ما حكم المبيت بمكة بعد طواف الوداع؟ فأنا ذهبت لأداء فريضة الحج، وبعد أن انتهيتُ من مناسك الحجِّ وطفت طواف الوداع لم أترك مكة بل أقمت بها يومًا بسبب الاستعداد للسفر مع الرحلة المنظمة والرفقة، فهل يلزمني إعادة طواف الوداع مرة أخرى قبل السفر مباشرةً حتى يكون آخر عهدي بمكة هو الطواف، وما الحكم لو سافرت ولم أتمكن من إعادة الطواف مرة أخرى؟
اتفق الفقهاء على أن المكث بمكَّة بعد طواف الوداع بسبب الاشتغال بأسباب الخروج لا يتحقق به معنى الإقامة الذي يوجب إعادته؛ فكل ما يتعلق بالخروج واستعدادات السفر -من الرجوع إلى مكان الإقامة بالفندق، وانتظار الفوج أو الرفقة التي يسير معها، وانتظار وقت رحلة الطائرة أو المواصلات التي يسافر عليها- لا يوجب إعادة الطواف وإن استغرق ذلك يومًا أو أكثر؛ لأن هذا لا يخرج عن كونه خروجًا ووداعًا في العادة.
المحتويات
طواف الوداع من شعائر الحج، وهو الطواف الذي يقوم به الحاجُّ بعد انتهائه من مناسكه، وعزمه على الخروج من مكة، مختتمًا به أفعال الحج، ليكون الطواف آخرَ عهده بالبيت؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَنْفِرْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ» متفقٌ عليه، واللفظ لمسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جئنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو في منزله من جوف الليل، فقال: «هَلْ فَرَغْتِ؟» قلت: نعم، فأذَّنَ في أصحابه بالرحيل، فخرج فمرَّ بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة. رواه الإمام مسلم في "صحيحه".
وسُمِّيَ بالوداع لأنه يُودَّعُ به البيت الحرام؛ ولذلك نصَّ جماعة من العلماء على أن طواف الوداع إنَّما يكون للآفاقي المسافر دون المكي وأهل الحرم، ودون الآفاقي الذي نوى الإقامة؛ لانتفاء معنى الوداع في حقهم؛ إذ الوداع إنَّما يكون من المفارق، لا من الملازم؛ كما قال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 336، ط. عالم الكتب). ويُسمَّى أيضًا بطواف الصَّدر؛ لصدوره عنه أي رجوعه.
قد اتفق الفقهاء على أن من أدَّى طواف الوداع ثم عمل عملًا لا يُدخله في معنى الإقامة بمكة؛ كقضاء حاجةٍ في طريقه أو شراء زادٍ لطريقه، أو بسبب من أسباب الخروج أو السفر لم تلزمه الإعادة، ولم يخرج طوافه بذلك عن أن يكون آخر عهده بالبيت؛ لأن الانشغال بأسباب السفر انشغال بالسفر.
قال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (5/ 339): [فأما إن قضى حاجةً في طريقه، أو اشترى زادًا أو شيئًا لنفسه في طريقه، لم يُعِدْهُ؛ لأنَّ ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك، والشافعي، ولا نعلم مخالفًا لهما] اهـ.
وبهذا جاءت النصوص الفقهية من أرباب المذاهب المتبعة، على تفصيلٍ بينها في ضابط ما تحصل به الإقامة عند كل مذهب:
فنص الحنفية على أنَّ من طاف طواف الوداع ثم تشاغل بعدَه بغيره يكفيه طوافه ولا يعيده؛ لأن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكًا لا مكثًا، فإذا تأخر السفر عن الوداع فهو غير مستنكر عرفًا؛ فيكون له ذلك شرعًا؛ لأن الشأن فيمن طاف للوداع أنه على عزْم الرجوع، ولا يجب عليه إعادته مهما طال مكثه، وضابط الإقامة التي تستوجب إعادة الطواف عندهم: أن ينوي الإقامة أو يتَّخذ مكةَ دارًا:
قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 143، ط. دار الكتب العلمية): [فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه؛ حتى لو طاف للصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر، فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلِيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ»؟ فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به، فيجب أن لا يجوز؛ إذ لم يأت بالمأمور به.
فالجواب: أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكًا لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت، وإن تشاغل بغيره.. حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة، ولم ينو الإقامة بها، ولم يتخذها دارًا: جاز طوافه، وإن أقام سنة بعد الطواف، إلا أن الأفضل أن يكون طوافه عند الصدر] اهـ.
وقال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (2/ 503، ط. دار الفكر): [(قوله: لأنه يودع البيت)، ولهذا كان المستحب أن يجعله آخر طوافه. وفي "الكافي" للحاكم: ولا بأس بأن يقيم بعد ذلك ما شاء، ولكن الأفضل من ذلك أن يكون طوافه حين يخرج. وعن أبي يوسف والحسن: إذا اشتغل بعده بعمل بمكة يعيده؛ لأنه للصدر، وإنما يعتد به إذا فعله حين يصدر.
وأجيب بأنه: إنما قدم مكة للنسك، فحين تمَّ فراغه منه جاء أوان الصدر، فطوافه حينئذ يكون له إذا الحال أنه على عزْم الرجوع، نعم رُوِيَ عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء قال: أحب إليَّ أن يطوف طوافا آخر؛ كي لا يكون بين طوافه ونفره حائل، لكن هذا على وجه الاستحباب تحصيلًا لمفهوم الاسم عقيب ما أُضيف إليه، وليس ذلك بحتمٍ؛ إذ لا يستغرب في العرف تأخير السفر عن الوداع، بل قد يكون ذلك] اهـ.
ونصَّ المالكية على أن من طاف للوداع ثم أقام بمكة أو ضواحيها يومًا وليلة لا تلزمه إعادته، وتنتفي الإقامة عندهم بما يحصل به الوداع في العادة، حتى وإن كان في مكانٍ يُتِمُّون فيه الصلاة؛ ففي "المدونة" (1/ 492، ط. دار الكتب العلمية): [سُئلَ الإمام مالك: لو أن كَرِيُّهُمْ أراد بهم الخروج في يوم فَبَرَزَ بِهِمْ إلَى ذِي طوًى فطافوا طواف الوداع، ثم أقام كَرِيُّهُمْ بِذِي طوى يومَه وليلته وبات بها، أكنت ترى عليهم أن يرجعوا فيطوفوا طواف الوداع؟ قال: لا وَلْيَخْرُجُوا] اهـ. وذو طوًى: وادٍ بمكة على بُعدِ فرسخٍ منها، ويعرف الآن بالزّاهر، في طريق التّنعيم.
وقال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (3/ 283، ط. دار الغرب الإسلامي): [ولو ودَّع وبرز إلى ذي طوًى فأقام يومًا وليلة فلا يرجع للوداع وإن كانوا يتمّون الصلاة بها؛ لأنها من مكة، ولأنه وداع في العادة] اهـ.
وذهب الإمام أشهب بن عبد العزيز -من أصحاب الإمام مالك- إلى أن الوداع للنسك لا لمفارقة البيت؛ فمن ودَّع فليس عليه إعادةٌ وإن أقامَ أيَّامًا؛ كما نقله الإمام الباجي المالكي في "المنتقى شرح الموطأ" (2/ 293، ط. مطبعة السعادة).
ونص الشافعية على أن الأصل أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ويعقبه الخروج بلا إقامة، فإن مكثَ بعد الطواف لأسباب السفر والخروج فهو غير مقيم، فلا إعادة عليه؛ لأن الاشتغال بسبب الخروج اشتغال بالخروج، فإن كان لغير عذرٍ: لزمته الإعادة:
قال الإمام الماوردي في "الحاوي" (4/ 536، ط. دار الفكر): [فإن أقام بعد وداعه متشاغلًا بأمره أعاد الوداع، إلا أن يكون ذلك عملًا يسيرًا؛ كتوديع صديق، أو جَمْعِ رَجُل، فلا يعيد الوداع] اهـ.
وقال الإمام الرافعي في "الشرح الكبير" (7/ 412، ط. دار الفكر): [المشغول بأسباب الخروج مشغول بالخروج، غير مقيم] اهـ.
ونص الحنابلة على أن من طاف للوداع ثم مكث لقضاء حاجةٍ، أو شراء زادٍ أو شيٍء لنفسه فلا يعيد طوافه؛ لأن هذا ليس بإقامة، بل لا يخرج عن كونه وداعًا؛ قال الإمام ابن قُدامة الحنبلي في "الكافي" (1/ 530، ط. دار الكتب العلمية): [ويجعل الوداع في آخر أمره؛ ليكون آخر عهده بالبيت، فإن ودَّع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة: لزمته إعادته؛ للخبر، وإن صلى في طريقه، أو اشترى لنفسه شيئًا لم يُعِدْه؛ لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعًا] اهـ.
وقال العلامة برهان الدين بن مفلح الحنبلي في "المبدع" (3/ 233، ط. دار الكتب العلمية): [وقطع في "المغني" و"الشرح" أنه إن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زادًا أو شيئًا لنفسه في طريقه لمْ يعدْه؛ لأن ذلك ليس بإقامة] اهـ.
وعلى ذلك: فالفقهاء وإن اختلفوا في المراد بالوداع: هل هو وداع النسك أو وداع البيت، إلا أنهم متفقون على أن المكث بمكَّة بعد طواف الوداع بسبب الاشتغال بأسباب الخروج لا يتحقق به معنى الإقامة الذي يوجب إعادته، وهذه الأسباب تختلف باختلاف الزمان والأحوال وما يحكم عليه عُرفًا بأنه من مقتضيات الخروج واستعدادات السفر، فيدخل تحته ما يتعلق بالرجوع إلى مكان الإقامة -الفندق-، وانتظار الفوج أو الرفقة التي يسير معها، وانتظار وقت رحلة الطائرة أو المواصلات التي يسافر عليها، وإن استغرق التجهيز يومًا أو أكثر؛ لأن هذا لا يخرج عن كونه خروجًا ووداعًا في العادة.
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فطواف الوداع الذي أديته حصل به طوافك وتوديعكَ البيت، وليس عليك -بإقامتك يومًا بعده في مكة- إعادةُ الطواف؛ لأن هذا لا يُعدُّ إقامةً حقيقية تُخرِجُ طوافَك عن كونه آخر عهدك بالبيت؛ فإنك لم تنو الإقامة، ولم تتخذ مكة المكرمة دارًا للمكث؛ بل كان ذلك لانشغالك بالسفر وارتباطك بتجهيزاته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الوالد رجلٌ كبيرٌ، ما مدى صحة طوافه وعنده تبوُّلٌ وتبرُّزٌ لا إرادي، هل طوافه وسعيه صحيحٌ؟ وهل يجوز له دخول الحرم المكي والحرم النبوي وهو يرتدي الحفاظة الخاصة بالتبول والتبرُّز اللاإرادي؟
هل يجوز للحاج أن يغادر المزدلفة بعد منتصف الليل؟
هل يختص ذبح دم الفدية بوقت معين؟ حيث عزم أحدُ الأشخاص على الحجِّ هذا العام، وسأل: إذا وجب عليه دمُ الفدية بسبب ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام، أو تَرْكِ واجب من واجبات الحج؛ فهل يجب عليه ذبحه بمجرد ارتكابه للمحظور، أو تَرْكِه للواجب، أو له أن يذبحه حسبما تيسر له فيما بعد؟
جمعية خيرية، من أهدافها تيسير رحلات الحج والعمرة لأعضائها، ويقوم مرافقون مع بعثة الحج أو العمرة على تنظيم البعثة وراحتها قبل السفر أو بعده، وتتحمل الجمعية نفقات حج المرافق فردًا كان أو أكثر، كما تقدم الجمعية للحاج دعمًا ماليًّا. وطلب السائل بيان حكم الآتي:
أولًا: هل حج أو عمرة المرافق -المكلف من الجمعية بخدمة أعضائها أثناء الحج والعمرة- من نفقات الجمعية جائز شرعًا؟
ثانيًا: هل يجوز للجمعية أن تتحمل نفقات المرافقين جميعًا دون مخالفة شرعية؟
ثالثًا: هل الدعم الذي تقدمه الجمعية لأعضائها جائز شرعًا؟
نحن شركة نقوم بدور الوساطة بين من يرغب في الحج عن ذويه وبين من يقوم بأداء الحج من المقيمين بالسعودية؛ حيث إننا نرى التكلفة باهظة جدًّا تصل إلى ثلاثين أو أربعين أو خمسين ألف جنيه، وبمناسبة وجودنا بالمملكة العربية السعودية واستطاعتنا تقديم هذه الخدمة فإننا نرغب في التوسط بين راغب الحجِّ عن ذويه وبين بعض الأفراد المقيمين بالسعودية لأدائه الحج؛ وذلك من خلال عقدٍ ملزمٍ بأدائه بالقيام بالحج وأداء القسم وبثمن أقل من ستة آلاف جنيه تقريبًا –تكلفة فعلية- نحن نوكله ونتولى تسهيل القيام له بأداء المناسك؛ فنكون بذلك وسطاء بين من يرغب الحج عن ذويه وبين من يقوم بذلك من خلال الحج الداخلي ضمن حملات داخلية؛ لذلك نرجو الإفتاء شرعًا في سؤالنا.
ما حكم استلام الحجر الأسود باليد بالنسبة للمُحرِم عند الطواف؟ وماذا يفعل عند عدم المقدرة والتَّمكُّن من فعل ذلك؟