على من تكون دية القتل الخطأ

على من تكون دية القتل الخطأ

كنت أسير في يمين الطريق بسرعة من 65 إلى 70 كم/ساعة، وهي السرعة القانونية والمعتادة على الطريق الدائري، وهذا طريق غير مصرح بسير المشاة فيه، وكان أمامي حافلة ميني باص ركاب، وأعطاني سائق الحافلة إستوب مكابح فجأة، فظننت أن الحافلة سوف تقف فنظرت إلى اليسار فوجدته خاليًا فأعطيت إشارة شمال وأخذت الطريق لتفادي الحافلة، وبينما أنا كذلك فوجئت بولد ينطلق بسرعة عالية من أمام الحافلة وإذا هو أمام سيارتي مباشرة فقمت باستعمال آلة التنبيه مع إيقاف السيارة نهائيًّا، ومع ذلك لقرب الولد من السيارة ارتطم بمقدمة السيارة فسقط على الأرض مغشيًّا عليه، فقمت بإبلاغ الشرطة وطلبت الإسعاف لنقله إلى المستشفى، وقمت بتسليم نفسي إلى الشرطة، فحضرت الإسعاف والشرطة، وقامت الإسعاف بنقل المصاب وقامت الشرطة بعمل محضر رسمي، وتوفي الولد خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، فهل عليَّ دية لأهل المتوفى؟ وما قدرها؟ وما هي المسؤولية على الشركة التابع لها السائق؟

القتلُ في هذه الحالة قتلٌ خطأ، والديةُ الواجبة فيه شرعًا هي خمسةٌ وثلاثون كيلوجرامًا وسبعمائة جرامٍ من الفضة أو قيمتها، وتتحملها عاقلة القاتل -أي عَصَبَتُهُ-، وتُدفَع مقسطةً على ثلاث سنوات أو تدفع مُنَجَّزة، فإن لم تستطع العاقلةُ فالقاتل هو الذي يتحملها، فإن لم يستطع فيجوز أخذ الدِّية من غيرهم ولو من الزكاة، والمسؤولية على السائق لا على الشركة، إلا إن كانت هناك نصوص في اللوائح العمالية أو في العقد الموقع بين الشركة والسائق تنص على اشتراكها معه في تحمل مثل هذه الحوادث فتنفذ. وقد فوَّض الشارع الحكيم لأهل القتيل التنازل عن الدية أو بعضها تخفيفًا عن القاتل، وقبول الدية جائزٌ شرعًا. وعلى القاتل خطأً أيضًا كفارةٌ صيام شهرين متتابعين.

التفاصيل ....

المحتويات

مفهوم الدية

الدية شرعًا: هي المال الواجب في النفس أو فيما دونها، والأصل في وجوبها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 92].
ولم يعيِّن الله تعالى في كتابه قدر الدية، والذي في الآية إيجابها مطلقًا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو القاتل، وإنما ذلك كله من السنة المشرفة.

حكم الدية

أجمع أهل العلم على وجوب الدية؛ فروى أبو داود في "سننه" وغيرُهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِلَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا".
وروى أبو داود أيضًا في "سننه"، والبيهقي في "الكبرى" من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: "كَانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ثَمَانمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ ثَمَانِيَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَئِذٍ النِّصْفُ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلا إِنَّ الإِبِلَ قَدْ غَلَتْ. قَالَ: فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، قَالَ: وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْهَا فِيمَا رَفَعَ مِنَ الدِّيَةِ".
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (17/ 349، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب): [في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على وجه البدل والقيمة] اهـ.
قال الإمام القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 320-321، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة): [وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة، وأجمع أهل العلم على القول به.. والحكم في الدية أن تقسَّط على العاقلة على ثلاث سنين -على ما قضاه عمر وعلي رضي الله عنهما.. وإنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطيها دفعة واحدة لأغراض منها: أنه كان يعطيها صلحًا وتسديدًا، ومنها أنه كان يعجلها تأليفًا، فلما تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام. قاله ابن العربي. أجمع العلماء قديمًا وحديثًا على أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون في أقل منها، وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال، وأجمع أهل السير والعلم أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام، وكانوا يتعاقلون بالنصرة، ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل عمر الديوان، واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به، وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يدًا وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو] اهـ.
وقال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (7/ 98، ط. دار الحديث، مصر) :[فإن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله؛ لأن تتابع الخطأ لا يُؤْمَن، ولو تُرِك بغير تغريم لأهدر دم المقتول. وعاقلة الرجل عصبته من النسب، فيبدأ بفخذه الأدنى، فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب، ثم من بيت المال] اهـ.

مقدار الدية

لما كان هذا النظام غير مُتَهَيِّئٍ على كل الأحوال في عصرنا هذا فإنا نرى الأخذ بقيمة أقل صنف من أصناف الدية، ولأن الأصل براءة الذمة مما زاد على ذلك، وذلك متحقق في الفضة؛ فتكون الدية اثني عشر ألف درهم، والدرهم عند الجمهور 2.975 جرامًا تقريبًا، فيكون جملة ما هنالك 35 كيلوجرامًا و700 جرام من الفضة، تقوَّم هذه الكمية بسعر السوق طبقًا ليوم ثبوت الحق رضاءً أو قضاءً، ثم تقسَّط على ما لا يقل عن ثلاث سنين، وتتحملها العاقلة عن القاتل، فإن لم يمكن فالقاتل، فإن لم يستطع جاز أخذ الدية من غيرهم ولو من الزكاة، والتصالح في أمر الدية بالعفو أو بقبول قيمة أقل أمر مشروع بنص القرآن الكريم؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ [النساء: 92]، ويقول: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: 178].

تنازل أهل القتيل عن الدية

فوض الشارع الحكيم لأهل القتيل التنازل عن الدية أو عن بعضها تخفيفًا عن القاتل إن لم يتيسر دفعها أصلًا أو دفعها كلها، وقبول الدية جائزٌ شرعًا؛ لأنها حق لأهل القتيل، فلهم قبولها أو التنازل عنها أو التصالح على جزء منها. وعلى القاتل خطأ أيضًا كفارة صيام شهرين متتابعين، والمسؤولية هنا على السائق لا على الشركة، إلا إن كانت هناك نصوصٌ في اللوائح العمالية أو في العقد الموقع بين الشركة والسائق تنص على اشتراكها معه في تحمل مثل هذه الحوادث؛ فتنفذ؛ لأن المسلمين عند شروطهم، ولا بأس بأن يتم النص على مشاركة الشركات للسائقين في تحمل تبعات مثل هذه الحوادث؛ لتقوم مقام العاقلة في ذلك.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا