ما حكم طباعة المصحف الشريف بحروف اللغة الإنجليزية ليتمكَّن الناطقون بها من النطق بالقرآن الكريم؟
حكم طباعة المصحف الشريف بحروف اللغة الإنجليزية
الحكاية الصوتية لحروف اللغة العربية هي مسألة علمية قديمة حدثت في الأندلس عند فتح المسلمين لها، ويقوم بها العالم شرقًا وغربًا لأغراض مختلفة؛ علمية وغيرها، وسوف تتم بنا -معشر المسلمين- أو بغيرنا؛ فإن الحاجة عند الآخر قائمةٌ، وأسبابه متوافرة لذلك؛ سواء منهم الراغب في الإسلام وغيره، والقول بجواز استخدامها في طباعة المصحف الشريف مع وضع الضوابط الكفيلة بحماية اللفظ القرآني من التحريف والتبديل قدر الطاقة هو الأنسب في رأينا، خاصة مع الطفرة الاتصالاتية والمعلوماتية القائمة في العالم اليوم، وهذه الضوابط تتمثل في طبع هذه الحكايات الصوتية مع نص المصحف الشريف الشائع المتداول المعروف لا استقلالًا، والتنبيه في مقدمة هذا العمل على أمور؛ منها: أن هذا النص هو رواية فلان كـحفص عن عاصم الكوفي مثلًا. ومنها: قيام لجنة علمية مختصة مشتركة ذات مصداقية من أهل اللسانين العربي والآخر الذي يتم حكاية ألفاظ القرآن الكريم به بوضع مفتاح للعمل للوصول إلى عمل علمي دقيق في هذا الصدد يمكن أن يوفر النطق الصحيح للحرف العربي القرآني، بل وطريقة أدائه الصوتي أيضًا.
التفاصيل ....المحتويات
حكم طباعة المصحف الشريف بحروف اللغة الإنجليزية
التوجه في مجمع البحوث الإسلامية بمصر وغيره من المجامع في خارجها هو منع هذه الكتابة، كما ورد هذا أيضًا في قرارات الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية برقم 67، وذلك نابع من عدة تخوفات؛ منها الخوف على المصحف الشريف من التحريف؛ نتيجة اختلاف اصطلاحات الكتابة من كاتب لآخر أو من هيئة لأخرى، ونتيجة لكون هذه اللغات الأجنبية تتطور وتتغير وهذا مظنة إدخال التحريف على القرآن الكريم، ومنها الظن أن هذا يُضعِف الإقبالَ على تعلم العربية وبالتالي تعلم أحكام القرآن الكريم في تلاوته وتشريعاته، وأنه يجب الحفاظ على ما تركه السلف الصالح -الصحابة فمَن بعدهم- مِن كتابة المصحف الشريف بالعربية مع وجود الأعاجم والدواعي إلى هذه الكتابة ولكنها مع ذلك لم تُفعَل في عهودهم، ويُدَعِّم هذا الاتجاهُ رأيَه بمثل ميل الإمام الزركشي في "البرهان" إلى منع ذلك، ونقل الحافظ السيوطي لذلك في "الإتقان" بدون نقضه، فكأنه يوافق عليه، ومنع الشيخ رشيد رضا لذلك أيضًا في "المنار"، وقالوا إن شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي في "فتاويه" ذهب إلى تحريم كتابة القرآن بالعجمية ولو كان لمصلحة التعليم، وقالوا إنه نسبه للإمام مالك.
وقد سبق إلى القول بالمنع بعض العلماء والكاتبين والباحثين؛ منهم الشيخ حسين والي مسؤول قسم الفتوى بالأزهر فيما نشره في "مجلة الأزهر" في مقالة له بعنوان: "كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينية" نشرت سنة 1355هـ- 1936م، ونحا فيها إلى المنع؛ معللًا بأن بعض الحروف العربية لا تتأدى باللغات الأخرى، وكذلك الأستاذ محمود أبو دقيقة في مقالة له في مجلة "نور الإسلام" صادرة في عام 1351هـ بعنوان "كلمة في ترجمة القرآن الكريم".
ولكننا نرى أن الأمر أهون من ذلك:
۞ فإن الأمر من ناحيةٍ ليس مجمعًا عليه بين العلماء؛ فالإمام الزركشي نفسه فيما نقله عنه الحافظ السيوطي في "الإتقان" وإن رجح المنع إلا أنه نقل عنه أنه قال: هذا مما لم أر فيه كلامًا لأحد من العلماء، ويحتمل الجواز؛ لأنه قد يحسنه مَن يقرؤه بالعربية.
وكذلك يقول العلامة الزرقاني في "مناهل العرفان": [ونسترعي نظرك إلى أمور مهمة، أولها أن علماءنا حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربية، وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب الآيات القرآنية إذا كتبت بالحروف العربية كيلا يقع إخلال وتحريف في لفظه فيتبعهما تغير وفساد في معناه] اهـ بتصرف يسير.
وكذلك المنصوص عند الحنفية جواز قراءة وكتابة القرآن بغير العربية للعاجز عنها بشروط، وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية؛ فإن عندهم تجوز قراءة وكتابة القرآن الكريم بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى؛ ففي "النهاية" و"الدراية": أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية، فكتب، فكانوا يقرؤون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم، وفي "النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية" ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقًا، وفي كتب المالكية: أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن، بل يعتبر تفسيرًا له.
هذا، والأستاذ رشيد رضا الذي ينقلون عنه المنع يقول في نفس السياق: إننا جوزنا ترجمة القرآن؛ لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك، ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها، ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة، وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية، وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات، ككونها تبيح المحظورات، وكونها تقدر بقدرها، فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا في حاجة إليه، ثم ليجتهدوا في تعليم مَن يَحسُن إسلامُهم الخطَّ العربي بعد ذلك؛ ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين، وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم، فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها، ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين، وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا.
۞ ومن ناحية أخرى، فإن الذي نحن بصدده الآن ليست هي مسألة ترجمة لألفاظ القرآن الكريم translation، وقد أجمع المسلمون على أن الترجمة ليست قرآنًا، بل هي تفسير للقرآن الكريم، وإنما ما نحن بصدده هي مسألة حكاية صوتية لحروف اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم transliteration، وهي مسألة علمية بحتة تقوم بها الشعوب والمؤسسات لأغراض مختلفة؛ علمية وغيرها، وقد حدثت في الأندلس عند فتح المسلمين لها، ويقوم بها العالم شرقًا وغربًا لسببٍ أو لآخر، وستتم بنا -معشر المسلمين- أو بغيرنا، فإن الحاجة عند الآخر قائمة وأسبابه متوافرة لذلك سواء منهم الراغب في الإسلام وغيره، وهناك تجربة ناجحة في بعض الفضائيات المحترمة التي تأتي بالتلاوة القرآنية ويظهر معها على الشاشة النصُّ العربيُّ للتلاوة المسموعة مع حكاية صوتية لحروف المسموع.
الخلاصة
عليه: فإن القول بجواز ذلك مع وضع الضوابط الكفيلة بحماية اللفظ القرآني من التحريف والتبديل قدر الطاقة هو الأنسب في رأينا، خاصة مع الطفرة الاتصالاتية والمعلوماتية القائمة في العالم اليوم، وهذه الضوابط تتمثل في عدم طبع هذه الحكايات الصوتية مستقلة عن المصحف الشريف، بل يجب جعلها مع نص المصحف الشريف الشائع المتداول المعروف، والتنبيه في مقدمة هذا العمل على أمور من مثل كون هذا النص هو رواية فلان كـحفص عن عاصم الكوفي مثلًا، وذلك كما يكتب في مقدمة أو مؤخرة طبعات المصحف الشريف، حيث إن قارئ هذا العمل يكون غالبًا على جهل كبير بتفاصيل القراءات القرآنية، وربما يصطدم بقراءة أخرى غير التي بين يديه، كقراءات المغاربة أو غيرهم ممن يقرؤون بقراءة المدنيين أو البصريين، فربما أحدث له ذلك تشويشًا، ومنها قيام لجنة علمية مختصة مشتركة ذات مصداقية من أهل اللسانين العربي والآخر الذي يتم حكاية ألفاظ القرآن الكريم به بوضع مفتاح للعمل للوصول إلى أدق عمل علمي في هذا الصدد يمكن أن يوفر النطق الصحيح للحرف العربي القرآني، بل وطريقة أدائه الصوتي أيضًا، بحيث يعطي للمجامع الفقهية والأجهزة المعنية الطمأنينة للنتاج العلمي الذي سيطرح على الجمهور من الباحثين أو المثقفين أو غيرهم من المحتاجين إلى هذا العمل، وهذا من شأنه الحفاظ على قدسية القرآن الكريم والمصحف الشريف، وفي نفس الوقت تلبية حاجات بني آدم في المعرفة بعامة، وفي الدخول في دين الله الحنيف بخاصة، وكلاهما غرضٌ ورسالةٌ لأمة الدعوة ومحبوبٌ للرب سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.