اطلعت على فتوى منسوبة لما يسمى بهيئة البحوث والإفتاء فيما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" (داعش)، وقد سألت عن حكم السفر لمناطق النظام للحاجة، فأجابت بأن السفر إلى بلاد الكفار عمومًا وإلى مناطق النظام خصوصًا حرام، إلا لضرورة؛ لما يقترن بها من مناطات مُكَفِّرة.
فما معنى هذا الكلام؟ وهل هو صحيح؟ وما هي مناطق النظام هذه؟
الرد على فتوى داعش بأن السفر لمناطق النظام حرام
أولًا: المقصود بمناطق النظام: المناطق الخاضعة لقوات النظام السوري الآن، ويقابلها المناطق الخاضعة لعدوان تنظيم داعش الخارجي.
ثانيًا: إذا أمن المسافر على دينه ونفسه وعرضه، مع تمكنه من القيام بشعائر الإسلام بدون ممانع؛ فإن السفر في حقه جائزٌ شرعًا، ولا يلتفت للفتوى المذكورة؛ لتأسيسها على أصولٍ تكفيريةٍ فاسدةٍ مخالفةٍ لما عليه علماء المسلمين سلفًا وخلفًا.
ومع ذلك فإن من خذلان الله تعالى لهذه الفئة الضالة المنحرفة أن يأخذ جنودهم بفتواهم فلا يخرجوا من أوكارهم إلى البلدان الأخرى؛ فينحصر بذلك شرهم وأذاهم وشؤمهم عن غيرهم من عباد الله المسالمين من المسلمين وغيرهم في تلك البلدان.
المقصود بمناطق النظام في هذا السياق: المناطق التي تحت قوات النظام السوري الآن، ويقابلها المناطق التي تحت سيطرة تنظيم داعش الخارجي.
هذه الفتوى الشاردة قد تأسست على مقدمتين غير مسلَّمتين:
الأولى: أن بلاد الكفار لا يجوز السفر إليها إلا لضرورة؛ لوجود أمور كفرية تلزم الداخل إليها من حيث هو داخل.
والثانية: أن مناطق النظام من بلاد الكفار.
ثم بُني على هاتين المقدمتين أنه لا يجوز السفر إلى مناطق النظام ولو لحاجة، اللهم إلا في حالة الضرورة.
أما المقدمة الأولى: فهي فاسدة؛ إذ ما دام المسافر قد أمن على دينه ونفسه وعرضه، وتمكن من القيام بشعائر الإسلام بدون ممانع؛ كان السفر في حقه جائزًا في نفسه.
وقد أذِن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومٍ أن يقيموا بمكة بعد إسلامهم وقبل فتحها؛ منهم: عمه العباس رضي الله عنه؛ لأنهم لم يخافوا الفتنة، وأمنوا الأذى على أنفسهم في ذلك.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (4/ 169-170، ط. دار المعرفة): [ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فُتِنَ عن دينه بالبلد الذي يُسلِم بها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذِن لقومٍ بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم؛ منهم: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وغيره إذ لم يخافوا الفتنة] اهـ.
وروى الإمام الطبراني في "الأوسط"، وابن حبان، أن فديكًا خرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا فُدَيْكُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ، وآتِ الزَّكَاةَ، واهْجُرِ السُّوءَ، واسْكُنْ مِنْ أَرْضِ قَوْمِكَ حَيْثُ شِئْتَ».
وروى الإمام الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (7/ 37، ط. مؤسسة الرسالة) عن عطاء رضي الله عنه قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها، فقال لها: يا أم المؤمنين، هل مِن هجرةٍ اليوم؟ قالت: "لا، ولكن جهاد ونية، إنما كانت الهجرة قبل فتح مكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة؛ يفر الرجل بدينه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 229، ط. دار المعرفة): [أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها: خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه: أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق: لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثَم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام] اهـ.
وأما المقدمة الثانية: ففاسدة أيضًا؛ لأنها مبنية على أصلهم الفاسد من التوسع في تكفير من خالفهم فيما أصَّلوه من أمورٍ يعتبرونها من التوحيد وأصل الإيمان، وليست كذلك؛ مثل ما يرددونه في الكلام عن الحاكمية، ودار الحرب ودار الإسلام، وتقسيم التوحيد، ونحو هذا.
والذي يقرأ فتواهم الكاسدة ليرى ما هي المناطات المكفرة التي اعتبروها كذلك: يجد كلامًا سخيفًا؛ من قبيل: التشبه، والموافقة في الأعياد الوطنية، والتهنئة بها، والهدي الظاهر، ونحو هذا.
والفقهاء قد نصُّوا على أن الأرض التي يتمكن المسلم فيها من القيام بشعائر دينه تصير دار إسلام، حتى لو كانت السلطة فيها لغير المسلم، وقد جاء في "فتاوى الرملي" (4/ 52-54، ط. المكتبة الإسلامية): [سئل: عن المسلمين الساكنين في وطن من الأوطان الأندلسية يسمى أرغون، وهم تحت ذمة السلطان النصراني يأخذ منهم خراج الأرض بقدر ما يصيبونه فيها، ولم يتعد عليهم بظلم غير ذلك، لا في الأموال، ولا في الأنفس، ولهم جوامع يصلون فيها، ويصومون رمضان، ويتصدقون، ويفكون الأسارى من أيدي النصارى إذا حلوا بأيديهم، ويقيمون حدود الإسلام جهرًا كما ينبغي، ويظهرون قواعد الشريعة عيانًا كما يجب، ولا يتعرض لهم النصراني في شيء من أفعالهم الدينية، ويدعون في خطبهم لسلاطين المسلمين من غير تعيين شخص، ويطلبون من الله نصرهم، وهلاك أعدائهم الكفار، وهم مع ذلك يخافون أن يكونوا عاصين بإقامتهم ببلاد الكفر، فهل تجب عليهم الهجرة وهم على هذه الحالة من إظهار الدين؛ نظرًا إلى أنهم ليسوا على أمان أن يكلفوهم الارتداد والعياذ بالله تعالى، أو على إجراء أحكامهم عليهم أو لا تجب؛ نظرًا إلى ما هم فيه من الحال المذكور.
ثم إن رجلًا من الوطن المذكور جاء إلى أداء فريضة الحج من غير إذن أبويه؛ مخافة أن يمنعاه منه، فأدَّاها. فهل حجه صحيح أو لا؛ لإيقاعه بغير إذن أبويه؟ وهل يجوز رجوعه إلى أبويه في الوطن المذكور؟
فأجاب: بأنه لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم؛ لقدرتهم على إظهار دينهم به، ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عثمان رضي الله عنه يوم الحديبية إلى مكة؛ لقدرته على إظهار دينه بها، بل لا تجوز لهم الهجرة منه؛ لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه دار إسلام، فلو هاجروا منه صار دار حرب، وفيما ذكر في السؤال من إظهارهم أحكام الشريعة المطهرة، وعدم تعرض الكفار لهم بسببها على تطاول السنين الكثيرة؛ ما يفيد الظن الغالب بأنهم آمنون منهم من إكراههم على الارتداد عن الإسلام أو على إجراء أحكام الكفر عليهم] اهـ.
وكذلك تفريقهم بين حالة الضرورة وحالة الحاجة -على فرض صحة كلامهم وليس كذلك- مخالفٌ للقاعدة الفقهية التي تقول: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامةً كانت أو خاصة"؛ يعني في إباحتها المحظور، وكونها تتقدر بقدرها.
وهذا النقاش مِنَّا لهم إنما هو من قبيل التنزل، وإلا فإن هؤلاء المجيبين ومن انتسبوا إليهم ليسوا إلا طائفةً من الخوارج المرتزقة وغلاة التكفيريين المنشقين عن تنظيم القاعدة المتطرف، فلا يؤخذ منه دين أو علم أو إفتاء.
على أنا نحبذ ألا يخرج جنودهم من أوكارهم إلى البلدان الأخرى كما هو مضمون فتواهم، ولكن ليس من الحيثيات التي ذكروها، بل من حيثية أن ذلك سببٌ يحصل به حصر شرهم وأذاهم وشؤمهم وكف ذلك عن غيرهم من عباد الله المسالمين من المسلمين وغيرهم في البلدان الأخرى.
والله سبحانه وتعالى أعلم.