عدة المطلقة ممتدة الطهر

عدة المطلقة ممتدة الطهر

ما هو المعمول به في الفتوى والقضاء طبقًا لأرجح الأقوال في مذهب الإمام أبي حنيفة بالنسبة لانتهاء عدة سيدة في الثلاثين من عمرها طلقت طلاقًا رجعيًّا من سنتين، ولم تَرَ دم الحيض بعد الطلاق إلا مرة واحدة فقط، ثم ارتفع عنها الحيض لسبب لا تعلمه، مع أن حيضها كان معتادًا قبل الطلاق، فهل يُحكَم بأنها ممتدة الطهر تنتظر إلى سن الإياس ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ فتظل معلقة بحيث لا تستحق مؤخر صداقها ولا يمكنها الزواج قبل ذلك؟

المأخوذ به في القضاء المصري أنه عند عدم وجود نص في قانون الأحوال الشخصية فإنه يُعمَل بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة؛ وذلك طبقًا للمادة الثالثة من قانون الأحوال الشخصية رقم 1 لسنة 2000م.

والمقصود بالأرجحية هنا ما عليه العمل والفتوى عند السادة الحنفية، لا مجرد تحرير النقل في المذهب؛ ضرورةَ أن نصوص القانون وأحكامه إنما هي للقضاء والعمل بها بين الناس، فما نص عليه الحنفية في كتبهم أنه يُفتَى به للضرورة، أو للحاجة إليه، أو لكثرة وقوعه، أو لتغير العرف، أو لفساد الزمان، أو للمصلحة الراجحة، أو لغير ذلك -مما يُعرَف مِن مَظانِّه- يكون راجحًا من جهة العمل وجواز التقليد وإن لم يكن راجحًا من جهة تحرير المذهب ونقله، بل وإن لم يكن من المذهب الحنفي أصلًا؛ لأنهم لم يحكموا بجواز الفتيا به إلا توخِّيًا للمصالح الشرعية المرعية، فيكون حينئذٍ راجحًا من جهة العمل، ولا يعني ذلك إلا جواز الإفتاء والقضاء به عندهم إذا لزم الأمر.
وهذه الحالة المسؤول عنها تُعرَف في الفقه بـ(مُمتَدَّة الطُّهر)، وهي المرأة التي كانت تحيض ثم انقطع حيضها بلا سبب يُعرَف قبل بلوغها سن اليأس.

والمنقول عن مذهب الحنفية في هذه المسألة أنها تنتظر إلى سن اليأس، والمختار عندهم أنه خمس وخمسون سنة. غير أن الذي عليه المحققون من الحنفية: أن الفتوى في هذه المسألة -وكذلك القضاء- إنما هي على مذهب الإمام مالك في جعله عدة ممتدة الطهر سنة قمرية (تسعة أشهر للإياس من الحمل، وثلاثة أشهر لانقضاء العدة)، كما أن المعتمد عليه في مذهب الحنفية أنه لو قضى بذلك قاضٍ فإن قضاءه نافذ ولا يُنقَض.

فمِمَّن نص على الفتوى بذلك من فقهاء الحنفية: العلَّامة نجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغَزْمِيني الحنفي [ت658هـ] في كتابه "المجتبى شرح القدوري" حيث قال: [وقد كان بعض أصحابنا وأستاذينا يُفتُون بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، خصوصًا الإمام والدي] اهـ نقلًا عن "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" للعلَّامة ابن نجيم (4/ 142، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"حاشية العلَّامة الطحطاوي على الدر المختار" (2/ 217، ط. بولاق).

ثم جاء العلَّامة محمد بن محمد بن شهاب بن يوسف الكَرْدَري الحنفي الشهير بالبَزّازي [ت827هـ] فقرر أن الفتوى عند الحنفية في زمانه إنما هي على قول الإمام مالك، وذلك في كتابه "الجامع الوجيز" المعروف بـ"الفتاوى البَزّازِيَّة" (4/ 256، بهامش "الفتاوى الهندية"، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1310هـ)، ونص عبارته: [بَلَغَتْ فرَأَتْ يومًا دمًا، ثم انقطع ومضى حولٌ، ثم طلقت، فعِدَّتُها بالأشهر، وإن رأت ثلاثة أيام وانقطع ومضى سنة أو أكثر ثم طلقت فعِدَّتُها بالحيض إلى أن تبلغ حدَّ الإياس وهو خمس وخمسون سنة في المختار، وعند مالك للآيسة تسعة أشهر؛ ستة أشهر لاستبراء الرحم، وثلاثة أشهر للعدة، قال العلَّامة: والفتوى في زماننا على قول مالك في عدة الآيسة] اهـ.

ثم قال بعد ذلك (4/ 260): [وعن مالك رحمه الله فيمن طلقها زوجها ومضى عليها نصف عام ولم تُرَدّ: ما يُحكَم بإياسها حتى تمضي عدتها؛ تعتد بثلاثة أشهر (ونقلها ابن عابدين في "الحاشية": بعد ثلاثة أشهر)، ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما مثلُه، فعلى هذا في مُمتدَّة الطُّهر قبل بلوغها إلى الإياس فاعتدت بثلاثة أشهر بعد مضي نصف سنة وبه قضى القاضي جاز؛ لأنه مُجتَهَدٌ فيه. ويُحفَظ هذا لكثرة وقوعه] اهـ.
وكتاب "الفتاوى البزازية" هو من الكتب المعتمدة في الفتوى عند الحنفية؛ حتى قيل للعلَّامة أبي السعود المفتي الحنفي [ت982هـ]: لِم لا تجمع المسائل المهمة ولم تؤلف فيها كتابًا؟ فقال: [أستحي من صاحب البزازية مع وجود كتابه] اهـ نقلًا عن "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" لأبي الحسنات اللكنوي (ص: 188، ط. دار المعرفة، بيروت).

وكلام الإمام البزازي هذا نقله جماعة من علماء الحنفية مُقِرِّينَ له؛ كشيخ الإسلام محمد بن حسين الأنقروي [ت1098هـ] في "الفتاوى الأنقروية" (1/ 97، ط. بولاق 1281هـ)، وقاضي قضاة الحنفية في زمنه عبد البر بن الشِّحْنة [ت921هـ] في "شرح الوهبانية"؛ كما في "الدر المختار" للعلَّامة الحصكفي (3/ 558، ط. دار الفكر-بيروت).

وكذلك المولى شمس الدين محمد الخراساني القهستاني الحنفي [ت962هـ] مرجع الفتوى ببخارى وجميع ما وراء النهر؛ حيث ذكر أن بعض الأصحاب يفتون بقول الإمام مالك؛ كما في "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" (1/ 467، ط. دار إحياء التراث العربي).

والمعتمد في مذهب المالكية أن ممتدة الطهر تنتظر حولًا لا تسعة أشهر؛ لأنها تمكث تسعة أشهر لاستبراء الرحم، ثم تتربص ثلاثة أشهر عدة الآيسة:

قال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" في (الفرق الرابع والسبعين والمائة، 3/ 200-201، ط. عالم الكتب): [المرتابات يتأخر الحيض ولا يُعلَم لتأخره سببٌ: فإنهن يمكثن عند مالك رحمه الله تسعةَ أشهر غالبَ مدة الحمل استبراءً؛ فإن حِضن في خلالها احتسبن بذلك الحيض وانتظرن بقية الأقراء إلى تسعة أشهر، ولا يزلن كذلك حتى يكمل لهن ثلاثة قروء أو تسعة أشهر، فإذا انقضت تسعة أشهر ليس في خلالها حيض استأنفن ثلاثة أشهر كمالَ السنة، فإن حضن قبل السنة بلحظة استأنفن الأقراء حتى تمضي سنة لا حيض فيها. ووافقه أحمد بن حنبل رضي الله عنه] اهـ.

ولذلك قال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 185، ط. دار عالم الكتب 2003م): [ورأيت بخط شيخ مشايخنا السائحاني: أن المعتمد عند المالكية: أنه لا بد لوفاء العدة من سنة كاملة تسعة أشهر لمدة الإياس وثلاثة أشهر لانقضاء العدة. قلت: ولذا عبر في "المجمع" بالحول] اهـ.

وخالف بعض الحنفية فمنعوا من الإفتاء بقول الإمام مالك في هذه المسألة؛ محتجين بمخالفته لجميع الروايات عند الحنفية، وبأن الضرورة منتفية؛ حيث يمكن للقاضي الحنفي أن يحولها لقاضٍ مالكي بذلك حتى لا يقع في القضاء بغير مذهبه، واتفقوا مع المفتين بقول المالكية فيها على أنه لو قضى بها قاضٍ مالكي فإن قضاءه ينفذ، ولا يجوز نقضه.

قال العلامة زين الدين بن إبراهيم الحنفي الشهير بابن نُجَيم [ت970هـ] في شرحه "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (4/ 142، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو قضى قاضٍ بانقضاءِ عِدَّةِ المُمْتَدِّ طُهْرُها بعد مُضِيِّ تسعةِ أشهرٍ نَفَذَ كما في "جامع الفُصُولَيْنِ"، ونقل في "المَجْمَعِ" أَنَّ مالكًا يقول: إنَّ عِدَّتَها تَنْقَضِي بِمُضِيِّ حَوْلٍ، وفي "شرح المنظُومةِ": أنّ عِدَّةَ المُمْتَدِّ طُهْرُهَا تَنْقَضي بِتسعةِ أشهر كما في "الذخيرة" مَعْزِيًّا إلى حيضِ "منهاج الشريعة", ونُقِلَ مثلُه عن ابْنِ عمر رضي الله عنهما، قال: وهذه المسألةُ يَجِبُ حِفظُها؛ لأنها كثيرة الوقوعِ، وذكر الزَّاهديُّ: وقد كان بعضُ أصحابنا يُفتُونَ بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، خصوصًا الإمام والدي اهـ. قلت: لكنه مخالف لجميع الروايات فلا يُفتَى به، نعم لو قضى مالكي به نفذ] اهـ.

ونحوه قول العلَّامة الحصكفي [ت1088هـ] في "الدر المختار" (1/ 246، ط. دار الكتب العلمية): [وما في "شرح الوهبانية" من انقضائها بتسعة أشهر غريب مخالف لجميع الروايات فلا يفتى به. كيف وفي نكاح "الخلاصة": لو قيل لحنفي ما مذهب الإمام الشافعي في كذا؟ وجب أن يقول: قال أبو حنيفة كذا، نعم لو قضى مالكي بذلك نفذ كما في "البحر" و"النهر"، وقد نظمه شيخنا الخير الرملي سالمًا من النقد فقال:
لِمُعتـــــدَّةٍ طُهـــــــــــرًا بتسـعة أشهـر ... وفـا عِدَّةٍ إن مالكي يقـدر
ومن بعده لا وجه للنقض هكذا ... يُقال بلا نقد عليه ينظر] اهـ.

وقد حمل العلامةُ ابن عابدين عبارةَ العلَّامة البزازي الأولى (والفتوى في زماننا على قول مالك) على عبارته الثانية (وبه قضى القاضي جاز؛ لأنه مجتهد فيه) ليوفق بذلك بين قول "البزازية" وبين المانعين، ليصير المعنى: نفاذ حكم القاضي المالكي إذا حكم بمذهبه في المسألة، لا أن الفتوى بذلك حقيقةً عند الحنفية؛ فقال في حاشيته "منحة الخالق على البحر الرائق" (4/ 142، مطبوعة مع "البحر الرائق"): [(قولُه نعم لو قضى به مالكيٌّ نفذ) الذي يظهر أن هذا هو المراد مِن عبارة "البزَّازِيَّةِ" التي نقلْناها; لتعليله بقوله: لأنه مُجْتَهَدٌ فيه] اهـ.

وفيما استظهره نظر من خمسة أوجه:
- الأول: أن العلَّامة الزاهدي -وهو من فقهاء الحنفية في القرن السابع- نص صراحة -كما سبق النقل عنه- على أن جماعة من أستاذيه وغيرهم من فقهاء الحنفية ومنهم العلَّامة والده كانوا يفتون بقول الإمام مالك في المسألة، وحَمْلُ عبارة البزازي على غير ذلك فيه تكلف ظاهر.
- الثاني: أن القائلين بالفتوى بذلك من الحنفية هم من بلاد ما وراء النهر؛ كالزاهدي الغَزْمِيني، والبزازي الكَرْدَري، نسبة إلى (غَزْمِين) و(كَرْدَر) مدينتين بخوارزم، ومع أن الإمام البزَّازي قد رحل إلى بلاد الروم إلا أنه أتم فتاواه قبل ذلك كما ذكره اللكنوي في "الفوائد البهية" (ص: 187) أخذًا مما نص عليه في آخر كتاب الإجارة من "البزازية"، وكذلك القُهسْتاني كان مفتيَ بخارى وبلاد ما وراء النهر، وهذه البلاد لا يكاد يوجد فيها قاضٍ مالكي كما نص عليه العلَّامة الشهاب الحموي [ت1098هـ] في "حاشيته على شرح الكنز" لملا مسكين، وسيأتي نص كلامه، فحَمْلُ كلامهم في الفتوى بمذهب الإمام مالك في هذه المسألة على نفاذ قضاء قضاة المالكية بذلك فيه بُعدٌ؛ لأنه يقتضي عدم الفتوى أو القضاء بذلك في بلادهم أصلًا، أو العمل به على قلة حيث يوجد قاضٍ مالكي، وهو مخالف للمنقول عنهم من كون الفتوى عليه.

- الثالث: أن نفاذ حكم القاضي في المسائل المختلف فيها أمر معلوم مقرر لا يُحتاج إلى ذكره في كل مسألة، وقد تقرر أن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد.

- الرابع: أن نفاذ القضاء في المجتهَد فيه لا يُقال له (والفتوى على كذا)؛ وإلَّا لزم من ذلك جوازُ أن يُقال: إن الفتوى على غير قول الحنفية في كل مسألة يصححون فيها قضاء غيرهم، واللازم باطل، فيبطل الملزوم.

- الخامس: أن العلَّامة ابن عابدين نفسه أقر بجواز قضاء الحنفي في هذه المسألة بهذا القول عند الحاجة إلى ذلك بعدم وجود القاضي المالكي، وسيأتي نص عبارته في ذلك.

والتحقيق أن المراد عند الحنفية بكون الفتوى في هذه المسألة على قول الإمام مالك هو جواز إفتاء الحنفي فيها بذلك في حالة الضرورة -وكذلك قضاؤه-، وأن ذلك لا يُخرِجُه عن مقتضى مذهب الحنفية؛ وذلك لِمَا يأتي:

أولا: أن اعتماد قول الإمام مالك في هذه المسألة عند الحنفية قد نَصَّ عليه البزازي بقوله: "والفتوى في زماننا على قول مالك"، ومن المقرر عند الحنفية أن نحو عبارة "والفتوى في زماننا على كذا" من أقوى العبارات في الدلالة على ما عليه العمل والاعتماد عندهم، قال العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 37-38، ط. ضمن رسائل ابن عابدين):
[وحيثما وجـــدت قوليــــــن وقد ... صُحِّح واحد: فذاك المعتـــــــمَد
بنحو ذا الفتوى عليه، الأشبهُ ... والأظهر، المختار ذا، والأوجهُ
أو الصحيـــــــح، والأصح آكـد ... منه، وقيل: عكســــــــــه المؤكـــــــد
كذا به يُفتَى، عليه الفتـــــــــــــوى ... وذان من جميـــــــــــــع تلك أقـوى
قال في آخر الفتاوى الخيرية وفي أول المضمرات: أما العلامات للإفتاء: فقوله (وعليه الفتوى)، و(به يُفتَى)، و(به نأخذ)، و(عليه الاعتماد)، و(عليه عمل اليوم)، و(عليه عمل الأمة)، و(هو الصحيح)، و(هو الأصح)، و(هو الأظهر)، و(هو المختار في زماننا)، و(فتوى مشايخنا)، و(هو الأشبه)، و(هو الأوجه)، وغيرها من الألفاظ المذكورة في متن هذا الكتاب في محلها في "حاشية البزدوي". انتهى.

وبعض هذه الألفاظ آكد من بعض، فلفظ (الفتوى) آكد من لفظ (الصحيح) و(الأصح) و(الأشبه) وغيرها، ولفظ (به يُفتَى) آكد من لفظ (الفتوى عليه).

وإذا اختلف اللفظ: فإن كان أحدهما لفظ (الفتوى) فهو أولى؛ لأنه لا يُفتَى إلا بما هو صحيح، وليس كل صحيح يُفتَى به؛ لأن الصحيح في نفسه قد لا يُفتَى به؛ لكون غيره أوفق؛ لتغير الزمان وللضرورة ونحو ذلك، فما فيه لفظ الفتوى يتضمن شيئين: أحدهما الإذن بالفتوى به، والآخر صحته؛ لأن الإفتاء به تصحيح له، بخلاف ما فيه لفظ (الصحيح) أو (الأصح) مثلًا] اهـ.

ثانيًا: أن الفتوى في هذه المسألة على قول المالكية إنما هو من باب الضرورة، كما نص عليه الزاهدي بقوله: وقد كان بعض أصحابنا وأستاذينا يُفتُون بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، والبزازي بقوله: ويُحفَظ هذا لكثرة وقوعه. وما ذكره المانعون من أنه لا يُعمَل بالضعيف ولا يُفتَى به إنما هو في غير حالة الضرورة، أما في حال الضرورة فقد اتفقوا على جواز العمل والإفتاء.

قال ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 25): [قلت: لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة ونحوها؛ كما مر في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررناه سابقًا، فحينئذ يجوز الإفتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبًا عن "الحاوي القدسي"] اهـ.

وقال أيضًا (1/ 50): [وقد ذكر صاحب "البحر" في الحيض في بحث ألوان الدماء أقوالًا ضعيفة ثم قال: وفي "المعراج" عن فخر الأئمة: لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة طلبًا للتيسير كان حسنًا انتهى، وبه علم أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر. فما مر من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الإفتاء به محمول على غير موضع الضرورة كما علمته من مجموع ما قررناه، والله تعالى أعلم] اهـ.

وفي "شرح الأشباه" للبيري: [هل يجوز للإنسان العمل بالضعيف من الرواية في حق نفسه؟ نعم، إذا كان له رأي، أما إذا كان عاميًّا فلم أره، لكن مقتضى تقييده بذي الرأي: أنه لا يجوز للعامي ذلك، قال في "خزانة الروايات": العالم الذي يعرف معنى النصوص والأخبار وهو من أهل الدراية يجوز له أن يعمل عليها وإن كان مخالفًا لمذهبه انتهى. وتقييده بذي الرأي أي المجتهد في المذهب مخرج للعامي كما قال؛ فإنه يلزمه اتباع ما صححوا، لكن في غير موضع الضرورة كما علمته آنفًا] اهـ.

وقد تقرر في قواعد الفقه عند الحنفية وغيرهم: "أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة"، ولا شك أن الضرورةَ -أو الحاجة التي تُنَزَّل مَنزلتَها- متحققةٌ في هذه المسألة؛ فإنها مفروضة فيمن انقطع حيضها من النساء قبل بلوغ سن اليأس، وفي منع المرأة من الزواج إلى بلوغ هذه السن من الحرج والمشقة ما لا يخفى، ومثل هذا هو من الحرج المرفوع عن الأمة، ومن المقرر عند الحنفية وغيرهم أن "المشقة تجلب التيسير" وأنه "إذا ضاق الأمر اتسع"، فإذا انضاف إلى ذلك تغير الزمان وكثرة المفاسد وشيوع أسباب الشهوات كانت الضرورة أعظم والحاجة إلى الفتوى والقضاء بقول المالكية أشد، والضرورة -وكذا الحاجة المنزَّلة منزلتَها- كما تكون حالة عارضة فإنها قد تكون أيضًا أمرًا عامًّا شائعًا، وعموم الضرورة يقتضي عموم حكمها.

وإنما منع بعضُ الحنفية من قضاء الحنفي أو فتواه بغير مذهبه اعتمادًا على السعة التي سببها تنوعُ قضاة المذاهب الفقهية المختلفة، فكان إذا رأى القاضي المصلحة في القضاء في مسألة بغير مذهبه حوَّلها لقاضي المذهب الذي يرى المصلحة في القضاء به في المسألة، فكان يتوقى بذلك القضاء بغير المعتمد في مذهبه؛ لانتفاء الضرورة؛ وهو ما حمل بعضَ الحنفية على نفي تحقق الضرورة بوجود القاضي المالكي الذي يمكن إحالةُ المسألة عليه، وهذا يقتضي تحققها بانعدامه.

ولذلك لَمَّا قال صاحب "النهر": [وأنت خبير بأنه لا داعي إلى الإفتاء بقول نعتقد أنه خطأ يحتمل الصواب مع إمكان الترافع إلى مالكي يحكم به. وفي نكاح "الخلاصة": قيل لحنفي: ما مذهب الشافعي في كذا؟ وجب عليه أن يقول: قال أبو حنيفة كذا؛ لِمَا قلنا] اهـ. رده الشهاب الحموي بقوله: [وأقول: فيه نظر؛ فإن الداعيَ إلى الإفتاء بقول مالكٍ الضرورةُ، وذلك عند عدم وجود قاضٍ مالكي، خصوصًا وديار أكثر أصحابنا بما وراء النهر لا يكاد يوجد بها قاضٍ مالكي، وما نقله عن "الخلاصة" مفروض في غير الضرورة] اهـ، نقلًا عن أبي السعود في حاشيته "فتح الله المعين على شرح الكنز لمنلا مسكين" (2/ 213، ط. جمعية المعارف المصرية 1287هـ).
وكذا قال العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 186): [لكن هذا ظاهر إذا أمكن قضاءُ مالكي به، أو تحكيمُه، أما في بلاد لا يوجد فيها مالكيٌّ يحكم به فالضرورة متحققة، وكأن هذا وجه ما مر عن "البزازية" و"الفصولين"] اهـ.

فإذا جاز قضاء القاضي الحنفي به في هذه الحالة آل الأمر إلى كونه هو المعمول به عند الحنفية في مسألة الضرورة أو حالتها أو زمانها، ويصدق عليه حينئذٍ أنه الأرجح في الفتوى والقضاء وإن لم يكن معتمد المذهب في "النقل والتحرير".

وهذا يقتضي جواز القضاء بهذا القول في عصرنا، من غير أن يكون في ذلك خروج عن مقتضى مذهب الحنفية؛ لأنه لا وجود لقضاة المذاهب الآن في الديار المصرية، وإنما تخير الحاكم في الأحوال الشخصية من مختلف المذاهب الفقهية ما يحقق مصلحة العباد، ويكون أنسب لواقعهم وأعرافهم، فالضرورة هنا متحققة على كل حال.

ثالثًا: أنهم نصوا على أن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم بناءً على الضرورة لا يخرج بذلك عن مذهبه عملًا إذا رجحه الأئمة المعتبرون؛ لأنهم إنما بنوه على قواعد إمامهم.

قال العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 25): [(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون، وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضًا؛ لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حيًّا لقال بما قالوه؛ لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضًا، فهو مقتضى مذهبه، لكن ينبغي ألا يقال: قال أبو حنيفة كذا، إلا فيما رُوِيَ عنه صريحًا، وإنما يقال فيه: مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا كما قلنا، ومثله تخريجات المشايخ بعضَ الأحكام من قواعده أو بالقياس على قوله، ومنه قولهم: وعلى قياس قوله بكذا يكون كذا، فهذا كله لا يقال فيه: قال أبو حنيفة، نعم يصح أن يُسمَّى مذهبه أو مقتضى مذهبه] اهـ.

وقال فيها أيضًا (1/ 44): [اعلم أن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناءً على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان؛ بسبب فساد أهل الزمان، أو عموم الضرورة، كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن، وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة، مع أن ذلك مخالف لِمَا نص عليه أبو حنيفة] اهـ.

رابعًا: أن هناك فارقًا بين الحكم الشرعي الثابت، والفتوى التي تحكمها قواعد الشرع الكلية ومصالح الخلق المرعية؛ ولذلك فإنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، وهو ما يُمكِن أن يُعبَّر عنه بالفرق بين مفتي المذهب الذي وظيفته نقلُ ما تحرر في المذهب اعتمادُه وأرجحيتُه في نفسه من حيث هو، وبين ما نُصَّ على ترجيحه من حيث العمل والفتوى وتغير الأعراف والنظر للمآلات، كما سبقت الإشارة إليه في أول الفتوى، ومَنْعُ مَن مَنَعَ إنما جاء خوفًا من أن يُنسَب إلى المذهب ما ليس منه، أو حذرًا من أن يُجعَل المرجوح في النقل والتحرير راجحًا، وذلك على اعتبار أن المفتي إنما هو مفتي المذهب؛ ينظر فيه ملتزمًا بالإخبار والنقل لِمَا هو المعتمد عند من سبقه من الفقهاء.

يقول العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 37-38): [فإن قلتَ: هذا مخالف لما قدمته سابقًا من أن المفتي المجتهد ليس له العدول عما اتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه؛ فليس له الإفتاء به وإن كان مجتهدًا مُتقنًا؛ لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين غيره، ولا يبلغ اجتهاده اجتهادهم كما قدمناه عن "الخانية" وغيرها.
قلتُ: ذاك في حق من يفتي غيره، ولعل وجهه: أنه لَمَّا علم أن اجتهادهم أقوى ليس له أن يبني مسائل العامة على اجتهاده الأضعف، أو لأن السائل إنما جاء يستفتيه عن مذهب الإمام الذي قلده ذلك المفتي، فعليه أن يفتي بالمذهب الذي جاء المستفتي يستفتيه عنه.

ولذا ذكر العلامة قاسم في "فتاويه": أنه سُئِل عن واقف شرط لنفسه التغيير والتبديل، فصيَّر الوقف لزوجته. فأجاب: أني لم أقف على اعتبار هذا في شيء من كتب علمائنا، وليس للمفتي إلَّا نقلُ ما صح عند أهل مذهبه الذين يفتي بقولهم، ولأن المستفتي إنما يُسأل عما ذهب إليه أئمة ذلك المذهب لا عما ينجلي للمفتي. انتهى.

وكذا نقلوه عن الإمام القفال من أئمة الشافعية أنه كان إذا جاء أحد يستفتيه عن بيع الصبرة يقول له: تسألني عن مذهبي أو عن مذهب الشافعي؟ وكذا نقلوه عنه أنه كان أحيانًا يقول: لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول: مذهب الشافعي كذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأنه جاء ليَعلَم ويستفتي عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره] اهـ.

وواضحٌ من قوله (وليس للمفتي إلا نقلُ ما صح عند أهل مذهبه) أنه يتحدث عن الفتوى بمعنى نقل صحيح المذهب، لا عن الفتوى بمعنى العمل بما تقتضيه المصلحة الراجحة؛ قال العلامة ابن عابدين في حاشيته على "الدر المختار" (6/ 554): [وينبغي أن يكون مطمحُ نظره إلى ما هو الأرفق والأصلح، وهذا معنى قولهم: إن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة] اهـ.

وحاصل ذلك: أن من نظر للمفتي باعتباره ناقلًا للمذهب: مَنَعَه من الفتوى بخلاف المعتمد.

ومن اشترط كونه مجتهدًا: أجاز له الفتوى حسب ما تقتضيه المصلحة وإن خالف المعتمد.

قال العلَّامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على الدر المختار" (1/ 49، ط. بولاق): [والمفتي عند الأصوليين: المجتهِد، قال في "البحر" عن "التتارخانية": اعلم أن أبا يوسف قال: لا تحل الفتوى إلا لمجتهد، ومحمد جوَّزها إن كان صواب الرجل أكثر من خطئه، وعن الإسكافي: أن الأعلم بالبلد لا يسعه تركُها، وقال في "فتح القدير": وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهدين فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سُئِل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية. فعُرِف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين (في الأصل: المجتهدين، والتصحيح من "فتح القدير") ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي] اهـ.

وهذا كله في غير حالة الضرورة، أما في حالة الضرورة فلا وجه للقول بالمنع من الفتوى بالأرجح عملًا، خاصةً مع انتفاء اللبس وعدم الإيهام بكونه معتمد المذهب نقلًا وتحريرًا؛ وذلك بنسبة القول لصاحبه ومعرفة قوته وضعفه في تحرير المذهب ونقله.

خامسًا: أنهم نصوا على أنه لا نزاع في جواز التقليد؛ سواء قلنا إنه جائز بشرط عدم التلفيق، أو قلنا بجوازه مع التلفيق.

قال العلامة أبو السعود محمد بن علي الحسيني الحنفي -وهو من علماء القرن الثاني عشر الهجري- في حاشيته "فتح الله المعين على شرح الكنز" للشيخ محمد منلا مسكين (2/ 213، ط. جمعية المعارف المصرية 1287هـ): [واعلم أن الإفتاء بقول مالك هو عين التقليد، ولا نزاع في جوازه بشرط عدم التلفيق على ما ذكره الشيخ حسن وأفرده برسالة، ويخالفه ما ذكره العلامة ابن المنلا فروخ؛ حيث صرح بجواز العمل بالتلفيق وأطال الكلام على ذلك على وجه التحقيق، وأفرده برسالة أيضًا، وعزا القول بجواز التلفيق لابن الهُمَام في "التحرير"، ولصاحب "البحر" في بعض رسائله، وأنه قال -أي: صاحب البحر-: منعُ العمل بالتلفيق خلاف المذهب، ولغير صاحب "البحر" أيضًا من علماء خوارزم، بل عزا العمل بالتلفيق لأبي يوسف، لكن كلام العلامة نوح أفندي في رسالته المتعلقة بمسائل المسبوق يؤيد ما ذكره الشيخ حسن] اهـ.

وما قيدوه به من أنه للعامل به في نفسه، لا للمفتي لغيره، إنما هو في غير موضع الضرورة؛ كما قال العلَّامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (1/ 176).

سادسًا: أن هناك رواية عند الحنفية بأن سن الإياس مُفوَّض إلى مجتهد الزمان، أو رأي الحاكم، ورواية أخرى بأنه ثلاثون سنة.
قال العلَّامة الحصكفي في "الدر المختار" (3/ 566): [(و) الإياس (سِنُّهُ) للرومية وغيرها (خمس وخمسون) عند الجمهور وعليه الفتوى، وقيل: الفتوى على خمسين. "نهر". وفي "البحر" عن "الجامع": صغيرة بلغت ثلاثين سنة ولم تحض حُكِمَ بإياسها] اهـ.

وقال العلَّامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (2/ 221): [(وقيل: الفتوى على خمسين)، قال القُهستاني: وبه يُفتَى اليوم كما في "المفاتيح"، أو ستين، أو ثلاث وستين، أو ثلاثين، وعنه: أنه مفوَّض لمجتهد الزمان، وقدَّره بعضهم بعدم رؤية الدم مرة، وقيل مرتين، وقيل ثلاثًا (قوله: وفي "البحر" عن "الجامع": صغيرة إلخ) لعل هذا مبني على القول بأن سِنَّه ثلاثون، هذا إن قلنا إنها رأت دم الحيض ثم انقطع، وأما إذا لم تَرَ دمًا أصلا فقد تقدم أن عدتها بالأشهر] اهـ.

وقال العلَّامة عبد الرحمن بن محمد، المعروف بشيخي زاده ويقال له الداماد [ت1078هـ] في كتابه "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" (1/ 467، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وإن اعتدت الآيسة) أي البالغة إلى خمس وخمسين سنة وعليه الفتوى، أو خمسين سنة وبه يُفتَى اليوم، أو ستين سنة، أو ثلاث وستين، وعنه: أنه مُفَوَّضٌ إلى مجتهد الزمان، وقدَّر بعضٌ بعدم رؤية الدم مرة، وقيل: مرتين، وقيل: ثلاث مرات، وقيل: بستة أشهر فتنقضي العدة بعد ذلك بثلاثة أشهر وإليه ذهب مالك، فلو قَضَى به قاضٍ نَفَذَ، وكذا في ممتدة الطهر، وهذا مما يجب حفظه. وفي الزاهدي: أنه لو ارتفع حيضُها تنتظر تسعة أشهر إن كان بها حبل وإلا اعتدت بثلاثة أشهر بعدها، وبه أخذ مالك، ويفتي به بعضُ أصحابنا كما في القهستاني] اهـ.

وعلى القول بتفويض ذلك للحاكم أو مجتهد الزمان حملوا قضاء سيدنا عمر رضي الله عنه في تقدير عدة ممتدة الطهر بتسعة أشهر؛ فجعلوه من باب السياسة الشرعية والمصالح المرعية:

يقول الإمام العلامة التهانوي الحنفي في "إعلاء السنن" (8/ 3966، ط. دار الفكر): [ولا يُحكَم بكونها آيسة إلا بعد الانتظار مدة يغلب فيها على الظن كونُها آيسةً، فقدَّرها عمر رضي الله عنه برأيه بتسعة أشهر، وهي مفوَّضة عندنا إلى رأي الحاكم، وأما التي ارتفعت حيضتها لأجل الرضاع ونحوه فعدتها ثلاث حيض كوامل؛ لكونها ممن تحيض، والله تعالى أعلم] اهـ.

وعلى ذلك فإطلاق القول بمخالفة هذه الفتوى لجميع الروايات فيه نظر ظاهر؛ لوجود الرواية عند الحنفية بتفويض الحكم بالإياس لمجتهد الزمان أو الحاكم وحكمها شامل لممتدة الطهر، وهذا يقتضي أنه مهما كان حكم الحاكم أو المجتهد فلا يُعَدُّ خارجًا عن المذهب؛ لا في النقل ولا في الفتوى والقضاء، ويكون حكمُه حينئذ بانقضاء عدة ممتدة الطهر بعد سنة جاريًا على وفق المذهب الحنفي، وتكون مطابقته للمذهب المالكي حينئذ اتفاقًا معه لا تقليدًا له.

ومن المقرر عند الحنفية إذا كان في المسألة قولان مصححان أنه يختار الأرفق بأحوال الناس.

قال العلَّامة الحصكفي في "الدر المختار" (1/ 83-84): [وأما نحن فعلينا اتباعُ ما رجحوه وصححوه. فإن قلتَ: قد يحكون أقوالًا بلا ترجيح، وقد يختلفون في التصحيح. قلت: يُعمل بمثل ما عَمِلوا؛ من اعتبار تغير العرف، وأحوال الناس، وما هو الأرفق، وما ظهر عليه التعامل، وما قَوِيَ وجهُه] اهـ.

قال العلَّامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/ 51-52): [(قوله: ما رجحوه وما صححوه) المراد الترجيح بأي لفظ كان من علامات الإفتاء، لا خصوص لفظ الترجيح، (قوله: وما هو الأرفق) أي للعامة بعدم التضييق فيه عليهم؛ كقول الصاحبين في مسألة البئر إذا وقعت فيها فأرة ولم يدر وقت وقوعها] اهـ.
والاختيار هنا يعني الاعتماد في الفتوى والقضاء؛ ولذلك قال العلَّامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (5/ 218) في مسألة وقف المشاع، وهي من المسائل المختلف فيها: [قوله (ومشاعٌ قُضِيَ بجوازه) أي: وصَحّ وقفُ المشاع إذا قُضِيَ بصحته؛ لأنه قضاءٌ في فصل مجتهد فيه، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما يحتمل القسمة قبل القضاء. أطلق القاضي فشمل الحنفي وغيره؛ فإن للحنفي المقلد أن يحكم بصحة وقف المشاع وببطلانه؛ لاختلاف الترجيح، وإذا كان في المسألة قولان مصححان فإنه يجوز القضاء والإفتاء بأحدهما كما صرحوا به] اهـ.

قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (6/ 554): [وينبغي أن يكون مطمحُ نظره إلى ما هو الأرفق والأصلح، وهذا معنى قولهم: إن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة] اهـ.

والقول بأن ممتدة الطهر تتربص سنةً لم ينفرد به المالكية؛ بل هو قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضى به بين الصحابة من غير نكير، وهو مذهب جماعة من السلف، وقول للإمام الشافعي في القديم، وهو المذهب عند الحنابلة وقد نص عليه الإمام أحمد.
قال الإمام الموفَّق ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (9/ 98-100، ط. دار الفكر): [وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، اعتدت سنة. وجُملة ذلك: أن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فلم تر الحيض في عادتها، ولم تدر ما رفعه، فإنها تعتد سنة؛ تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها، علم براءة الرحم ظاهرًا، فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات، ثلاثة أشهر. هذا قول عمر رضي الله عنه، قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر علمناه. وبه قال مالك، والشافعي في أحد قوليه. ورُوِيَ ذلك عن الحسن. اهـ.
وقال الشافعي في قول آخر: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها، فوجب اعتبارها احتياطًا.
ولنا: الإجماعُ الذي حكاه الشافعي، ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها، وهذا تحصل به براءة رحمها، فَاكْتُفِيَ به، ولهذا اكْتُفِيَ في حق ذات القرء بثلاثة قروء، وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر، ولو رُوعِيَ اليقينُ لاعتبر أقصى مدة الحمل، ولأن عليها في تطويل العدة ضررًا، فإنها تُمنَع من الأزواج، وتحبس دائمًا، ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تطولوا عليها الشقة، كفاها تسعة أشهر".
فإن قيل: فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهرًا، فلم اعتبرتم ثلاثة أشهر بعدها؟ قلنا: الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل، وقد تجب العدة مع العلم ببراءة الرحم، بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل، فوضعته، وقع الطلاق، ولزمتها العدة] اهـ.

وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (29/ 329-330): [وأما إذا حاضت ثم ارتفع حيضها دون علة تعرف، فقد ذهب عمر وابن عباس رضي الله عنهم، والحسن البصري، والمالكية، وهو قول للشافعي في القديم، والمذهب عند الحنابلة: إلى أن المرتابة في هذه الحالة تتربص غالب مدة الحمل: تسعة أشهر، لتتبين براءة الرحم، ولزوال الريبة؛ لأن الغالب أن الحمل لا يمكث في البطن أكثر من ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فهذه سنة تنقضي بها عدتها وتحل للأزواج.
واحتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضُها لا يُدْرَى ما رفعه: تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر، فذلك سنة، ولا يعرف له مخالف.
قال ابن المنذر: قضى به عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم يرتفع حيضها قال: أذهب إلى حديث عمر رضي الله عنه: إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت، فإنها تنتظر سنة؛ لأن العدة لا تُبْنَى على عدة أخرى.
وفي قول للشافعية في القديم: أن المرتابة تتربص أكثر مدة الحمل: أربع سنين لتعلم براءة الرحم بيقين، وقيل في القديم أيضًا: تتربص ستة أشهر أقل مدة الحمل، فحاصل المذهب القديم: أنها تتربص مدة الحمل غالبه أو أكثره أو أقله، ثم تعتد بثلاثة أشهر في حالة عدم وجود حمل] اهـ. انظر: "بدائع الصنائع" (3/ 195)، و"حاشية ابن عابدين" (2/ 606)، و"حاشية الدسوقي" (2/ 470) و"القوانين الفقهية" (241)، و"جواهر الإكليل" (1/ 385)، و"الفواكه الدواني" (2/ 92)، و"مغني المحتاج" (3/ 387)، و"روضة الطالبين" (8/ 371)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 100).

وبناءً على ذلك كله: فالتحقيق أن الفتوى عند الحنفية في هذه المسألة إنما هي على وفق قول المالكية من انتهاء عدة ممتدة الطهر بعد سنة قمرية، وأن هذا القول يصدق عليه الآن أنه أرجح الأقوال في مذهب الإمام أبي حنيفة، وأنه هو الذي ينبغي اتباعه في الفتوى والقضاء.

أما عن استحقاق المطلقة الرجعية لمؤخر الصداق فالذي أخذ به عامة المشايخ من الحنفية أنه إنما يُستحَقُّ بانقضاء عدتها من الطلاق الرجعي لا بمجرد وقوع الطلاق:
جاء في "تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 25) للعلَّامة ابن عابدين: [(سُئِل) في رجل طلَّق زوجته الحامل طلقة واحدة رجعية ولها بذمته مؤخر صداقها تريد أخذه منه بعد انقضاء عدتها فهل لها ذلك؟
(الجواب) نعم، ويتعجل المؤجل بالرجعي ولا يتأجل برجعتها. "خلاصة". وفي "الصيرفية": لا يكون حالًّا حتى تنقضي العدة. "شرح التنوير"، ومثله في "البحر". وقال في "الحاوي" الزاهدي: ولو طلقها رجعيًّا لا يصير المهر حالًّا حتى تنقضي العدة، وبه أخذ عامة المشايخ] اهـ.
هذا من جهة تحرير أرجح الأقوال في هذه المسألة في مذهب الإمام أبي حنيفة.

أما من جهة المعمول به في القانون: فقد كان الذي عليه العمل في المحاكم الشرعية قبل إنشاء قانوني 25 لسنة 1920م، و25 لسنة 1929م هو ما تَخَيَّره العلامة محمد قدري باشا [ت1306هـ] في تقنينه للأحوال الشخصية المادة (314) والتي جاء فيها: [المرأة التي رأت الدم أيامًا ثم ارتفع عنها وانقطع لمرض أو غيره، واستمر طهرها سنة فأكثر، تعتد بالحيض، ولا تنقضي عدتها حتى تبلغ سن اليأس، وتتربص بعده ثلاثة أشهر كاملة، وسن اليأس خمس وخمسون سنة] اهـ.

وكانت هذه المادة موضع حرج ومشقة شديدين في التطبيق؛ حتى استشكلها العلامة محمد زيد الإبياني [ت1354هـ] في "شرحه للأحوال الشخصية" لقدري باشا (2/ 761، ط. دار السلام) فقال: [وهذه المسألة في غاية الشدة بالنسبة للنساء لطول زمن لعدة عليهن؛ إذ يمكن أن يكون خمسًا وأربعين سنة وأشهرًا، وبالنسبة للرجال أيضًا؛ لإلزامهم بالإنفاق على المرأة حتى تنقضي العدة؛ ولذا قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: تنقضي عدتها بسنة كاملة. وهو ظاهر المراد؛ لأن الغرض من العدة أمران: تَعَرُّفُ براءة الرحم، وإظهار الحزن والأسف على الفراق. ولم يجعل الشارع مدةً للحزن أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام، وبراءة الرحم تُعرَفُ بغير هذا الزمن؛ لأن أكثر مدة الحمل سنتان، فلو قالوا: لا تنقضي عدتُها إلا بعد مضي سنتين من وقت الفرقة للتحقق من براءة الرحم لكان وجيهًا، مع أنه لم يقل به أحد من الحنفية. ولأي شيء تنقضي عدتُها إذا تُوُفِّي زوجُها بأربعة أشهر وعشرة أيام، ولا تنقضي إذا كانت الفرقة بغير الوفاة إلا بالبلوغ سن الإياس وتعتد بعده؟
فإن قالوا: إن عدة الوفاة هكذا، قلنا: إن الغرض من العدة في غيرها تَعَرُّفُ براءة الرحم، ولا يتأتى أن يكون مشغولًا بالولد هذا الزمن، فلا يسعنا إلا أن نقول كما يقولون: البحث وارد والحكم مُسلَّم. والمتبادر للعقل والذهن أن مذهب الإمام مالك هو الأرفق، فيُفتَى به للضرورة كما نص على ذلك بعضُ الحنفية. ونص بعضُ الحنفية على أن عدتها تنقضي بتسعة أشهر] اهـ.

وقد تفطن المشرع المصري إلى المشقة اللاحقة بالرجل من جهة امتداد نفقة العدة إلى سن اليأس إذا ادعت المرأةُ -صادقةً أو كاذبةً- امتدادَ طُهرِها؛ لأن انتهاء العدة لا يُعلَم إلَّا مِن جهتها، وإلى العنت اللاحق بالمرأة بسبب منعها من الزواج حتى سن اليأس إذا امتد طهرها إليه فعلًا؛ فغَيَّر هذا الحكم على مرحلتين:

المرحلة الأولى: بالمادة الثالثة من القانون رقم 25 لسنة 1920م، التي اقتبس فيها المشرع المصري حكمها من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه؛ كما يقول العلامة أحمد إبراهيم بك في كتابه "أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون" (ص: 522، ط5. مطابع دار الجمهورية)، ونصُّها: [من تأخر حيضُها بغير رضاع تُعتَبَر عِدَّتُها بالنسبة للنفقة بسنة بيضاء لا ترى فيها الحيض، فإن ادعت أنها رأت الدم في أثنائها أُخِّرَت إلى أن ترى الدم مرة أخرى أو إلى أن تمضي سنة بيضاء، وفي الثالثة إن رأت الدم انقضت عدتها، وإن لم تره تنقض العدة بانتهاء السنة، فإن كانت مرضعًا وحاضت في أثناء الرضاع اعتدت بالأقراء، وإن تأخر حيضها بعد انقضاء مدة الرضاع كان الحكم في تأخر حيضها هو ما تقدم. وفي الحالين لا تُسمَع دعواها أن لها عادةً في الحيض لأكثر من سنة] اهـ.
ووفقًا لهذه المادة: تنتهي عدة ممتدة الطهر بانتهاء السنة البيضاء، ولا تزيد عدتُها -بحال من الأحوال- عن خمس سنين، ولا يحصل ذلك إلَّا في القليل النادر؛ إذا كانت مرضعًا لسنتين لم يأتها الحيض خلالهما ثم مكثت ثلاث سنين يأتيها الحيض مرةً في آخر كل سنة، وهذه المادة تؤصل بتفريعاتها لانتهاء عدة ممتدة الطهر عند المالكية، وهذا هو الذي يرفع العنَتَ عن المرأة حيث يمكنها النكاح بعد ذلك، وتستحقُّ مؤخرَ صداقها؛ حيث إنه لا يُستحَقُّ إلَّا بانتهاء العدة كما سبق.

غير أن هذه المادة -على ما فيها من التيسير واستيعاب صور انتهاء عدة ممتدة الطهر عند المالكية- واجهتها عقبة أخرى وهي أن الحالة النادرة التي أدرجتها المادة ضمنًا في تفريعاتها اتخذَتْها كثير من النساء تُكَأَةً لدعوى استمرار العدة على خلاف الواقع، فلم يكن بُدٌّ مِن حسم مَادة التدليس في هذا الأمر، ومن هنا جاءت المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: وجاءت أصالة لرفع العنت عن الرجل في دعاوى نفقات العِدَدِ الطويلة، فاستبدل المشرع المصري بالمادةِ السابقةِ المادةَ رقم 17 من القانون رقم 25 لسنة 1929م ونصها: [لا تُسمَع الدعوى لنفقةِ عدةٍ تزيد على سنة من تاريخ الطلاق، كما أنه لا تُسمَع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجية لمطلَّقةٍ تُوُفِّيَ زوجُها بعد سنة من تاريخ الطلاق] اهـ.
يقول العلامة أحمد إبراهيم بك في كتابه "أحكام الأحوال الشخصية" (ص: 521-522): [ولَمَّا كان في الأخذ بهذا القول حرج بالناس (يعني: القول بتربص ممتدة الطهر إلى سن اليأس حتى تنتهي عدتها)، وجب أن يُختار قولٌ آخر يكون العمل به أيسر للناس، وقد تلطف الأمر كثيرًا بصدور المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920م، ثم زاد تلطفه بصدور المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929م] اهـ.

والذي تراه دار الإفتاء المصرية أن هذه المادة إنما جاءت لإضفاء مزيد من التيسير على المادة السابقة، وليست إلغاءً لِمَا في الأولى مِن رفع الحرج عن ممتدة الطهر بإنهاء عدتها وفقًا لقول المالكية؛ ولذلك لم تتعرض لانتهاء العدة، بل لسماع دعوى النفقة، وقد بُنِيَتْ هذه المادةُ على حق الحاكم في تقييد المباح وتخصيص القضاء للمصلحة، ولم تتعرض لرأي الفقهاء في انتهاء عدة ممتدة الطهر.

وحينئذ فالفرق بين المادتين: أن الأولى بُنِيَتْ على رأي فقهي؛ حيث تخير الحاكم من الأقوال الفقهية في هذه المسألة الخلافية ما رآه محققًا للمصلحة، أما الثانية فبنيت على حقه في تقييد المباح، وما فعله ثانيًا لا ينقض ما فعله أولًا؛ لأن المادة الثانية فيها زيادة رفع الحرج بتقييد السابقة لا بإلغائها، وموضوع السابقة انتهاء عدة ممتدة الطهر، أما الثانية فموضوعها منع سماع بعض الدعاوي التي شاع فيها التزوير والاحتيال، فهما لم يتواردا على محل واحد حتى يقال بإلغاء الثانية للأولى.

وعلى ذلك جرت أحكام النقض، ومن ذلك: ما جاء في الطعن رقم 46 لسنة 53 ق، أحوال شخصية، جلسة 22/ 5/ 1984م: [ومفاد نص الفقرة الثانية من المادة 7 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929م يدل -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- على أن المشرع قد جعل مدة السنة التالية للطلاق حدًّا تعتد فيه المطلقة فيما تدعيه من عدم انقضاء عدتها] اهـ. نقلًا عن "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار محمد عزمي البكري (ص: 574، ط. دار محمود للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1996م).

وبناءً على ذلك: فإن المعمول به في القضاء بالنسبة لانتهاء عدة المرأة التي كانت تحيض ثم امتد طُهرُها قبل بلوغها سن اليأس: أنها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل؛ لِتَتَبَيَّنَ براءةَ الرحم وزوال الريبة، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فإذا أتمت ذلك فقد انقضت عدتُها وترتبت على ذلك كل آثار انقضاء العدة شرعًا؛ من حل للأزواج، واستحقاق لمؤخر الصداق، وصيرورة الرجعية بائنةً، وغير ذلك من الآثار، والقضاء بهذا الرأي لا يخالف ما عليه القانون من الحكم في المسائل التي لم ينص عليها بالراجح من مذهب أبي حنيفة؛ لأن الحنفية أنفسهم قد أجازوا الأخذ به، فضلًا عن أنه يُخَرَّجُ على رواية عندهم، وقد جعلوا قضاء القاضي به نافذًا لا يبطل؛ بحيث لو ادعى مُدَّعٍ مخالفة هذا لمذهب الحنفية وأراد نقض الحكم به بعد صدوره فإن نصوص المذهب الحنفي تمنع إبطال هذا الحكم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفاصيل ....

 المأخوذ به في القضاء المصري أنه عند عدم وجود نص في قانون الأحوال الشخصية فإنه يُعمَل بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة؛ وذلك طبقًا للمادة الثالثة من قانون الأحوال الشخصية رقم 1 لسنة 2000م.
والمقصود بالأرجحية هنا ما عليه العمل والفتوى عند السادة الحنفية، لا مجرد تحرير النقل في المذهب؛ ضرورةَ أن نصوص القانون وأحكامه إنما هي للقضاء والعمل بها بين الناس، فما نص عليه الحنفية في كتبهم أنه يُفتَى به للضرورة، أو للحاجة إليه، أو لكثرة وقوعه، أو لتغير العرف، أو لفساد الزمان، أو للمصلحة الراجحة، أو لغير ذلك -مما يُعرَف مِن مَظانِّه- يكون راجحًا من جهة العمل وجواز التقليد وإن لم يكن راجحًا من جهة تحرير المذهب ونقله، بل وإن لم يكن من المذهب الحنفي أصلًا؛ لأنهم لم يحكموا بجواز الفتيا به إلا توخِّيًا للمصالح الشرعية المرعية، فيكون حينئذٍ راجحًا من جهة العمل، ولا يعني ذلك إلا جواز الإفتاء والقضاء به عندهم إذا لزم الأمر.
وهذه الحالة المسؤول عنها تُعرَف في الفقه بـ(مُمتَدَّة الطُّهر)، وهي المرأة التي كانت تحيض ثم انقطع حيضها بلا سبب يُعرَف قبل بلوغها سن اليأس.
والمنقول عن مذهب الحنفية في هذه المسألة أنها تنتظر إلى سن اليأس، والمختار عندهم أنه خمس وخمسون سنة. غير أن الذي عليه المحققون من الحنفية: أن الفتوى في هذه المسألة -وكذلك القضاء- إنما هي على مذهب الإمام مالك في جعله عدة ممتدة الطهر سنة قمرية (تسعة أشهر للإياس من الحمل، وثلاثة أشهر لانقضاء العدة)، كما أن المعتمد عليه في مذهب الحنفية أنه لو قضى بذلك قاضٍ فإن قضاءه نافذ ولا يُنقَض.
فمِمَّن نص على الفتوى بذلك من فقهاء الحنفية: العلَّامة نجم الدين مختار بن محمود الزاهدي الغَزْمِيني الحنفي [ت658هـ] في كتابه "المجتبى شرح القدوري" حيث قال: [وقد كان بعض أصحابنا وأستاذينا يُفتُون بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، خصوصًا الإمام والدي] اهـ نقلًا عن "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" للعلَّامة ابن نجيم (4/ 142، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"حاشية العلَّامة الطحطاوي على الدر المختار" (2/ 217، ط. بولاق).
ثم جاء العلَّامة محمد بن محمد بن شهاب بن يوسف الكَرْدَري الحنفي الشهير بالبَزّازي [ت827هـ] فقرر أن الفتوى عند الحنفية في زمانه إنما هي على قول الإمام مالك، وذلك في كتابه "الجامع الوجيز" المعروف بـ"الفتاوى البَزّازِيَّة" (4/ 256، بهامش "الفتاوى الهندية"، ط. المطبعة الأميرية ببولاق 1310هـ)، ونص عبارته: [بَلَغَتْ فرَأَتْ يومًا دمًا، ثم انقطع ومضى حولٌ، ثم طلقت، فعِدَّتُها بالأشهر، وإن رأت ثلاثة أيام وانقطع ومضى سنة أو أكثر ثم طلقت فعِدَّتُها بالحيض إلى أن تبلغ حدَّ الإياس وهو خمس وخمسون سنة في المختار، وعند مالك للآيسة تسعة أشهر؛ ستة أشهر لاستبراء الرحم، وثلاثة أشهر للعدة، قال العلَّامة: والفتوى في زماننا على قول مالك في عدة الآيسة] اهـ.
ثم قال بعد ذلك (4/ 260): [وعن مالك رحمه الله فيمن طلقها زوجها ومضى عليها نصف عام ولم تُرَدّ: ما يُحكَم بإياسها حتى تمضي عدتها؛ تعتد بثلاثة أشهر (ونقلها ابن عابدين في "الحاشية": بعد ثلاثة أشهر)، ورُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما مثلُه، فعلى هذا في مُمتدَّة الطُّهر قبل بلوغها إلى الإياس فاعتدت بثلاثة أشهر بعد مضي نصف سنة وبه قضى القاضي جاز؛ لأنه مُجتَهَدٌ فيه. ويُحفَظ هذا لكثرة وقوعه] اهـ.
وكتاب "الفتاوى البزازية" هو من الكتب المعتمدة في الفتوى عند الحنفية؛ حتى قيل للعلَّامة أبي السعود المفتي الحنفي [ت982هـ]: لِم لا تجمع المسائل المهمة ولم تؤلف فيها كتابًا؟ فقال: [أستحي من صاحب البزازية مع وجود كتابه] اهـ نقلًا عن "الفوائد البهية في تراجم الحنفية" لأبي الحسنات اللكنوي (ص: 188، ط. دار المعرفة، بيروت).
وكلام الإمام البزازي هذا نقله جماعة من علماء الحنفية مُقِرِّينَ له؛ كشيخ الإسلام محمد بن حسين الأنقروي [ت1098هـ] في "الفتاوى الأنقروية" (1/ 97، ط. بولاق 1281هـ)، وقاضي قضاة الحنفية في زمنه عبد البر بن الشِّحْنة [ت921هـ] في "شرح الوهبانية"؛ كما في "الدر المختار" للعلَّامة الحصكفي (3/ 558، ط. دار الفكر-بيروت).
وكذلك المولى شمس الدين محمد الخراساني القهستاني الحنفي [ت962هـ] مرجع الفتوى ببخارى وجميع ما وراء النهر؛ حيث ذكر أن بعض الأصحاب يفتون بقول الإمام مالك؛ كما في "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" (1/ 467، ط. دار إحياء التراث العربي).
والمعتمد في مذهب المالكية أن ممتدة الطهر تنتظر حولًا لا تسعة أشهر؛ لأنها تمكث تسعة أشهر لاستبراء الرحم، ثم تتربص ثلاثة أشهر عدة الآيسة:
قال الإمام القرافي المالكي في "الفروق" في (الفرق الرابع والسبعين والمائة، 3/ 200-201، ط. عالم الكتب): [المرتابات يتأخر الحيض ولا يُعلَم لتأخره سببٌ: فإنهن يمكثن عند مالك رحمه الله تسعةَ أشهر غالبَ مدة الحمل استبراءً؛ فإن حِضن في خلالها احتسبن بذلك الحيض وانتظرن بقية الأقراء إلى تسعة أشهر، ولا يزلن كذلك حتى يكمل لهن ثلاثة قروء أو تسعة أشهر، فإذا انقضت تسعة أشهر ليس في خلالها حيض استأنفن ثلاثة أشهر كمالَ السنة، فإن حضن قبل السنة بلحظة استأنفن الأقراء حتى تمضي سنة لا حيض فيها. ووافقه أحمد بن حنبل رضي الله عنه] اهـ.
ولذلك قال العلَّامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 185، ط. دار عالم الكتب 2003م): [ورأيت بخط شيخ مشايخنا السائحاني: أن المعتمد عند المالكية: أنه لا بد لوفاء العدة من سنة كاملة تسعة أشهر لمدة الإياس وثلاثة أشهر لانقضاء العدة. قلت: ولذا عبر في "المجمع" بالحول] اهـ.
وخالف بعض الحنفية فمنعوا من الإفتاء بقول الإمام مالك في هذه المسألة؛ محتجين بمخالفته لجميع الروايات عند الحنفية، وبأن الضرورة منتفية؛ حيث يمكن للقاضي الحنفي أن يحولها لقاضٍ مالكي بذلك حتى لا يقع في القضاء بغير مذهبه، واتفقوا مع المفتين بقول المالكية فيها على أنه لو قضى بها قاضٍ مالكي فإن قضاءه ينفذ، ولا يجوز نقضه.
قال العلامة زين الدين بن إبراهيم الحنفي الشهير بابن نُجَيم [ت970هـ] في شرحه "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" (4/ 142، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو قضى قاضٍ بانقضاءِ عِدَّةِ المُمْتَدِّ طُهْرُها بعد مُضِيِّ تسعةِ أشهرٍ نَفَذَ كما في "جامع الفُصُولَيْنِ"، ونقل في "المَجْمَعِ" أَنَّ مالكًا يقول: إنَّ عِدَّتَها تَنْقَضِي بِمُضِيِّ حَوْلٍ، وفي "شرح المنظُومةِ": أنّ عِدَّةَ المُمْتَدِّ طُهْرُهَا تَنْقَضي بِتسعةِ أشهر كما في "الذخيرة" مَعْزِيًّا إلى حيضِ "منهاج الشريعة", ونُقِلَ مثلُه عن ابْنِ عمر رضي الله عنهما، قال: وهذه المسألةُ يَجِبُ حِفظُها؛ لأنها كثيرة الوقوعِ، وذكر الزَّاهديُّ: وقد كان بعضُ أصحابنا يُفتُونَ بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، خصوصًا الإمام والدي اهـ. قلت: لكنه مخالف لجميع الروايات فلا يُفتَى به، نعم لو قضى مالكي به نفذ] اهـ.
ونحوه قول العلَّامة الحصكفي [ت1088هـ] في "الدر المختار" (1/ 246، ط. دار الكتب العلمية): [وما في "شرح الوهبانية" من انقضائها بتسعة أشهر غريب مخالف لجميع الروايات فلا يفتى به. كيف وفي نكاح "الخلاصة": لو قيل لحنفي ما مذهب الإمام الشافعي في كذا؟ وجب أن يقول: قال أبو حنيفة كذا، نعم لو قضى مالكي بذلك نفذ كما في "البحر" و"النهر"، وقد نظمه شيخنا الخير الرملي سالمًا من النقد فقال:
لِمُعتـــــدَّةٍ طُهـــــــــــرًا بتسـعة أشهـر ... وفـا عِدَّةٍ إن مالكي يقـدر
ومن بعده لا وجه للنقض هكذا ... يُقال بلا نقد عليه ينظر] اهـ.
وقد حمل العلامةُ ابن عابدين عبارةَ العلَّامة البزازي الأولى (والفتوى في زماننا على قول مالك) على عبارته الثانية (وبه قضى القاضي جاز؛ لأنه مجتهد فيه) ليوفق بذلك بين قول "البزازية" وبين المانعين، ليصير المعنى: نفاذ حكم القاضي المالكي إذا حكم بمذهبه في المسألة، لا أن الفتوى بذلك حقيقةً عند الحنفية؛ فقال في حاشيته "منحة الخالق على البحر الرائق" (4/ 142، مطبوعة مع "البحر الرائق"): [(قولُه نعم لو قضى به مالكيٌّ نفذ) الذي يظهر أن هذا هو المراد مِن عبارة "البزَّازِيَّةِ" التي نقلْناها; لتعليله بقوله: لأنه مُجْتَهَدٌ فيه] اهـ.
وفيما استظهره نظر من خمسة أوجه:
- الأول: أن العلَّامة الزاهدي -وهو من فقهاء الحنفية في القرن السابع- نص صراحة -كما سبق النقل عنه- على أن جماعة من أستاذيه وغيرهم من فقهاء الحنفية ومنهم العلَّامة والده كانوا يفتون بقول الإمام مالك في المسألة، وحَمْلُ عبارة البزازي على غير ذلك فيه تكلف ظاهر.
- الثاني: أن القائلين بالفتوى بذلك من الحنفية هم من بلاد ما وراء النهر؛ كالزاهدي الغَزْمِيني، والبزازي الكَرْدَري، نسبة إلى (غَزْمِين) و(كَرْدَر) مدينتين بخوارزم، ومع أن الإمام البزَّازي قد رحل إلى بلاد الروم إلا أنه أتم فتاواه قبل ذلك كما ذكره اللكنوي في "الفوائد البهية" (ص: 187) أخذًا مما نص عليه في آخر كتاب الإجارة من "البزازية"، وكذلك القُهسْتاني كان مفتيَ بخارى وبلاد ما وراء النهر، وهذه البلاد لا يكاد يوجد فيها قاضٍ مالكي كما نص عليه العلَّامة الشهاب الحموي [ت1098هـ] في "حاشيته على شرح الكنز" لملا مسكين، وسيأتي نص كلامه، فحَمْلُ كلامهم في الفتوى بمذهب الإمام مالك في هذه المسألة على نفاذ قضاء قضاة المالكية بذلك فيه بُعدٌ؛ لأنه يقتضي عدم الفتوى أو القضاء بذلك في بلادهم أصلًا، أو العمل به على قلة حيث يوجد قاضٍ مالكي، وهو مخالف للمنقول عنهم من كون الفتوى عليه.
- الثالث: أن نفاذ حكم القاضي في المسائل المختلف فيها أمر معلوم مقرر لا يُحتاج إلى ذكره في كل مسألة، وقد تقرر أن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد.
- الرابع: أن نفاذ القضاء في المجتهَد فيه لا يُقال له (والفتوى على كذا)؛ وإلَّا لزم من ذلك جوازُ أن يُقال: إن الفتوى على غير قول الحنفية في كل مسألة يصححون فيها قضاء غيرهم، واللازم باطل، فيبطل الملزوم.
- الخامس: أن العلَّامة ابن عابدين نفسه أقر بجواز قضاء الحنفي في هذه المسألة بهذا القول عند الحاجة إلى ذلك بعدم وجود القاضي المالكي، وسيأتي نص عبارته في ذلك.
والتحقيق أن المراد عند الحنفية بكون الفتوى في هذه المسألة على قول الإمام مالك هو جواز إفتاء الحنفي فيها بذلك في حالة الضرورة -وكذلك قضاؤه-، وأن ذلك لا يُخرِجُه عن مقتضى مذهب الحنفية؛ وذلك لِمَا يأتي:
أولا: أن اعتماد قول الإمام مالك في هذه المسألة عند الحنفية قد نَصَّ عليه البزازي بقوله: "والفتوى في زماننا على قول مالك"، ومن المقرر عند الحنفية أن نحو عبارة "والفتوى في زماننا على كذا" من أقوى العبارات في الدلالة على ما عليه العمل والاعتماد عندهم، قال العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 37-38، ط. ضمن رسائل ابن عابدين):
[وحيثما وجـــدت قوليــــــن وقد ... صُحِّح واحد: فذاك المعتـــــــمَد
بنحو ذا الفتوى عليه، الأشبهُ ... والأظهر، المختار ذا، والأوجهُ
أو الصحيـــــــح، والأصح آكـد ... منه، وقيل: عكســــــــــه المؤكـــــــد
كذا به يُفتَى، عليه الفتـــــــــــــوى ... وذان من جميـــــــــــــع تلك أقـوى
قال في آخر الفتاوى الخيرية وفي أول المضمرات: أما العلامات للإفتاء: فقوله (وعليه الفتوى)، و(به يُفتَى)، و(به نأخذ)، و(عليه الاعتماد)، و(عليه عمل اليوم)، و(عليه عمل الأمة)، و(هو الصحيح)، و(هو الأصح)، و(هو الأظهر)، و(هو المختار في زماننا)، و(فتوى مشايخنا)، و(هو الأشبه)، و(هو الأوجه)، وغيرها من الألفاظ المذكورة في متن هذا الكتاب في محلها في "حاشية البزدوي". انتهى.
وبعض هذه الألفاظ آكد من بعض، فلفظ (الفتوى) آكد من لفظ (الصحيح) و(الأصح) و(الأشبه) وغيرها، ولفظ (به يُفتَى) آكد من لفظ (الفتوى عليه).
وإذا اختلف اللفظ: فإن كان أحدهما لفظ (الفتوى) فهو أولى؛ لأنه لا يُفتَى إلا بما هو صحيح، وليس كل صحيح يُفتَى به؛ لأن الصحيح في نفسه قد لا يُفتَى به؛ لكون غيره أوفق؛ لتغير الزمان وللضرورة ونحو ذلك، فما فيه لفظ الفتوى يتضمن شيئين: أحدهما الإذن بالفتوى به، والآخر صحته؛ لأن الإفتاء به تصحيح له، بخلاف ما فيه لفظ (الصحيح) أو (الأصح) مثلًا] اهـ.
ثانيًا: أن الفتوى في هذه المسألة على قول المالكية إنما هو من باب الضرورة، كما نص عليه الزاهدي بقوله: وقد كان بعض أصحابنا وأستاذينا يُفتُون بقول مالكٍ في هذه المسألة للضرورة، والبزازي بقوله: ويُحفَظ هذا لكثرة وقوعه. وما ذكره المانعون من أنه لا يُعمَل بالضعيف ولا يُفتَى به إنما هو في غير حالة الضرورة، أما في حال الضرورة فقد اتفقوا على جواز العمل والإفتاء.
قال ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 25): [قلت: لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة ونحوها؛ كما مر في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررناه سابقًا، فحينئذ يجوز الإفتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبًا عن "الحاوي القدسي"] اهـ.
وقال أيضًا (1/ 50): [وقد ذكر صاحب "البحر" في الحيض في بحث ألوان الدماء أقوالًا ضعيفة ثم قال: وفي "المعراج" عن فخر الأئمة: لو أفتى مفتٍ بشيء من هذه الأقوال في مواضع الضرورة طلبًا للتيسير كان حسنًا انتهى، وبه علم أن المضطر له العمل بذلك لنفسه كما قلنا وأن المفتي له الإفتاء به للمضطر. فما مر من أنه ليس له العمل بالضعيف ولا الإفتاء به محمول على غير موضع الضرورة كما علمته من مجموع ما قررناه، والله تعالى أعلم] اهـ.
وفي "شرح الأشباه" للبيري: [هل يجوز للإنسان العمل بالضعيف من الرواية في حق نفسه؟ نعم، إذا كان له رأي، أما إذا كان عاميًّا فلم أره، لكن مقتضى تقييده بذي الرأي: أنه لا يجوز للعامي ذلك، قال في "خزانة الروايات": العالم الذي يعرف معنى النصوص والأخبار وهو من أهل الدراية يجوز له أن يعمل عليها وإن كان مخالفًا لمذهبه انتهى. وتقييده بذي الرأي أي المجتهد في المذهب مخرج للعامي كما قال؛ فإنه يلزمه اتباع ما صححوا، لكن في غير موضع الضرورة كما علمته آنفًا] اهـ.
وقد تقرر في قواعد الفقه عند الحنفية وغيرهم: "أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة"، ولا شك أن الضرورةَ -أو الحاجة التي تُنَزَّل مَنزلتَها- متحققةٌ في هذه المسألة؛ فإنها مفروضة فيمن انقطع حيضها من النساء قبل بلوغ سن اليأس، وفي منع المرأة من الزواج إلى بلوغ هذه السن من الحرج والمشقة ما لا يخفى، ومثل هذا هو من الحرج المرفوع عن الأمة، ومن المقرر عند الحنفية وغيرهم أن "المشقة تجلب التيسير" وأنه "إذا ضاق الأمر اتسع"، فإذا انضاف إلى ذلك تغير الزمان وكثرة المفاسد وشيوع أسباب الشهوات كانت الضرورة أعظم والحاجة إلى الفتوى والقضاء بقول المالكية أشد، والضرورة -وكذا الحاجة المنزَّلة منزلتَها- كما تكون حالة عارضة فإنها قد تكون أيضًا أمرًا عامًّا شائعًا، وعموم الضرورة يقتضي عموم حكمها.
وإنما منع بعضُ الحنفية من قضاء الحنفي أو فتواه بغير مذهبه اعتمادًا على السعة التي سببها تنوعُ قضاة المذاهب الفقهية المختلفة، فكان إذا رأى القاضي المصلحة في القضاء في مسألة بغير مذهبه حوَّلها لقاضي المذهب الذي يرى المصلحة في القضاء به في المسألة، فكان يتوقى بذلك القضاء بغير المعتمد في مذهبه؛ لانتفاء الضرورة؛ وهو ما حمل بعضَ الحنفية على نفي تحقق الضرورة بوجود القاضي المالكي الذي يمكن إحالةُ المسألة عليه، وهذا يقتضي تحققها بانعدامه.
ولذلك لَمَّا قال صاحب "النهر": [وأنت خبير بأنه لا داعي إلى الإفتاء بقول نعتقد أنه خطأ يحتمل الصواب مع إمكان الترافع إلى مالكي يحكم به. وفي نكاح "الخلاصة": قيل لحنفي: ما مذهب الشافعي في كذا؟ وجب عليه أن يقول: قال أبو حنيفة كذا؛ لِمَا قلنا] اهـ. رده الشهاب الحموي بقوله: [وأقول: فيه نظر؛ فإن الداعيَ إلى الإفتاء بقول مالكٍ الضرورةُ، وذلك عند عدم وجود قاضٍ مالكي، خصوصًا وديار أكثر أصحابنا بما وراء النهر لا يكاد يوجد بها قاضٍ مالكي، وما نقله عن "الخلاصة" مفروض في غير الضرورة] اهـ، نقلًا عن أبي السعود في حاشيته "فتح الله المعين على شرح الكنز لمنلا مسكين" (2/ 213، ط. جمعية المعارف المصرية 1287هـ).
وكذا قال العلامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" (5/ 186): [لكن هذا ظاهر إذا أمكن قضاءُ مالكي به، أو تحكيمُه، أما في بلاد لا يوجد فيها مالكيٌّ يحكم به فالضرورة متحققة، وكأن هذا وجه ما مر عن "البزازية" و"الفصولين"] اهـ.
فإذا جاز قضاء القاضي الحنفي به في هذه الحالة آل الأمر إلى كونه هو المعمول به عند الحنفية في مسألة الضرورة أو حالتها أو زمانها، ويصدق عليه حينئذٍ أنه الأرجح في الفتوى والقضاء وإن لم يكن معتمد المذهب في "النقل والتحرير".
وهذا يقتضي جواز القضاء بهذا القول في عصرنا، من غير أن يكون في ذلك خروج عن مقتضى مذهب الحنفية؛ لأنه لا وجود لقضاة المذاهب الآن في الديار المصرية، وإنما تخير الحاكم في الأحوال الشخصية من مختلف المذاهب الفقهية ما يحقق مصلحة العباد، ويكون أنسب لواقعهم وأعرافهم، فالضرورة هنا متحققة على كل حال.
ثالثًا: أنهم نصوا على أن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم بناءً على الضرورة لا يخرج بذلك عن مذهبه عملًا إذا رجحه الأئمة المعتبرون؛ لأنهم إنما بنوه على قواعد إمامهم.
قال العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 25): [(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون، وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضًا؛ لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حيًّا لقال بما قالوه؛ لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضًا، فهو مقتضى مذهبه، لكن ينبغي ألا يقال: قال أبو حنيفة كذا، إلا فيما رُوِيَ عنه صريحًا، وإنما يقال فيه: مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا كما قلنا، ومثله تخريجات المشايخ بعضَ الأحكام من قواعده أو بالقياس على قوله، ومنه قولهم: وعلى قياس قوله بكذا يكون كذا، فهذا كله لا يقال فيه: قال أبو حنيفة، نعم يصح أن يُسمَّى مذهبه أو مقتضى مذهبه] اهـ.
وقال فيها أيضًا (1/ 44): [اعلم أن كثيرًا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناءً على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان؛ بسبب فساد أهل الزمان، أو عموم الضرورة، كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن، وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة، مع أن ذلك مخالف لِمَا نص عليه أبو حنيفة] اهـ.
رابعًا: أن هناك فارقًا بين الحكم الشرعي الثابت، والفتوى التي تحكمها قواعد الشرع الكلية ومصالح الخلق المرعية؛ ولذلك فإنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، وهو ما يُمكِن أن يُعبَّر عنه بالفرق بين مفتي المذهب الذي وظيفته نقلُ ما تحرر في المذهب اعتمادُه وأرجحيتُه في نفسه من حيث هو، وبين ما نُصَّ على ترجيحه من حيث العمل والفتوى وتغير الأعراف والنظر للمآلات، كما سبقت الإشارة إليه في أول الفتوى، ومَنْعُ مَن مَنَعَ إنما جاء خوفًا من أن يُنسَب إلى المذهب ما ليس منه، أو حذرًا من أن يُجعَل المرجوح في النقل والتحرير راجحًا، وذلك على اعتبار أن المفتي إنما هو مفتي المذهب؛ ينظر فيه ملتزمًا بالإخبار والنقل لِمَا هو المعتمد عند من سبقه من الفقهاء.
يقول العلامة ابن عابدين في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 37-38): [فإن قلتَ: هذا مخالف لما قدمته سابقًا من أن المفتي المجتهد ليس له العدول عما اتفق عليه أبو حنيفة وأصحابه؛ فليس له الإفتاء به وإن كان مجتهدًا مُتقنًا؛ لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين غيره، ولا يبلغ اجتهاده اجتهادهم كما قدمناه عن "الخانية" وغيرها.
قلتُ: ذاك في حق من يفتي غيره، ولعل وجهه: أنه لَمَّا علم أن اجتهادهم أقوى ليس له أن يبني مسائل العامة على اجتهاده الأضعف، أو لأن السائل إنما جاء يستفتيه عن مذهب الإمام الذي قلده ذلك المفتي، فعليه أن يفتي بالمذهب الذي جاء المستفتي يستفتيه عنه.
ولذا ذكر العلامة قاسم في "فتاويه": أنه سُئِل عن واقف شرط لنفسه التغيير والتبديل، فصيَّر الوقف لزوجته. فأجاب: أني لم أقف على اعتبار هذا في شيء من كتب علمائنا، وليس للمفتي إلَّا نقلُ ما صح عند أهل مذهبه الذين يفتي بقولهم، ولأن المستفتي إنما يُسأل عما ذهب إليه أئمة ذلك المذهب لا عما ينجلي للمفتي. انتهى.
وكذا نقلوه عن الإمام القفال من أئمة الشافعية أنه كان إذا جاء أحد يستفتيه عن بيع الصبرة يقول له: تسألني عن مذهبي أو عن مذهب الشافعي؟ وكذا نقلوه عنه أنه كان أحيانًا يقول: لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول: مذهب الشافعي كذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأنه جاء ليَعلَم ويستفتي عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره] اهـ.
وواضحٌ من قوله (وليس للمفتي إلا نقلُ ما صح عند أهل مذهبه) أنه يتحدث عن الفتوى بمعنى نقل صحيح المذهب، لا عن الفتوى بمعنى العمل بما تقتضيه المصلحة الراجحة؛ قال العلامة ابن عابدين في حاشيته على "الدر المختار" (6/ 554): [وينبغي أن يكون مطمحُ نظره إلى ما هو الأرفق والأصلح، وهذا معنى قولهم: إن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة] اهـ.
وحاصل ذلك: أن من نظر للمفتي باعتباره ناقلًا للمذهب: مَنَعَه من الفتوى بخلاف المعتمد.
ومن اشترط كونه مجتهدًا: أجاز له الفتوى حسب ما تقتضيه المصلحة وإن خالف المعتمد.
قال العلَّامة الطحطاوي الحنفي في "حاشيته على الدر المختار" (1/ 49، ط. بولاق): [والمفتي عند الأصوليين: المجتهِد، قال في "البحر" عن "التتارخانية": اعلم أن أبا يوسف قال: لا تحل الفتوى إلا لمجتهد، ومحمد جوَّزها إن كان صواب الرجل أكثر من خطئه، وعن الإسكافي: أن الأعلم بالبلد لا يسعه تركُها، وقال في "فتح القدير": وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهدين فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سُئِل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية. فعُرِف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين (في الأصل: المجتهدين، والتصحيح من "فتح القدير") ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي] اهـ.
وهذا كله في غير حالة الضرورة، أما في حالة الضرورة فلا وجه للقول بالمنع من الفتوى بالأرجح عملًا، خاصةً مع انتفاء اللبس وعدم الإيهام بكونه معتمد المذهب نقلًا وتحريرًا؛ وذلك بنسبة القول لصاحبه ومعرفة قوته وضعفه في تحرير المذهب ونقله.
خامسًا: أنهم نصوا على أنه لا نزاع في جواز التقليد؛ سواء قلنا إنه جائز بشرط عدم التلفيق، أو قلنا بجوازه مع التلفيق.
قال العلامة أبو السعود محمد بن علي الحسيني الحنفي -وهو من علماء القرن الثاني عشر الهجري- في حاشيته "فتح الله المعين على شرح الكنز" للشيخ محمد منلا مسكين (2/ 213، ط. جمعية المعارف المصرية 1287هـ): [واعلم أن الإفتاء بقول مالك هو عين التقليد، ولا نزاع في جوازه بشرط عدم التلفيق على ما ذكره الشيخ حسن وأفرده برسالة، ويخالفه ما ذكره العلامة ابن المنلا فروخ؛ حيث صرح بجواز العمل بالتلفيق وأطال الكلام على ذلك على وجه التحقيق، وأفرده برسالة أيضًا، وعزا القول بجواز التلفيق لابن الهُمَام في "التحرير"، ولصاحب "البحر" في بعض رسائله، وأنه قال -أي: صاحب البحر-: منعُ العمل بالتلفيق خلاف المذهب، ولغير صاحب "البحر" أيضًا من علماء خوارزم، بل عزا العمل بالتلفيق لأبي يوسف، لكن كلام العلامة نوح أفندي في رسالته المتعلقة بمسائل المسبوق يؤيد ما ذكره الشيخ حسن] اهـ.
وما قيدوه به من أنه للعامل به في نفسه، لا للمفتي لغيره، إنما هو في غير موضع الضرورة؛ كما قال العلَّامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (1/ 176).
سادسًا: أن هناك رواية عند الحنفية بأن سن الإياس مُفوَّض إلى مجتهد الزمان، أو رأي الحاكم، ورواية أخرى بأنه ثلاثون سنة.
قال العلَّامة الحصكفي في "الدر المختار" (3/ 566): [(و) الإياس (سِنُّهُ) للرومية وغيرها (خمس وخمسون) عند الجمهور وعليه الفتوى، وقيل: الفتوى على خمسين. "نهر". وفي "البحر" عن "الجامع": صغيرة بلغت ثلاثين سنة ولم تحض حُكِمَ بإياسها] اهـ.
وقال العلَّامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (2/ 221): [(وقيل: الفتوى على خمسين)، قال القُهستاني: وبه يُفتَى اليوم كما في "المفاتيح"، أو ستين، أو ثلاث وستين، أو ثلاثين، وعنه: أنه مفوَّض لمجتهد الزمان، وقدَّره بعضهم بعدم رؤية الدم مرة، وقيل مرتين، وقيل ثلاثًا (قوله: وفي "البحر" عن "الجامع": صغيرة إلخ) لعل هذا مبني على القول بأن سِنَّه ثلاثون، هذا إن قلنا إنها رأت دم الحيض ثم انقطع، وأما إذا لم تَرَ دمًا أصلا فقد تقدم أن عدتها بالأشهر] اهـ.
وقال العلَّامة عبد الرحمن بن محمد، المعروف بشيخي زاده ويقال له الداماد [ت1078هـ] في كتابه "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" (1/ 467، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وإن اعتدت الآيسة) أي البالغة إلى خمس وخمسين سنة وعليه الفتوى، أو خمسين سنة وبه يُفتَى اليوم، أو ستين سنة، أو ثلاث وستين، وعنه: أنه مُفَوَّضٌ إلى مجتهد الزمان، وقدَّر بعضٌ بعدم رؤية الدم مرة، وقيل: مرتين، وقيل: ثلاث مرات، وقيل: بستة أشهر فتنقضي العدة بعد ذلك بثلاثة أشهر وإليه ذهب مالك، فلو قَضَى به قاضٍ نَفَذَ، وكذا في ممتدة الطهر، وهذا مما يجب حفظه. وفي الزاهدي: أنه لو ارتفع حيضُها تنتظر تسعة أشهر إن كان بها حبل وإلا اعتدت بثلاثة أشهر بعدها، وبه أخذ مالك، ويفتي به بعضُ أصحابنا كما في القهستاني] اهـ.
وعلى القول بتفويض ذلك للحاكم أو مجتهد الزمان حملوا قضاء سيدنا عمر رضي الله عنه في تقدير عدة ممتدة الطهر بتسعة أشهر؛ فجعلوه من باب السياسة الشرعية والمصالح المرعية:
يقول الإمام العلامة التهانوي الحنفي في "إعلاء السنن" (8/ 3966، ط. دار الفكر): [ولا يُحكَم بكونها آيسة إلا بعد الانتظار مدة يغلب فيها على الظن كونُها آيسةً، فقدَّرها عمر رضي الله عنه برأيه بتسعة أشهر، وهي مفوَّضة عندنا إلى رأي الحاكم، وأما التي ارتفعت حيضتها لأجل الرضاع ونحوه فعدتها ثلاث حيض كوامل؛ لكونها ممن تحيض، والله تعالى أعلم] اهـ.
وعلى ذلك فإطلاق القول بمخالفة هذه الفتوى لجميع الروايات فيه نظر ظاهر؛ لوجود الرواية عند الحنفية بتفويض الحكم بالإياس لمجتهد الزمان أو الحاكم وحكمها شامل لممتدة الطهر، وهذا يقتضي أنه مهما كان حكم الحاكم أو المجتهد فلا يُعَدُّ خارجًا عن المذهب؛ لا في النقل ولا في الفتوى والقضاء، ويكون حكمُه حينئذ بانقضاء عدة ممتدة الطهر بعد سنة جاريًا على وفق المذهب الحنفي، وتكون مطابقته للمذهب المالكي حينئذ اتفاقًا معه لا تقليدًا له.
ومن المقرر عند الحنفية إذا كان في المسألة قولان مصححان أنه يختار الأرفق بأحوال الناس.
قال العلَّامة الحصكفي في "الدر المختار" (1/ 83-84): [وأما نحن فعلينا اتباعُ ما رجحوه وصححوه. فإن قلتَ: قد يحكون أقوالًا بلا ترجيح، وقد يختلفون في التصحيح. قلت: يُعمل بمثل ما عَمِلوا؛ من اعتبار تغير العرف، وأحوال الناس، وما هو الأرفق، وما ظهر عليه التعامل، وما قَوِيَ وجهُه] اهـ.
قال العلَّامة الطحطاوي في "حاشيته" عليه (1/ 51-52): [(قوله: ما رجحوه وما صححوه) المراد الترجيح بأي لفظ كان من علامات الإفتاء، لا خصوص لفظ الترجيح، (قوله: وما هو الأرفق) أي للعامة بعدم التضييق فيه عليهم؛ كقول الصاحبين في مسألة البئر إذا وقعت فيها فأرة ولم يدر وقت وقوعها] اهـ.
والاختيار هنا يعني الاعتماد في الفتوى والقضاء؛ ولذلك قال العلَّامة ابن نجيم في "البحر الرائق" (5/ 218) في مسألة وقف المشاع، وهي من المسائل المختلف فيها: [قوله (ومشاعٌ قُضِيَ بجوازه) أي: وصَحّ وقفُ المشاع إذا قُضِيَ بصحته؛ لأنه قضاءٌ في فصل مجتهد فيه، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما يحتمل القسمة قبل القضاء. أطلق القاضي فشمل الحنفي وغيره؛ فإن للحنفي المقلد أن يحكم بصحة وقف المشاع وببطلانه؛ لاختلاف الترجيح، وإذا كان في المسألة قولان مصححان فإنه يجوز القضاء والإفتاء بأحدهما كما صرحوا به] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (6/ 554): [وينبغي أن يكون مطمحُ نظره إلى ما هو الأرفق والأصلح، وهذا معنى قولهم: إن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة] اهـ.
والقول بأن ممتدة الطهر تتربص سنةً لم ينفرد به المالكية؛ بل هو قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقضى به بين الصحابة من غير نكير، وهو مذهب جماعة من السلف، وقول للإمام الشافعي في القديم، وهو المذهب عند الحنابلة وقد نص عليه الإمام أحمد.
قال الإمام الموفَّق ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (9/ 98-100، ط. دار الفكر): [وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، اعتدت سنة. وجُملة ذلك: أن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فلم تر الحيض في عادتها، ولم تدر ما رفعه، فإنها تعتد سنة؛ تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها؛ لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها، علم براءة الرحم ظاهرًا، فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات، ثلاثة أشهر. هذا قول عمر رضي الله عنه، قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر علمناه. وبه قال مالك، والشافعي في أحد قوليه. ورُوِيَ ذلك عن الحسن. اهـ.
وقال الشافعي في قول آخر: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد بثلاثة أشهر؛ لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها، فوجب اعتبارها احتياطًا.
ولنا: الإجماعُ الذي حكاه الشافعي، ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها، وهذا تحصل به براءة رحمها، فَاكْتُفِيَ به، ولهذا اكْتُفِيَ في حق ذات القرء بثلاثة قروء، وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر، ولو رُوعِيَ اليقينُ لاعتبر أقصى مدة الحمل، ولأن عليها في تطويل العدة ضررًا، فإنها تُمنَع من الأزواج، وتحبس دائمًا، ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تطولوا عليها الشقة، كفاها تسعة أشهر".
فإن قيل: فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهرًا، فلم اعتبرتم ثلاثة أشهر بعدها؟ قلنا: الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل، وقد تجب العدة مع العلم ببراءة الرحم، بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل، فوضعته، وقع الطلاق، ولزمتها العدة] اهـ.
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (29/ 329-330): [وأما إذا حاضت ثم ارتفع حيضها دون علة تعرف، فقد ذهب عمر وابن عباس رضي الله عنهم، والحسن البصري، والمالكية، وهو قول للشافعي في القديم، والمذهب عند الحنابلة: إلى أن المرتابة في هذه الحالة تتربص غالب مدة الحمل: تسعة أشهر، لتتبين براءة الرحم، ولزوال الريبة؛ لأن الغالب أن الحمل لا يمكث في البطن أكثر من ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فهذه سنة تنقضي بها عدتها وتحل للأزواج.
واحتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضُها لا يُدْرَى ما رفعه: تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر، فذلك سنة، ولا يعرف له مخالف.
قال ابن المنذر: قضى به عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم يرتفع حيضها قال: أذهب إلى حديث عمر رضي الله عنه: إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت، فإنها تنتظر سنة؛ لأن العدة لا تُبْنَى على عدة أخرى.
وفي قول للشافعية في القديم: أن المرتابة تتربص أكثر مدة الحمل: أربع سنين لتعلم براءة الرحم بيقين، وقيل في القديم أيضًا: تتربص ستة أشهر أقل مدة الحمل، فحاصل المذهب القديم: أنها تتربص مدة الحمل غالبه أو أكثره أو أقله، ثم تعتد بثلاثة أشهر في حالة عدم وجود حمل] اهـ. انظر: "بدائع الصنائع" (3/ 195)، و"حاشية ابن عابدين" (2/ 606)، و"حاشية الدسوقي" (2/ 470) و"القوانين الفقهية" (241)، و"جواهر الإكليل" (1/ 385)، و"الفواكه الدواني" (2/ 92)، و"مغني المحتاج" (3/ 387)، و"روضة الطالبين" (8/ 371)، و"المغني" لابن قدامة (9/ 100).
وبناءً على ذلك كله: فالتحقيق أن الفتوى عند الحنفية في هذه المسألة إنما هي على وفق قول المالكية من انتهاء عدة ممتدة الطهر بعد سنة قمرية، وأن هذا القول يصدق عليه الآن أنه أرجح الأقوال في مذهب الإمام أبي حنيفة، وأنه هو الذي ينبغي اتباعه في الفتوى والقضاء.
أما عن استحقاق المطلقة الرجعية لمؤخر الصداق فالذي أخذ به عامة المشايخ من الحنفية أنه إنما يُستحَقُّ بانقضاء عدتها من الطلاق الرجعي لا بمجرد وقوع الطلاق:
جاء في "تنقيح الفتاوى الحامدية" (1/ 25) للعلَّامة ابن عابدين: [(سُئِل) في رجل طلَّق زوجته الحامل طلقة واحدة رجعية ولها بذمته مؤخر صداقها تريد أخذه منه بعد انقضاء عدتها فهل لها ذلك؟
(الجواب) نعم، ويتعجل المؤجل بالرجعي ولا يتأجل برجعتها. "خلاصة". وفي "الصيرفية": لا يكون حالًّا حتى تنقضي العدة. "شرح التنوير"، ومثله في "البحر". وقال في "الحاوي" الزاهدي: ولو طلقها رجعيًّا لا يصير المهر حالًّا حتى تنقضي العدة، وبه أخذ عامة المشايخ] اهـ.
هذا من جهة تحرير أرجح الأقوال في هذه المسألة في مذهب الإمام أبي حنيفة.
أما من جهة المعمول به في القانون: فقد كان الذي عليه العمل في المحاكم الشرعية قبل إنشاء قانوني 25 لسنة 1920م، و25 لسنة 1929م هو ما تَخَيَّره العلامة محمد قدري باشا [ت1306هـ] في تقنينه للأحوال الشخصية المادة (314) والتي جاء فيها: [المرأة التي رأت الدم أيامًا ثم ارتفع عنها وانقطع لمرض أو غيره، واستمر طهرها سنة فأكثر، تعتد بالحيض، ولا تنقضي عدتها حتى تبلغ سن اليأس، وتتربص بعده ثلاثة أشهر كاملة، وسن اليأس خمس وخمسون سنة] اهـ.
وكانت هذه المادة موضع حرج ومشقة شديدين في التطبيق؛ حتى استشكلها العلامة محمد زيد الإبياني [ت1354هـ] في "شرحه للأحوال الشخصية" لقدري باشا (2/ 761، ط. دار السلام) فقال: [وهذه المسألة في غاية الشدة بالنسبة للنساء لطول زمن لعدة عليهن؛ إذ يمكن أن يكون خمسًا وأربعين سنة وأشهرًا، وبالنسبة للرجال أيضًا؛ لإلزامهم بالإنفاق على المرأة حتى تنقضي العدة؛ ولذا قال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: تنقضي عدتها بسنة كاملة. وهو ظاهر المراد؛ لأن الغرض من العدة أمران: تَعَرُّفُ براءة الرحم، وإظهار الحزن والأسف على الفراق. ولم يجعل الشارع مدةً للحزن أكثر من أربعة أشهر وعشرة أيام، وبراءة الرحم تُعرَفُ بغير هذا الزمن؛ لأن أكثر مدة الحمل سنتان، فلو قالوا: لا تنقضي عدتُها إلا بعد مضي سنتين من وقت الفرقة للتحقق من براءة الرحم لكان وجيهًا، مع أنه لم يقل به أحد من الحنفية. ولأي شيء تنقضي عدتُها إذا تُوُفِّي زوجُها بأربعة أشهر وعشرة أيام، ولا تنقضي إذا كانت الفرقة بغير الوفاة إلا بالبلوغ سن الإياس وتعتد بعده؟
فإن قالوا: إن عدة الوفاة هكذا، قلنا: إن الغرض من العدة في غيرها تَعَرُّفُ براءة الرحم، ولا يتأتى أن يكون مشغولًا بالولد هذا الزمن، فلا يسعنا إلا أن نقول كما يقولون: البحث وارد والحكم مُسلَّم. والمتبادر للعقل والذهن أن مذهب الإمام مالك هو الأرفق، فيُفتَى به للضرورة كما نص على ذلك بعضُ الحنفية. ونص بعضُ الحنفية على أن عدتها تنقضي بتسعة أشهر] اهـ.
وقد تفطن المشرع المصري إلى المشقة اللاحقة بالرجل من جهة امتداد نفقة العدة إلى سن اليأس إذا ادعت المرأةُ -صادقةً أو كاذبةً- امتدادَ طُهرِها؛ لأن انتهاء العدة لا يُعلَم إلَّا مِن جهتها، وإلى العنت اللاحق بالمرأة بسبب منعها من الزواج حتى سن اليأس إذا امتد طهرها إليه فعلًا؛ فغَيَّر هذا الحكم على مرحلتين:
المرحلة الأولى: بالمادة الثالثة من القانون رقم 25 لسنة 1920م، التي اقتبس فيها المشرع المصري حكمها من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه؛ كما يقول العلامة أحمد إبراهيم بك في كتابه "أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية والقانون" (ص: 522، ط5. مطابع دار الجمهورية)، ونصُّها: [من تأخر حيضُها بغير رضاع تُعتَبَر عِدَّتُها بالنسبة للنفقة بسنة بيضاء لا ترى فيها الحيض، فإن ادعت أنها رأت الدم في أثنائها أُخِّرَت إلى أن ترى الدم مرة أخرى أو إلى أن تمضي سنة بيضاء، وفي الثالثة إن رأت الدم انقضت عدتها، وإن لم تره تنقض العدة بانتهاء السنة، فإن كانت مرضعًا وحاضت في أثناء الرضاع اعتدت بالأقراء، وإن تأخر حيضها بعد انقضاء مدة الرضاع كان الحكم في تأخر حيضها هو ما تقدم. وفي الحالين لا تُسمَع دعواها أن لها عادةً في الحيض لأكثر من سنة] اهـ.
ووفقًا لهذه المادة: تنتهي عدة ممتدة الطهر بانتهاء السنة البيضاء، ولا تزيد عدتُها -بحال من الأحوال- عن خمس سنين، ولا يحصل ذلك إلَّا في القليل النادر؛ إذا كانت مرضعًا لسنتين لم يأتها الحيض خلالهما ثم مكثت ثلاث سنين يأتيها الحيض مرةً في آخر كل سنة، وهذه المادة تؤصل بتفريعاتها لانتهاء عدة ممتدة الطهر عند المالكية، وهذا هو الذي يرفع العنَتَ عن المرأة حيث يمكنها النكاح بعد ذلك، وتستحقُّ مؤخرَ صداقها؛ حيث إنه لا يُستحَقُّ إلَّا بانتهاء العدة كما سبق.
غير أن هذه المادة -على ما فيها من التيسير واستيعاب صور انتهاء عدة ممتدة الطهر عند المالكية- واجهتها عقبة أخرى وهي أن الحالة النادرة التي أدرجتها المادة ضمنًا في تفريعاتها اتخذَتْها كثير من النساء تُكَأَةً لدعوى استمرار العدة على خلاف الواقع، فلم يكن بُدٌّ مِن حسم مَادة التدليس في هذا الأمر، ومن هنا جاءت المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية: وجاءت أصالة لرفع العنت عن الرجل في دعاوى نفقات العِدَدِ الطويلة، فاستبدل المشرع المصري بالمادةِ السابقةِ المادةَ رقم 17 من القانون رقم 25 لسنة 1929م ونصها: [لا تُسمَع الدعوى لنفقةِ عدةٍ تزيد على سنة من تاريخ الطلاق، كما أنه لا تُسمَع عند الإنكار دعوى الإرث بسبب الزوجية لمطلَّقةٍ تُوُفِّيَ زوجُها بعد سنة من تاريخ الطلاق] اهـ.
يقول العلامة أحمد إبراهيم بك في كتابه "أحكام الأحوال الشخصية" (ص: 521-522): [ولَمَّا كان في الأخذ بهذا القول حرج بالناس (يعني: القول بتربص ممتدة الطهر إلى سن اليأس حتى تنتهي عدتها)، وجب أن يُختار قولٌ آخر يكون العمل به أيسر للناس، وقد تلطف الأمر كثيرًا بصدور المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920م، ثم زاد تلطفه بصدور المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929م] اهـ.
والذي تراه دار الإفتاء المصرية أن هذه المادة إنما جاءت لإضفاء مزيد من التيسير على المادة السابقة، وليست إلغاءً لِمَا في الأولى مِن رفع الحرج عن ممتدة الطهر بإنهاء عدتها وفقًا لقول المالكية؛ ولذلك لم تتعرض لانتهاء العدة، بل لسماع دعوى النفقة، وقد بُنِيَتْ هذه المادةُ على حق الحاكم في تقييد المباح وتخصيص القضاء للمصلحة، ولم تتعرض لرأي الفقهاء في انتهاء عدة ممتدة الطهر.
وحينئذ فالفرق بين المادتين: أن الأولى بُنِيَتْ على رأي فقهي؛ حيث تخير الحاكم من الأقوال الفقهية في هذه المسألة الخلافية ما رآه محققًا للمصلحة، أما الثانية فبنيت على حقه في تقييد المباح، وما فعله ثانيًا لا ينقض ما فعله أولًا؛ لأن المادة الثانية فيها زيادة رفع الحرج بتقييد السابقة لا بإلغائها، وموضوع السابقة انتهاء عدة ممتدة الطهر، أما الثانية فموضوعها منع سماع بعض الدعاوي التي شاع فيها التزوير والاحتيال، فهما لم يتواردا على محل واحد حتى يقال بإلغاء الثانية للأولى.
وعلى ذلك جرت أحكام النقض، ومن ذلك: ما جاء في الطعن رقم 46 لسنة 53 ق، أحوال شخصية، جلسة 22/ 5/ 1984م: [ومفاد نص الفقرة الثانية من المادة 7 من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929م يدل -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- على أن المشرع قد جعل مدة السنة التالية للطلاق حدًّا تعتد فيه المطلقة فيما تدعيه من عدم انقضاء عدتها] اهـ. نقلًا عن "موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية" للمستشار محمد عزمي البكري (ص: 574، ط. دار محمود للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1996م).
وبناءً على ذلك: فإن المعمول به في القضاء بالنسبة لانتهاء عدة المرأة التي كانت تحيض ثم امتد طُهرُها قبل بلوغها سن اليأس: أنها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل؛ لِتَتَبَيَّنَ براءةَ الرحم وزوال الريبة، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فإذا أتمت ذلك فقد انقضت عدتُها وترتبت على ذلك كل آثار انقضاء العدة شرعًا؛ من حل للأزواج، واستحقاق لمؤخر الصداق، وصيرورة الرجعية بائنةً، وغير ذلك من الآثار، والقضاء بهذا الرأي لا يخالف ما عليه القانون من الحكم في المسائل التي لم ينص عليها بالراجح من مذهب أبي حنيفة؛ لأن الحنفية أنفسهم قد أجازوا الأخذ به، فضلًا عن أنه يُخَرَّجُ على رواية عندهم، وقد جعلوا قضاء القاضي به نافذًا لا يبطل؛ بحيث لو ادعى مُدَّعٍ مخالفة هذا لمذهب الحنفية وأراد نقض الحكم به بعد صدوره فإن نصوص المذهب الحنفي تمنع إبطال هذا الحكم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا