نعرف المقولة الشهيرة التي أطلقت على الإمام مالك رضي الله عنه: "لا يُفتى ومالك في المدينة"، ولكننا سمعنا أن سبب إطلاقها أن امرأة ماتت، فغسلتها امرأة أخرى، فطعنت في عفاف الميتة، فالتصقت يدها بها، فاحتار الناس في الحكم؛ هل يقطعون يد المرأة القاذفة، أو جسد المرأة الميتة؟ حتى قال مالك: "اجلدوها حد القذف"، بعد أن علم بقصتها، ففعلوا، فانفصلت اليد، فقيلت في حقه هذه المقولة من ساعتها. فما مدى صحة هذا الكلام؟
قصة لا يفتى ومالك في المدينة
المقولة الشهيرة "لا يُفتى ومالك في المدينة" هي مقولة صحيحة؛ فلم يكن في المدينة من هو أعلم من الإمام مالك وأفقه منه، أما القصة التي تُذْكَر في سبب هذه المقولة فهي قصة موضوعة على الإمام مالك رضي الله عنه.
التفاصيل ....المحتويات
- نبذة عن الإمام مالك
- المراد بـ"عالم المدينة" الواردة في الحديث النبوي
- هل مقولة "لا يُفتى ومالك في المدينة" مقولة صحيحة؟
- الخلاصة
نبذة عن الإمام مالك
الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري، ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، ومات سنة تسع وسبعين ومائة وله أربع وثمانون سنة.
وهو الإمام المجتهد إمام دار الهجرة أحد أئمة المذاهب الأربعة المتبوعة وأحد الأعلام الذي سارت به الركبان، ومناقبه جمة أفردت بالتأليف، وثناء الناس عليه مشهور معروف، أخذ الرواية من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائة من التابعين وستمائة من تابعي التابعين.
قال الإمام الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (8/ 58، ط. مؤسسة الرسالة): [ولم يكن بالمدينة عالمٌ مِن بَعد التابعين يشبه مالكًا في العلم والفقه والجلالة والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب، والفقهاء السبعة، والقاسم، وسالم، وعكرمة، ونافع، وطبقتهم، ثم زيد بن أسلم، وابن شهاب، وأبي الزناد، ويحيى بن سعيد، وصفوان بن سليم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وطبقتهم، فلما تفانوا، اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسليمان بن بلال، وفليح بن سليمان، والدراوردي، وأقرانهم، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق رحمه الله تعالى] اهـ.
المراد بـ"عالم المدينة" الواردة في الحديث النبوي
قد حُمِل عليه ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يوشِك أن يضرب الناسُ أكبادَ الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلمَ من عالم المدينة»، وعقب الإمام الترمذي بقوله: "هذا حديث حسن وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس. وقال إسحاق بن موسى: سمعت ابن عيينة يقول: هو العمري الزاهد. وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق: هو مالك بن أنس"، والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد بـ"عالم المدينة" في هذا الحديث هو الإمام مالك بن أنس؛ قال الإمام ابن رشد المالكي في "المقدمات الممهدات" (3/ 483-484، ط. دار الغرب الإسلامي): [وأنه كان إمامًا في ذلك كله غير مدافع فيه بشهادة علماء وقته له بذلك وإقرارهم بالتقديم له فيه، ولأنا اعتقدنا أيضًا أنه هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة» لوجهين:
أحدهما: أنه هو المسمى بعالم المدينة لتعرفه به، فإذا قال القائل: هذا قول عالم المدينة، أو فقيه المدينة، أو إمام دار الهجرة، علم أنه هو الذي أراد، كما يعلم إذا قال هذا قول الشافعي أنه أراد بذلك محمد بن إدريس الشافعي دون من سواه من أهل نسبه، وكذلك الثوري والأوزاعي.
والثاني: تأويل الأئمة ذلك فيه منهم ابن جريج، وابن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي من غير خلاف عليهم في ذلك؛ لأن من قال: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم عنى بذلك العمري العابد ليس بصحيح؛ لأن الصفة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن أكباد الإبل تضرب إليه في طلب العلم إنما هي موجودة في مالك لا في العمري؛ لأن أكباد الإبل لم تضرب إليه في طلب العلم؛ لأنه إنما كان من شأنه أن يخرج إلى البادية التي لا يحضر أهلها الأمصار لطلب العلم ولا يخرج أهل العلم إليهم، فيعلمهم أمر دينهم ويفقههم فيه ويرغبهم فيما يقربهم من ربهم ويحذرهم مما يبعدهم عنه.
وهذا وإن كان فيه من الفضل ما فيه فقد أربى ما وهب الله مالكًا رحمه الله من الفضل فيما انتشر عنه من العلم وإحيائه من الدين بما لا يعلمه إلا الله الذي يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "مجموع الفتاوى" (20/ 323، ط. مجمع الملك فهد للطباعة): [وهذا يصدق الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة» فقد روي عن غير واحد كابن جريج وابن عيينة وغيرهما أنهم قالوا: هو مالك.
والذين نازعوا في هذا لهم مأخذان:
أحدهما: الطعن في الحديث فزعم بعضهم أن فيه انقطاعًا.
والثاني: أنه أراد غير مالك كالعمري الزاهد ونحوه.
فيقال: ما دل عليه الحديث وأنه مالك أمر متقرر لمن كان موجودًا وبالتواتر لمن كان غائبًا؛ فإنه لا ريب أنه لم يكن في عصر مالك أحد ضرب إليه الناس أكباد الإبل أكثر من مالكٍ] اهـ.
وقال الشيخ شمس الدين السفيري الشافعي في "المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم من صحيح الإمام البخاري" (1/ 148-149، ط. دار الكتب العلمية): [ومن مناقبه -أي: الإمام مالك- بل أجلها: أنه العالم الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة»].
فالمراد بعالم المدينة هو الإمام مالك كما قاله التابعون وتابعوهم، ولم يعرف أن أحدًا ضربت إليه أكباد الإبل مثل ما ضربت إليه" اهـ بتصرف.
هل مقولة "لا يُفتى ومالك في المدينة" مقولة صحيحة؟
من الأقوال التي اشتهرت: مقولة: "لا يُفتى ومالك في المدينة"، وقد رويت لهذه المقولة قصة؛ قال الإمام الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 47، ط. دار الكتب العلمية): [غريبة: حُكِيَ أن امرأةً بالمدينة في زمن مالكٍ غَسَّلَت امرأة فالتصقت يدها على فرجها، فتحير الناس في أمرها هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال: سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها؟ فسألوها فقالت: قلت: طالما عصى هذا الفرج ربه، فقال مالك: هذا قذف، اجلدوها ثمانين تتخلص يدها، فجلدوها ذلك فخلصت يدها. فمن ثم قيل: لا يفتى ومالك بالمدينة] اهـ. ونقلها غيره؛ كالإمام الدميري في "النجم الوهاج" (3/ 97-98، ط. المنهاج)، والإمام السفيري في "مجالسه على البخاري" (1/ 150، ط. دار الكتب العلمية).
وقد ذكر هذه القصة بسندها الإمام ابن حجر العسقلاني الشافعي، وذلك في معرض تعريفه بيعقوب بن إسحاق، في "لسان الميزان" (8/ 525، ط. دار البشائر الإسلامية) فقال: [يعقوب بن إسحاق: كذاب، وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه، قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي ما نصه: وبسندي إلى عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد وجدت بخط يد عمي بكر بن محمد بن سعيد: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن حجر العسقلاني إملاء حدثنا إبراهيم بن عقبة حدثني المسيب بن عبد الكريم الخثعمي حدثتني أمة العزيز امرأة أيوب بن صالح صاحب مالك قالت: غسلت امرأة بالمدينة فضربت امرأة بيدها علي عجيزتها فقالت: ما علمتك إلا زانية، أو مأبونة فالتزقت يدها بعجيزتها، فأخبرنا مالكًا فقال: هذه المرأة تطلب حدها، فاجتمع الناس، فأمر بها مالك أن تضرب الحد، فضربت تسعةً وسبعين سوطًا، ولم تنزع اليد، فلما ضربت تمام الثمانين انتزعت اليد، وصلي على المرأة، ودفنت] اهـ بتصرف.
وهذه القصة موضوعة مكذوبة؛ وقد اجتمع بها عدة علل، وذلك كما يلي:
العلة الأولى: وهي في يعقوب بن إسحاق، فقد حكم عليه الإمام ابن حجر بالكذب كما ذكر في نص "لسان الميزان" الذي سبق، وقال قبل أن يذكر القصة: "وقد وجدت له حكاية تشبه أن تكون من وضعه"، وقال عنه الإمام الذهبي أيضًا في "ميزان الاعتدال" (4/ 449، ط. دار المعرفة): [يعقوب بن إسحاق العسقلاني: كذاب] اهـ.
العلة الثانية: هي في المسيب بن عبد الكريم؛ متهم بالوضع؛ ذكره الإمام ابن عَرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 117، ط. دار الكتب العلمية) -في أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع من رواة الأخبار- وقال: [اتهمه الدارقطنى بالوضع] اهـ.
العلة الثالثة: وهي في إبراهيم بن عقبة؛ قال عنه أبو حاتم: مجهول. ينظر: "لسان الميزان" (1/ 82).
ومما يدل على وضع هذه القصة أيضًا أن الخطيب الشربيني عند ذكره لهذه القصة صدرها بقوله غريبة، ثم أشار إلى تضعيفها بقوله "حكي"، وما يؤكد غرابة هذه القصة أيضًا أنه لم ترد في كتب المالكية المعتمدة؛ فمن كل هذا يتبين أن هذه القصة موضوعة على الإمام مالك، إلا أن الحكم بوضع هذه القصة، لا يلزم منه الحكم بعدم صحة ما اشتهر من أنه لا يفتى ومالك في المدينة.
فقد أخرج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10/ 436، ط. دار الكتب العلمية) عن ابن وهب أنه قال: حججت سنة ثمان وأربعين ومائة. وصائح يصيح: لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس، وعبد العزيز بن أبي سلمة.
وقال القاضي عياض المالكي في "ترتيب المدارك" (1/ 78، ط. مطبعة فضالة -المحمدية- المغرب): [قال حماد بن زيد: دخلت المدينة ومناديًا نادي لا يفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحدث إلا مالك بن أنس] اهـ.
وقال الشيخ الصاوي في "حاشيته على الشرح الصغير" (1/ 17، ط. دار المعارف): [وهو عالم المدينة. لم تشد الرحال لعالم بها كما شدت له حتى يحمل عليه. وناهيك ما اشتهر: لا يفتى ومالك بالمدينة] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ما سبق: فإن مقولة "لا يُفتى ومالك في المدينة" مقولة صحيحة، أما القصة التي تُذْكَر في سبب هذه المقولة فهي قصة موضوعة على الإمام مالك رضي الله عنه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.