حكم الاستدلال بالحديث الضعيف في الأحكام

حكم الاستدلال بالحديث الضعيف في الأحكام

هل يجوز الاستدلال بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية؟

المحتويات

 

الحديث الضعيف ينقسم إلى مراتب متفاوتة

هناك أحاديث ضعيفة تكون نصًّا في مسألة فقهية، لكنها تكون ضعيفة السند، فنجد بعض الفقهاء قد استدل بها في الباب، وهنا يأتي التساؤل: كيف يحتج الفقيه بهذا الحديث الضعيف؟ وهل يجوز أن ننسج على هذا المنوال فيحتج الفقيه والمفتي الآن بالحديث الضعيف؟
وهذه المسألة تتعلق بالحديث لكونه المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، لكن هذا المصدر في غالبه ظني الثبوت لكون الغالب عليه هو الأحاديث الآحاد وليست المتواترة.
وقد قام المحدثون بوضع أسس علم الحديث، وبيَّنوا صحيحه من سقيمه، كما بيَّنوا أن الضعف ينقسم إلى مراتب متفاوتة، فليس الحكم على الحديث بالضعف؛ لسوء حفظ بعض رواته كالحديث الذي حكم عليه بالضعف من أجل كذب بعض رواته!
والعمل بالضعيف في فضائل الأعمال قد أفردناه بفتوى مستقلة.
وأما العمل بالحديث الضعيف في الأحكام الفقهية فالمشهور بين الناس عدم العمل به مطلقًا، لكن عند التأني والرجوع إلى كلام العلماء نرى لهم تفصيلًا في ذلك.

المقصود بالحديث الصحيح والحسن والضعيف

قبل الخوض في المسألة نذكر شيئًا عن تعريف الحديث؛ ليتبين ما نتحدث عنه جليًّا للسائل وغيره، فمن تعاريف الحديث المرفوع عند المحدثين قول الإمام القاسمي في "قواعد التحديث" (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية): [ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة] اهـ.
ومن تعاريف الحديث عند الأصوليين والفقهاء قول الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 6، ط. دار الكتبي): [ما صدر من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الأقوال والأفعال والتقرير والهم، وهذا الأخير لم يذكره الأصوليون ولكن استعمله الشافعي في الاستدلال] اهـ.
كما ينبغي أن نعرف ما هو الحديث الضعيف؛ ولأن العلماء درجوا على أن يعرفوا الحديث الصحيح والحسن ثم يعرفوا الضعيف: بأنه ما لم تجتمع فيه صفات الصحيح والحسن، فيحسن بنا أن نعرف بهذه الأنواع:
أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا ولا معللًّا.
وأما الحديث الحسن: فهو قسمان:
- أحدهما: الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثير الخطأ، ولا هو متهم بالكذب، ويكون متن الحديث قد روي مثله أو نحوه من وجه آخر، فيخرج بذلك عن كونه شاذًّا أو منكرًا.
- القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، ولم يبلغ درجة رجال الصحيح في الحفظ والإتقان، ولا يُعدُّ ما ينفرد به منكَرًا، ولا يكون المتن شاذًّا ولا معلَّلًا.
وأما الحديث الضعيف: فهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح، ولا صفات الحسن المذكورة. انظر: "تلخيص ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح" (1/ 21).

حكم الاستدلال بالحديث الضعيف في الأحكام

أما حكم العمل بالحديث الضعيف فالأصل فيه جواز عدم العمل به؛ لأنه لم يكن متواترًا فيفيد علمًا ولا آحادًا صحيحًا فيفيد ظنًّا، لكن هناك حالات يمكن أن يعمل فيها الإنسان بالحديث الضعيف -لا الواهي- في الأحكام الشرعية، منها:
1- عند وجود حديث ضعيف ولا يوجد في الباب من الصحيح ما يعارضه:
قال الإمام ابن النجار الحنبلي في "شرح الكوكب المنير" (2/ 573، ط. مكتبة العبيكان): [وَفِي "جَامِعِ الْقَاضِي": أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ لا يُحْتَجُّ بِهِ فِي الْمَآثِم. وَقَالَ الْخَلاَّلُ: مَذْهَبُهُ -يَعْنِي: الإِمَام أَحْمَد- أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ قَالَ بِه. وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ: مَذْهَبُهُ فِي الأَحَادِيثِ، وإنْ كَانَتْ مُضْطَرِبَةً وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ قَالَ بِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ: طَرِيقِي لَسْت أُخَالِفُ مَا ضَعُفَ مِنَ الْحَدِيثِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ مَا يَدْفَعُهُ] اهـ.
قال الإمام ابن الصلاح في "مقدمته" (ص: 36، ط. دار الفكر): [حَكَى أَبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ مَنْدَه الْحَافِظُ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ الْبَاوَرْدِيَّ بِمِصْرَ يَقُولُ: "كَانَ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَرْكِهِ". وَقَالَ ابْنُ مَنْدَه: "وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ يَأْخُذُ مَأْخَذَهُ، وَيُخْرِجُ الْإِسْنَادَ الضَّعِيفَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي الْبَابِ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مَنْ رَأْيِ الرِّجَال"] اهـ.
وقال الإمام علي بن حزم في "المحلى" (3/ 61، ط. دار الفكر): [وَهَذَا الْأَثَرُ (قنوت الفجر) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ الإمام أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنَ الرَّأْيِ، قَالَ عَلِيٌّ: وَبِهَذَا نَقُولُ] اهـ.
2- تلقي الأمة له بالقبول:
قال الإمام السخاوي في "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" (1/ 350، ط. مكتبة السنة، مصر): [وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ بِالْقَبُولِ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي حَدِيثِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ] اهـ.
3- الاحتياط:
قال الإمام السخاوي في "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث" (1/ 351): [أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ احْتِيَاطٍ؛ كَمَا إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ بَعْضِ الْبُيُوعِ أَوِ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ -كَمَا قَالَ الإمام النَّوَوِيُّ- أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ، وَمَنَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقًا. وَلَكِنْ قَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي عِدَّةٍ مِنْ تَصَانِيفِهِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا خَاصَّةً] اهـ.
قال الإمام السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 351، ط. دار طيبة): [وَيُعْمَلُ بِالضَّعِيفِ أَيْضًا فِي الْأَحْكَامِ إِذَا كَانَ فِيهِ احْتِيَاطٌ] اهـ.
4- الاستحباب في الفضائل:
قال العلامة ابن الهمام "فتح القدير" (2/ 133، ط. دار الفكر): [«مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ عَلِيٍّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ طُرُقَ حَدِيثِ عَلِيٍّ كَثِيرَةٌ، وَالِاسْتِحْبَابُ يَثْبُتُ بِالضَّعْفِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ] اهـ.
والدليل على ذلك كله:
أن الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف إنما هو في ظاهر الأمر فقط، فقد وضع العلماء تعريفات لكل نوع من الأحاديث، فمتى انطبق التعريف على حديث أخذ حكمه في الظاهر.
قال الإمام ابن الصلاح في "مقدمته" (ص: 13): [وَمَتَى قَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ اتَّصَلَ سَنَدُهُ مَعَ سَائِرِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ مِنْهُ مَا يَنْفَرِدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَلَقِّيهَا بِالْقَبُولِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا فِي حَدِيثٍ: إِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ قَطْعًا بِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَاللهُ أَعْلَمُ] اهـ.
فلما كان الأمر كذلك على الاحتمال، وخَلَا البابُ الفقهي من الحديث الصحيح المعارض للضعيف، كان هذا الضعيف وفيه احتمال الصحة مع عمل بعض العلماء بمعناه، دلَّ هذا على صحة المعنى عند القائل به، بمعنى أن هذا الرأي الفقهي كان سيقول به بعض العلماء ولو لم يرد هذا الضعيف.

الخلاصة

مما تقدم يتبين أن الأصل في الحديث الضعيف عدم جواز العمل به في الأحكام الشرعية، ومع هذا فإن هناك حالات يمكن الأخذ فيها بالحديث الضعيف في الأحكام الشرعية بالضوابط والشروط التي تقدم ذكرها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا