ما حكم الجمع بين الصلوات بسبب العمل؛ فأنا أضطر إلى جمع الصلوات جمع تأخير بسبب ظروف عملي؛ حيث إنني أعمل طبيبًا وأدخل العمليات قبل صلاة الظهر ولا أخرج إلا بعد العصر، فهل يجوز لي الجمع؟ وهل يلزم أن أنوي جمع التأخير في وقت الصلاة الأولى؟ وهل إن فصلت بين الصلاتين بفاصل تبطل الصلاة؟
حكم الجمع بين الصلوات بسبب العمل
علاج المريض من الأعذار التي تبيح للطبيب الجمع بين الصلاتين إذا احتاج إلى ذلك، خاصة إذا خشي الضرر على حياة المريض؛ حيث جعل الشارعُ الحكيمُ المحافظةَ على النفس من الضروريات الخمس. وعليه: فإن احتاج الطبيب إلى البقاء في غرفة العمليات واستغرق ذلك وقت الصلاة كله بسبب هذا العمل المهم الذي لا يمكن قطعه فيجوز له أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقت أيٍّ منهما، وكذلك بين صلاتي المغرب والعشاء، من غير قصر الصلاة، ولا حرج عليه، مع مراعاة أن ينوي الجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما إذا أراد جمع التأخير، وعند الإحرام بالأولى أو في أثنائها إذا أراد جمع التقديم، وألَّا يكون هناك فاصل كبير بين الصلاتين.
التفاصيل ....المحتويات
- الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين
- الجمع بين الصلوات في الحضر عند الحاجة
- حكم الجمع بين الصلوات بسبب العمل
- مدى اشتراط النية عند الجمع بين الصلوات
- حكم الفصل بين الصلاتين عند الجمع بينهما
- الخلاصة
الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين
الناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنَّ مبناها على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين؛ وفي ذلك رعاية لحالهم وتحقيق لمصالحهم.
وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والقواعد الفقهية:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله عز وجل: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28].
ومن السنة المطهرة: عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»، أخرجه الإمام أحمد.
ومن القواعد: قاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وغيرها.
وفي ذلك دليل على رفع الحرج والمشقة الزائدة عن المكلفين؛ قال العلامة الصنعاني في "فيض القدير" (3/ 203، ط. المكتبة التجارية): [إنما بعث بالحنيفية السمحة البيضاء النقية واليسر الذي لا حرج فيه: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾؛ واستنبط منه الشافعية قاعدة: "إن المشقة تجلب التيسير"] اهـ.
وهناك أمثلة كثيرة في الشريعة الإسلامية للتيسير ورفع الحرج عن المكلفين:
منها على سبيل المثال: تخفيف عدد الصلاة من خمسين إلى خمس فقط؛ كما جاء ذلك في حديث الإسراء والمعراج.
ومنها: جمع الصلاة الرباعية وقصرها إلى ركعتين في حالة السفر.
الجمع بين الصلوات في الحضر عند الحاجة
قد ثبت أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مرض ولا مطر، وعندما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك قال: "أراد أن لا يحرج أمته".
وروى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ".
وفي لفظ قال: "جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ"، قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: "أراد أن لا يحرج أمته".
قال العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" (3/ 257، ط. دار الحديث): [قوله: (أراد أن لا يحرج أمته).. ومعناه: إنما فعل تلك لئلا يشق عليهم ويثقل، فقصد إلى التخفيف عنهم] اهـ.
وقد ذهب إلى جواز الجمع في الحضر مطلقًا للحاجة من غير اشتراط الخوف، أو المطر، أو المرض، جماعة من الأئمة؛ منهم ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير وابن شبرمة وغيرهم؛ قال العلامة ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 24، ط. دار المعرفة): [وقد ذهب جماعة من الأئمة إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقًا.. وممن قال به: ابن سيرين وربيعة وأشهب وابن المنذر والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث] اهـ.
ثم قال الحافظ ابن حجر في "المرجع السابق نفسه": [واستدل لهم بما وقع عند مسلم في هذا الحديث من طريق سعيد بن جبير، قال: فقلت لابن عباس: لِمَ فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته. وللنسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء أن ابن عباس رضي الله عنه صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء، فعل ذلك من شغل] اهـ.
وقال العلامة ابن جزي الكلبي في "القوانين الفقهية" (1/ 57): [وأجاز الظاهرية وأشهب الجمع بغير سبب] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (4/ 384، ط. دار الفكر): [(فرع) في مذاهبهم في الجمع في الحضر بلا خوف ولا سفر ولا مرض: مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور أنه لا يجوز، وحكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب، قال: وجوزه ابن سيرين لحاجة أو ما لم يتخذه عادة] اهـ.
وقال في "روضة الطالبين" (12/ 401، ط. المكتب الإسلامي): [وقد حكى الخطابي عن القفال الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي جواز الجمع في الحضر للحاجة من غير اشتراط الخوف، والمطر والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (2/ 205، ط. مكتبة القاهرة): [فصل: ولا يجوز الجمع لغير من ذكرنا. وقال ابن شبرمة: يجوز إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة] اهـ.
وقال العلامة ابن قاسم في "حاشية الروض المربع" (2/ 396): [وأوسع المذاهب مذهب أحمد، فإنه نص على أنه يجوز للحرج والشغل] اهـ.
حكم الجمع بين الصلوات بسبب العمل
قد أجاز فقهاء الحنابلة الجمع بين الصلاتين لأصحاب الأعمال الشاقة؛ كالطباخ والخباز ونحوهما؛ قال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 336، ط. دار إحياء التراث): [قال أحمد في رواية محمد بن مشيش: الجمع في الحضر إذا كان عن ضرورة مثل مرض أو شغل. قال القاضي: أراد بالشغل ما يجوز معه ترك الجمعة والجماعة من الخوف على نفسه أو ماله.. واختار الشيخ تقي الدين جواز الجمع للطباخ، والخباز ونحوهما، ممن يخشى فساد ماله ومال غيره بترك الجمع] اهـ.
وقال الإمام البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 6، ط. دار الكتب العلمية): [في بيان أعذار الجمع بين الصلاة (و) الحال السابعة والثامنة (لمن له شغل أو عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة) كخوف على نفسه أو حرمته أو ماله، أو تضرر في معيشة يحتاجها بترك الجمع ونحوه] اهـ.
ويقاس على ذلك علاج المريض فهو من الأعذار التي تبيح للطبيب الجمع بين الصلاتين؛ وذلك لأن في تركه خطرًا على حياة المريض التي جعل الشارع الحكيم المحافظة عليها من الضروريات الخمس؛ قال الإمام الآمدي في "الإحكام" (3/ 274، ط. المكتب الإسلامي): [المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات وهي أعلى مراتب المناسبات] اهـ.
وعليه: فإن اضطر الطبيب إلى البقاء في غرفة العمليات واستغرق ذلك وقت الصلاة كله بسبب هذا العمل المتواصل الذي لا يمكن قطعه؛ فيجوز له أن يجمع بين الصلاتين ولا حرج عليه.
مدى اشتراط النية عند الجمع بين الصلوات
أما عن نية جمع الصلاة بسبب من أسباب الجمع: فإن جمهور الفقهاء القائلين بجواز الجمع وهم المالكية والشافعية والحنابلة يشترطون النية، كما أنهم يشترطون عدم الفصل بين الصلاتين بفاصل كبير، على خلافٍ بينهم في وقت النية.
فالذي عليه فقهاء المالكية: أنه ينوي الجمع في أول الأولى؛ قال العلامة علي بن أحمد العدوي المالكي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 336، ط. دار الفكر): [(فله) أي فيباح له (أن يجمع بين الصلاتين).. وينوي الجمع في أول الأولى ولا يجزئه أن ينويه في أول الثانية] اهـ.
وعند فقهاء الشافعية قولان:
أحدهما: يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى؛ لأنها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر.
والثاني وهو الأصح: أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 197، ط. دار الكتب العلمية): [وإن أراد الجمع في وقت الأولى لم يجز إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن ينوي الجمع.. وفي وقت النية قولان: أحدهما: يلزمه أن ينوي عند ابتداء الأولى؛ لأنها نية واجبة للصلاة فلا يجوز تأخيرها عن الإحرام كنية الصلاة ونية القصر. والثاني: يجوز أن ينوي قبل الفراغ من الأولى وهو الأصح؛ لأن النية تقدمت على حال الجمع فأشبه إذا نوى عند الإحرام] اهـ.
وقال فقهاء الحنابلة: يختلف باختلاف الجمع؛ فإن جمع في وقت الأولى فموضع النية عندهم عند الإحرام بالأولى، وإن جمع في وقت الثانية فموضع النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها؛ قال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 206، ط. مكتبة القاهرة): [قال: ومن شرط جواز الجمع نية الجمع.. وموضع النية يختلف باختلاف الجمع، فإن جمع في وقت الأولى فموضعه عند الإحرام بالأولى، في أحد الوجهين؛ لأنها نية يفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام، كنية القصر. والثاني: موضعها من أول الصلاة الأولى إلى سلامها، أيَّ ذلك نوى فيه أجزأه؛ لأن موضع الجمع حين الفراغ من آخر الأولى إلى الشروع في الثانية، فإذا لم تتأخر النية عنه، أجزأه ذلك. وإن جمع في وقت الثانية، فموضع النية في وقت الأولى من أوله إلى أن يبقى منه قدر ما يصليها؛ لأنه متى أخَّرها عن ذلك بغير نية صارت قضاءً لا جمعًا. ويحتمل أن يكون وقت النية إلى أن يبقى منه قدر ما يدركها به، وهو ركعة، أو تكبيرة الإحرام، على ما قدمنا. والذي ذكره أصحابنا أولى، فإن تأخيرها من القدر الذي يضيق عن فعلها حرام] اهـ.
حكم الفصل بين الصلاتين عند الجمع بينهما
أما عن الفاصل بين الصلاتين: فإن الجمهور الذين اشترطوا النية اشترطوا ألَّا يكون الفاصل كبيرًا، والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة؛ قال العلامة علي بن أحمد العدوي المالكي في "حاشيته على شرح كفاية الطالب الرباني" (1/ 337، ط. دار الفكر، بيروت): [ولا يفرق بين الصلاتين بأكثر من قدر أذان وإقامة ولا يتنفل بينهما] اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب في فقه الإمام الشافعي" (1/ 197، ط. دار الكتب العلمية): [والشرط الثالث: التتابع؛ وهو ألَّا يفرق بينهما.. فإن فُصِلَ بينهما بفصلٍ طويل بطل الجمع، وإن فُصِلَ بينهما بفصلٍ يسير لم يضر] اهـ.
وفقهاء الحنابلة يفرقون بين الجمع في وقت الأولى والثانية؛ قال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في "المغني" (2/ 206، ط. مكتبة القاهرة): [فإن جمع في وقت الأولى اعتبرت المواصلة بينهما؛ وهو أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا. فإن أطال الفصل بينهما بطل الجمع؛ لأن معنى الجمع المتابعة أو المقارنة، ولم تكن المتابعة فلم يبقَ إلا المقارنة، فإن فرق بينهما تفريقًا كثيرًا، بطل الجمع، سواء فرق بينهما لنوم أو سهو أو شغل أو قصد أو غير ذلك؛ لأن الشرط لا يثبت المشروط بدونه، وإن كان يسيرًا لم يمنع؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة، لا حد له سوى ذلك، وقدره بعض أصحابنا بقدر الإقامة والوضوء.
والصحيح: أنه لا حد له، لأن ما لم يرد الشرع بتقديره لا سبيل إلى تقديره، والمرجع فيه إلى العرف، كالإحراز والقبض، ومتى احتاج إلى الوضوء والتيمم، فعله إذا لم يطل الفصل، وإن تكلم بكلام يسير، لم يبطل الجمع، وإن صلى بينهما السنة، بطل الجمع، لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل الجمع، كما لو صلى بينهما غيرها. وعنه: لا يبطل؛ لأنه تفريق يسير، أشبه ما لو توضأ.
وإن جمع في وقت الثانية، جاز التفريق؛ لأنه متى صلى الأولى فالثانية في وقتها، لا تخرج بتأخيرها عن كونها مؤداة. وفيه وجه آخر، أن المتابعة مشترطة؛ لأن الجمع حقيقته ضم الشيء إلى الشيء، ولا يحصل مع التفريق. والأول أصح؛ لأن الأولى بعد وقوعها صحيحة لا تبطل بشيء يوجد بعدها، والثانية لا تقع إلا في وقتها] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي الواقعة محل السؤال: يجوز للسائل الجمع بين الصلاة لظروف عمله، ولضرورة علاج المريض، ويجب عليه أن ينوي الجمع في وقت الأولى مع اعتبار ألَّا يكون هناك فاصل كبير بين الصلاتين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.