، ما أمرت به، فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت -لا نضرب في الأرض لا نبتغي لأنفسنا- لَعَجْزٌ، فعسى أن يرزقنا الله ماء ببعض البلاد. فارتحلوا، حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبد المطلب وكبّر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم، ثم قالوا لعبد المطلب: قد والله قضي لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلّوا بينه وبين زمزم. راجع: "البداية والنهاية" (3/ 336، ط. دار هجر).
وعن عليٍّ رضي الله عنه، قال: "لما انهدم البيت بعد جرهم فَبَنَتْهُ قريشٌ، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من باب بني شيبة، فأَمَرَ بثوب فوضع فأخذ الحجر فوضعه في وسطه، وأمر من كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فيرفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه". أخرجه أبو داود الطيالسي وغيره.
وهذا وإن كان قبل البعثة لكن هو اختيار الله تعالى له، بل وورد ما يدل على إقراره بعد البعثة هذا الأمر إجمالًا؛ فعن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ رضي الله عنه أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: «إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ»؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كِلَا الفريقين. قال: «مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ»؟ قال: لي شريح وعبد الله ومسلم، قال: «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ»؟ قال: شريح. قال: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ»، فدعا له ولولده. أخرجه أبو داود والنسائي.
ووجه الدلالة: عدم إنكاره التحاكم لأبي شريح، لكنه غير كنيته، فلو كان الأمر غير جائزٍ ما كان ليغير كنيته ويترك ما هو أهم من ذلك.
وقد رضي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالتحكيم مع أهل الشام، واحتج حبرُ الأمة على الخوارج بما ذكرنا من آيات الكتاب الحكيم؛ فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما خرجت الحَرورية اجتمعوا في دارٍ، وهم ستة آلاف، أتيتُ عليًّا رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين، أبرد بالظهر، لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أخاف عليك، قال: قلت: كلَّا، قال: فخرجت آتيهم، ولبست أحسن ما يكون من حُلل اليمن، فأتيتهم وهم مجتمعون في دار، وهم قائلون، فسلمت عليهم، فقالوا: مرحبًا بك يا أبا عباس، فما هذه الحُلة؟ قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن ما يكون من الحُلَل، ونزلت: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]، قالوا: فما جاء بك؟ قلت: أتيتكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون، وتخبرون بما تقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بالوحي منكم، وفيهم أنزل وليس فيكم منهم أحد، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشًا؛ فإن الله يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وأتيت قومًا لم أرَ قومًا قط أشد اجتهادًا منهم، مسهمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم ثفن، عليهم قمص مرحضة، قال بعضهم: لنكلمنه ولننظرن ما يقول، قلت: أخبروني ماذا نقمتم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثًا، قلت: ما هنَّ؟ قالوا: أما إحداهُنَّ، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، قال الله عز وجل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ [الأنعام: 57]، وما للرجال وما للحكم؟ فقلت: هذه واحدة، قالوا: وأما الأخرى، فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يَغْنَم، فلئن كان الذين قاتل كفارًا لقد حلَّ سبيُهم وغنيمتُهم، وإن كانوا مؤمنين ما حلَّ قِتالُهم، قلت: هذه ثنتان، فما الثالثة؟ قالوا: إنه مَحَا اسمَه من أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين، قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا، فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ما يرد به قولكم أترضون؟ قالوا: نعم، فقلت لهم: أما قولكم: حكَّم الرجالَ في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم ما قد رد حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ونحوها من الصيد؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]، إلى قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]، فنشدتكم بالله أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وإصلاح ذات بينهم، وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال، وفي المرأة وزوجها؛ قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35]، فجعل الله حكم الرجال سنة ماضية، أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. قال: وأما قولكم: قاتل فلم يسب ولم يغنم، أَتَسْبُونَ أمَّكُم عائشة، ثم تستحلُّون منها ما يُسْتَحَل من غيرها؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم، وهي أمكم، ولئن قلتم: ليست بأمِّنا لقد كفرتم؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، فأنتم تدورون بين ضلالتين؛ أيهما صرتم إليها صرتم إلى ضلالة، فنظر بعضهم إلى بعض، قلت: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، أريكم قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية كاتب المشركين سهيل بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين: «اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ»، فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ»، فوالله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرٌ من علي رضي الله عنه، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فرجع من القوم ألفان، وقتل سائرهم على ضلالة. "السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 310).
وعن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: قدمت على عائشة رضي الله عنها، فبينا نحن جلوس عندها، مرجعها من العراق ليالي قوتل علي رضي الله عنه، إذ قالت لي: يا عبد الله بن شداد، هل أنت صادقي عما أسألك عنه؟ حدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، قلت: وما لي لا أصدقك؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قلت: إن عليًّا رضي الله عنه لما أن كاتب معاوية، وحكم الحكمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قُرَّاءِ الناس، فنزلوا أرضًا من جانب الكوفة يقال لها: حروراء، وإنهم أنكروا عليه، فقالوا: انسلختَ من قميصٍ أَلْبَسَكَهُ اللهُ وأَسْمَاكَ به، ثم انطلقتَ فحكَّمت في دين الله، ولا حُكم إلا لله، فلما أن بلغ عليًّا ما عتبوا عليه وفارقوه، أمر فأذَّن مؤذنٌ: لا يدخلنَّ على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأ من قرَّاء الناس الدار، دعا بمصحف عظيم، فوضعه علي رضي الله عنه بين يديه، فطفق يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدِّثِ النَّاس، فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأله عنه، إنما هو ورق ومداد، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله تعالى؛ يقول الله عز وجل في امرأةٍ ورجلٍ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ﴾ [النساء: 35]، فأمَّةُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم حرمةً من امرأةٍ ورجل، ونقموا عليَّ أني كاتبت معاوية وكاتبت علي بن أبي طالب، وقد جاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية حين صالح قومَه قريشًا، فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم»، فقال سهيل: لا تكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قلت: فكيف أكتب؟ قال: اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبه»، ثم قال: «اكتب: من محمد رسول الله»، فقال: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك، فكتب: «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشًا»، يقول الله في كتابه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21]، فبعث إليهم عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه عبدَ الله بن عباس رضي الله عنه، فخرجت معه، حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكواء، فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن، إن هذا عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه من كتاب الله، هذا من نزل فيه وفي قومه: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]، فردوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله عز وجل، قال: فقام خطباؤهم فقالوا: والله لنواضعنه كتاب الله، فإذا جاءنا بحق نعرفه اتبعناه، ولئن جاءنا بالباطل لنبكتنه بباطله، ولنردنه إلى صاحبه، فواضعوه على كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف، كلهم تائب، فأقبل بهم ابن الكواء حتى أدخلهم على علي رضي الله عنه، فبعث علي إلى بقيتهم، فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، قفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتنزلوا فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن نقيكم رماحنا ما لم تقطعوا سبيلًا وتطلبوا دمًا، فإنكم إن فعلتم ذلك فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء، إن الله لا يحب الخائنين، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا ابن شداد، فقد قتلهم؟ فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدماء، وقتلوا ابن خباب، واستحلُّوا أهل الذِّمَّةِ، فقالت: آلله؟ قلت: آلله الذي لا إله إلا هو لقد كان، قالت: فما شيءٌ بلغني عن أهل العراق يتحدثون به يقولون: ذو الثدي، ذو الثدي، قلت: قد رأيتموه؛ وقفتُ عليه مع علي رضي الله عنه في القتلى، فدعا الناس فقال: هل تعرفون هذا؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي، فلم يأتوا بثبت يعرف إلا ذلك، قالت: فما قول علي حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قلت: سمعته يقول: صدق الله ورسوله، قالت: فهل سمعت أنت منه قال غير ذلك؟ قلت: اللهم لا، قالت: أجل، صدق الله ورسوله، يرحم الله عليًّا، إنه من كلامه: كان لا يرى شيئًا يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله. "السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 311).
الخلاصة
مما تقدم: يتبين جواز التحاكم إلى القوانين الوضعية؛ سواء كانت دولية أو محليَّة، شريطة ألا تتعارض مع الشريعة الإسلامية وثوابتها ومقاصدها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.