ما حكم بيع العين الغائبة الموصوفة؟ فهناك تاجر جملة يتاجر في مواتير المياه يمر بضائقة مالية ويحتاج أموالًا لتنشيط تجارته، عرض على عميل له أن يدفع العميل ثمن عشرة مواتير أو أكثر -موصوفة وصفًا دقيقًا ينفي الجهالة عنها- حالًّا والمواتير ليست عند البائع على أنه كلما احتاج العميل ماتورًا طلبه من التاجر فيحضره إليه من غير تحديد زمن معين لانتهاء هذا التعامل، فهل يجوز هذا التعامل؟
حكم بيع العين الغائبة الموصوفة
إذا كان المبيع مملوكًا للبائع وقت التعاقد فهو من قبيل بيع العين الغائبة وهو جائز على قول جمهور الفقهاء مع ثبوت الخيار للمشتري عند الرؤية، وإن كان المبيع غير مملوك للبائع وقت التعاقد فهو من قبيل السلم؛ فإن كان الأجل محددًا تحديدًا حقيقيًّا أو حكميًّا صح العقد، وإن أطلق العاقدان ولم يحددا أجلًا فإن كان المبيع موجودًا وقت التعاقد انعقد سلمًا حالًا وهو صحيح وإن لم يكن موجودًا وقت التعاقد فلا يصح.
التفاصيل ....المحتويات
- مذاهب الفقهاء في حكم بيع العين الغائبة الموصوفة
- بيان المقصود بعقد السلم والفرق بينه وبين بيع الإنسان لما لا يملكه
- شروط صحة عقد السلم
- الخلاصة
مذاهب الفقهاء في حكم بيع العين الغائبة الموصوفة
هذا التعامل لا يخلو من أمرين: أحدهما: أن تكون السلعة مملوكة للبائع وقت التعاقد، وهي في هذه الحالة من قبيل بيع العين الموصوفة الغائبة عن مجلس العقد؛ وهو من البيوع الجائزة على ما ذهب إليه جمهور فقهاء الحنفية والمالكية وهو المعتمد عند الحنابلة من إحدى الروايتين، مع ثبوت الخيار للمشتري؛ قال العلامة بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (8/ 81، ط. دار الكتب العلمية): [ومن اشترى شيئًا لم يره فالبيع جائز وله الخيار إذا رآه؛ إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء رده] اهـ.
وقال الشيخ الدردير في "الشرح الكبير" (3/ 25، ط. دار الفكر): [(و) جاز بيع (غائب) فهو عطف على عمود إن وصف بل (ولو بلا وصف) لنوعه أو جنسه لكن (على) شرط (خياره) أي المشتري (بالرؤية)] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي في "حاشيته على المرجع السابق نفسه": [(قوله: وجاز بيع غائب) اعلم أن بيع الغائب فيه ست صور؛ لأنه إما أن يباع على الصفة أو بدونها، وفي كل منهما إما أن يباع على البت أو على الخيار أو على السكوت، وكلها جائزة، إلا ما بيع بدون صفة على اللزوم أو السكوت، فقول المصنف: "وجاز بيع غائب" أي على البت أو على الخيار أو السكوت، هذا إذا وصف ذلك المبيع الغائب، بل وإن بلا وصف إن كان البيع على الخيار للمشتري، لا إن كان بتًّا أو على السكوت فإنه لا يجوز] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (3/ 494-496 ط. مكتبة القاهرة): [وفي بيع الغائب روايتان: أظهرهما: أن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه. وبهذا قال الشعبي، والنخعي، والحسن والأوزاعي.. وإسحاق. وهو أحد قولي الشافعي. وفي رواية أخرى، أنه يصح. وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني للشافعي.. وإذا وصف المبيع للمشتري، فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم، صح بيعه في ظاهر المذهب. وهو قول أكثر أهل العلم. وعن أحمد، لا يصح حتى يراه؛ لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع، فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه] اهـ.
ويرى فقهاء الشافعية والرواية الثانية في مقابلة المعتمد عند الحنابلة عدمَ جواز بيع العين الغائبة؛ قال الخطيب الشربيني الشافعي في "الإقناع" (2/ 274، ط. دار الفكر): [(و) الثالث (بيع عين غائبة) عن مجلس العقد أو حاضرة فيه (لم تشاهد) للعاقدين (فلا يجوز) للنهي عن بيع الغرر] اهـ.
بيان المقصود بعقد السلم والفرق بينه وبين بيع الإنسان لما لا يملكه
ثانيهما: أن تكون السلعة غير مملوكة للبائع وقت التعاقد، وهي في هذه الحالة من قبيل السلم.
والسلم: اسْمٌ لِعَقْدٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الثَّمَنِ عَاجِلًا وَفِي الْمُثَمَّنِ آجِلًا، أو هو بيع شيء موصوف في الذمة. ينظر: "أسنى المطالب" (2/ 122).
والسلم من العقود التي أباحتها الشريعة الإسلامية والأصل فيه قبل الإجماع؛ قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [البقرة: 282]. فهذه الآية نزلت في السلم خاصة؛ وهذا قول عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما. ينظر "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي" (3/ 377).
ولما رواه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال: «مَنْ سلف فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُوم إِلَى أجلٍ مَعْلُوم».
ولا يدخل السلم في بيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه في حديث حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه: "نَهَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي"؛ لأن السلم بيع صفة مضمونة على بائعها أما بيع ما ليس عند الإنسان فهو بيع شيء بعينه لا يملكه البائع؛ يقول الإمام الشافعي في "اختلاف الحديث" -مطبوع ملحقا بـ"الأم للشافعي"- (8/ 664، ط. دار المعرفة): عن الفرق بين السلم وبيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه: [فأما حديث حكيم بن حزام، فإن رسول الله نهاه -والله أعلم- عن أن يبيع شيئا بعينه لا يملكه، والدليل على أن هذا معنى حديث حكيم بن حزام -والله أعلم- حديث أبي المنهال عن ابن عباس أن رسول الله أمر من سلف في تمر سنتين أو ثلاثًا أن يسلف في كيل معلوم ووزن معلوم، وهذا بيع ما ليس عند المرء، ولكنه بيع صفة مضمونة على بائعها، وإذا أتى بها البائع لزمت المشتري، وليست بيع عين، بيع العين إذا هلكت قبل قبض المبتاع انتقض فيها البيع، ولا يكون بيع العين مضمونًا على البائع فيأتي بمثله إذا هلكت] اهـ.
شروط صحة عقد السلم
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لصحة السلم أن يكون الأجل الذي يوفَّى فيه المسلم فيه معلومًا؛ لقول سيدنا رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام مسلم في "صحيحه": «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، فقد أَوْجَبَ معلومية الأجل.
وتحديد الأجل إما أن يكون حقيقة أو حكمًا؛ فالحقيقي يحصل بتحديد يوم معين أو شهر معين، والحكمي يحصل بأن يكون للمتعاقدين عادة بوقت القبض كأرباب المزارع فَإِنَّ عَادَةَ الْقَبْضُ عندهم عِنْدَ حَصَادِ الزَّرْعِ، وأرباب الثمار فإن عادة القبض عندهم زَمَنَ جَذِّ الثِّمَارِ.
وقد اتفق الفقهاء على اعتبار التحديد الحقيقي، أما التحديد الحكمي فقد اختلفوا في اعتباره؛ فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية إلى عدم اعتباره، وذهب المالكية والحنابلة في الرواية الثانية إلى اعتباره؛ يقول الشيخ الدردير في "الشرح الكبير" (3/ 205، ط. دار الفكر) [(و) الشرط الثالث (أن يؤجل) أي السلم بمعنى المسلم فيه (بمعلوم) أي بأجل معلوم للمتعاقدين ولو حكما كمن لهم عادة بوقت القبض وإلا فسد] اهـ.
قال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على المرجع السابق نفسه": [(قوله وأن يؤجل) أي لأجل أن يسلم من بيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه، بخلاف ما إذا ضرب الأجل؛ فإن الغالب تحصيل المسلم فيه في ذلك الأجل فلم يكن من بيع الإنسان ما ليس عنده؛ إذ كأنه إنما بيع ما هو عنده عند الأجل، واشترط في الأجل أن يكون معلومًا ليعلم منه الوقت الذي يقع فيه قضاء المسلم فيه، والأجل المجهول لا يفيد؛ للغرر، وإنما حد أقل الأجل بخمسة عشر يومًا؛ لأنها مظنة اختلاف الأسواق غالبًا، واختلافها مظنة لحصول المسلم فيه فكأنه عنده (قوله كمن لهم عادة بوقت القبض) أي فلا يحتاج لضرب الأجل، وذلك كأرباب المزارع وأرباب الألبان وأرباب الثمار؛ فإن عادة الأول القبض عند حصاد الزرع، وعادة من بعدهم الوفاء بدفع ما عليهم زمن الربيع وزمن جذ الثمار] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة في "المغني" (3/ 494-496 ط. مكتبة القاهرة): [لا بد من السلم كون الأجل معلومًا السلم؛ لقوله تعالى: ﴿إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [البقرة: 282]. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»، ولا نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلافًا فأما كيفيته فإنه يحتاج أن يعلمه بزمان بعينه لا يختلف، ولا يصح أن يؤجله بالحصاد والجزاز وما أشبهه. وكذلك قال ابن عباس، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن المنذر. وعن أحمد، رواية أخرى، أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وبه قال مالك وأبو ثور وعن ابن عمر: أنه كان يبتاع إلى العطاء. وبه قال ابن أبي ليلى. وقال أحمد: إن كان شيء يعرف فأرجو، وكذلك إن قال: إلى قدوم الغزاة. وهذا محمول على أنه أراد وقت العطاء؛ لأن ذلك معلوم فأما نفس العطاء فهو في نفسه مجهول يختلف ويتقدم ويتأخر. ويحتمل أنه أراد نفس العطاء؛ لكونه يتفاوت أيضًا، فأشبه الحصاد. واحتج من أجاز ذلك، بأنه أجل يتعلق بوقت من الزمن، يعرف في العادة، لا يتفاوت فيه تفاوتا كثيرا، فأشبه إذا قال: إلى رأس السنة. ولنا ما روي عن ابن عباس، أنه قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد] اهـ.
ولو أطلق المتعاقدان في السلم ولم يحددا أجلًا حقيقيًّا أو حكميًّا بأن لم تكن لهم عادة في القبض فإن الحنفية والمالكية والحنابلة يرون عدم صحة السلم في هذه الحالة، أما الشافعية فإنهم يفرقون بين ما إذا كان المبيع موجودًا لدى البائع أو غير موجود؛ فإن كان موجودًا انعقد السلم حالا في الصحيح عندهم –وانعقاد السلم حالا جائز عند الشافعية- وإن كان غير موجود لم يصح السلم؛ قال الإمام النووي في "منهاج الطالبين" (1/ 110، ط. دار الفكر): [ويصح حالا ومؤجلا؛ فإن أطلق انعقد حالا، وقيل: لا ينعقد] اهـ.
ويقول العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 8، ط. دار الكتب العلمية): [(فإن أطلق) عن الحلول والتأجيل وكان المسلم فيه موجودًا (انعقد حالا) كالثمن في البيع المطلق والأجرة، فإن لم يكن المسلم فيه موجودًا لم يصح (وقيل لا ينعقد) ؛ لأن المعتاد في السلم التأجيل فحمل المطلق عليه، فيكون كما لو ذكر أجلًا مجهولًا، وعلى الأول لو ألحقا به أجلًا في المجلس لحق على الأصح كما يجوز تعيين رأس المال فيه، ولو صرحا بالأجل في العقد ثم أسقطاه في المجلس سقط وصار العقد حالًا، ولو حذفا فيه المفسد لم ينقلب العقد الفاسد صحيحًا] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا كان المبيع مملوكًا للبائع وقت التعاقد فهو من قبيل بيع العين الغائبة وهو جائز على قول جمهور الفقهاء مع ثبوت الخيار للمشتري عند الرؤية، وإن كان المبيع غير مملوك للبائع وقت التعاقد فهو من قبيل السلم؛ فإن كان الأجل محددًا تحديدًا حقيقيًّا أو حكميًّا صح العقد، وإن أطلق العاقدان ولم يحددا أجلًا؛ فإن كان المبيع موجودًا وقت التعاقد انعقد سلمًا حالا وهو صحيح، وإن لم يكن موجودًا وقت التعاقد فلا يصح.
والله سبحانه وتعالى أعلم.