اطلعنا على الطلب الـمُقَدَّم، والمتضمن الأسئلة الآتية:
أولًا: ما هي آداب الدفن الشرعية؟
ثانيًا: هل يجوز بناء مقبرة (فسقية) فوق قبور دفن بها منذ أربعين عامًا؛ وذلك لضيق المكان، ولأن الدفن قد توقف مما سبب طمع بعض المعتدين الذين نبشوا القبور القديمة وأزالوا شواهدها بغية الاستيلاء على المقبرة؛ مما جعلنا ننشئ هذه المقابر لتجديد الدفن وجعلها حقوقًا للمسلمين عامة؟
ثالثًا: هل يجوز شق طريق بين هذه المقابر؛ وذلك لبناء مقابر أخرى في المساحة المتبقية نظرًا لأن تعداد السكان في تزايد مستمر؟
رابعًا: هل يجوز وضع أكثر من ميت في العين الواحدة؟
خامسًا: قد تم تشجير الجبّانة حول السور وداخله، فما الحكم؛ حيث إنه من الممكن وجود جثث تحت أو جوار الأشجار؟ وهل يجوز زرع أشجار مثمرة؟ بالعلم أنها تروى بالتنقيط؟
سادسًأ: هل يجوز إنشاء دورة مياه داخل سور المقابر؛ بحيث يكون الخزان خارج السور؟
سابعًا: ما حكم الشرع في بناء المقبرة بالطوب الأحمر الطفلي؟ مع العلم أنه دخل النار. وما حكم البناء بالطوب الجيري البلوك؟ مع العلم أننا نبني جسم المقبرة بالبلوك، والقبو بالطوب الأحمر الطفلي؟
ثامنًا: هل يجوز تجديد المقام المبني داخل المقابر لشيخ يدعى السنوسي أم لا؟
حكم بناء المدافن بالطوب الأحمر وإنشاء استراحة ودورة مياة وزراعة الأشجار بجوارها
أولًا: مِن المُقَرَّرِ شرعًا أنَّ دَفنَ الميت فيه تكريمٌ للإنسان؛ لقول الله تعالى في مَعرِض الِامتِنان: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ۞ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25-26]، وقد حَثَّ الإسلامُ عليه، وأَجمَعَ المسلمون على أنَّ دَفن الميت ومُوَارَاةَ بَدَنِهِ فرضُ كِفَايَةٍ؛ إذا قام به بَعضٌ مِنهم أو مِن غيرهم سَقَط عن الباقين.
والمأثور في كيفية دَفن الميت أنه بعد دخوله القبرَ يُوضَع على شِقِّهِ الأيمن استِحبابًا، ويجب أن يُوَجَّه وَجهُهُ إلى القِبلة، وهذا باتِّفاق الأئمة الأربعة، ويَحرُمُ تَوجيهُ الوَجهِ لغير القِبلة؛ كما هو حاصلٌ مِن بعض مَن يدفن في هذا الزمان.
ويُدخَل بالميت مِن فتحة القبر؛ بحيث يُدفَن تِجاه القِبلة مُباشَرةً مِن غير حاجَةٍ إلى الدَّوَران به داخل القبر، وذلك حسب فتحة القبر؛ إذ المطلوب شرعًا هو وضعُ الميت في قبره على شِقِّه الأيمن وتوجيهُ وَجهِهِ لِلقِبلة كما سَبَق، ولا يَضُرُّ أن يكون الدَّفن على الرَّمل أو التُّراب، فكُلُّ ذلك جائز.
ثانيًا: الأصل أن يكون الدفن في حفرة تحت الأرض ساترة للميت كاتمة للرائحة، ومانعة من نبش القبر أو تَعَرُّضِ نحوِ سَبُعٍ ضارٍ له، ويجوز في حال الضرورة أن لا يكون الدفن في حفرة، بل في بناء فوق الأرض أو (فسقية)، وإن تعددت أدواره بقدر الحاجة فلا مانع، وذلك كله بشرط التعامل بإكرامٍ واحترامٍ مع أجساد الموتى أو ما تبقى منها.
ثالثًا: لا مانع من شق طريق بين المقابر ما دامت الحاجة مقتضية لذلك، مع مراعاة شق الطريق بين القبور لا عليها.
رابعًا: الأصل أنه لا يدفن أكثر من ميت في القبر الواحد، أما في حالة امتلاء القبور أو تعذر الدفن فيها فإن ذلك يصير ضرورة تجيز ما هو بخلاف الأصل؛ فيجوز لذلك جمعُ أكثرَ مِن ميت مِن صنفٍ واحد ذكورًا أو إناثًا في قبر واحد.
خامسًا: ورد من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يستفاد منه أن وجود الأشجار والنباتات في المقابر مندوب إليه؛ لما فيه من التخفيف عن الميت بتسبيحها ما دامت رطبة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]، غير أنه يُتَحَرَّز عن زراعتها عند الأجساد غير البالية لئلَّا تتأذى بها.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبرين، فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 320، ط. دار المعرفة): [وقد قيل: إن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وعلى هذا فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الأشجار وغيرها] اهـ.
وقد نص الفقهاء على كراهة قطع ما ينبت من نبات أو شجر في المقابر مادام رطبًا، لكي لا يفوت على الميت الانتفاع بتسبيحه، كما نصوا على جواز انتفاع الأحياء بثمره، مما يدل جواز الزراعة في أرض خصصت للمقابر.
سادسًا: الأصل أن تكون دورة المياه خارج المقابر؛ احترامًا للأموات، واحترازًا من تأذيهم بالنجاسات، غير أنه إذا دعت الحاجة إلى بناء دورة المياه داخل سور المقابر فلا مانع من ذلك ما دام صرف النجاسات يتم خارج المقابر لا فيها، خاصة في المقابر الكائنة في الأماكن النائية.
سابعًا: لا مانع من ذلك كله، ومن كره ذلك من الفقهاء فإنما عدَّهُ تفاؤلًا أن الميت لا تمسه النار، ومن المقرر أن الكراهة تزول لأدنى حاجة، فلا تحريم في ذلك ولا كراهة.
ثامنًا: نعم يجوز ذلك، بل يستحب؛ لتيسير أمر زيارته على زواره، وحتى لا يندرس موضع قبره فتضيع معالمه على مريد زيارته، ولتمكين من أراد من الجلوس وقراءة القرآن عنده.
والله سبحانه وتعالى أعلم.