الهبة المشروطة في بنك ناصر

الهبة المشروطة في بنك ناصر

الطلب المُقدَّم من السيد نائب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب ببنك ناصر الاجتماعي، والمتضمن: نتشرف بإحاطة سيادتكم بقيام البنك بتقديم منتج جديد لعملاء بنك ناصر الاجتماعي بإتاحة حساب الهبة المشروطة تحت شعار "هب لمن تحب، ودع الأمر لنا".
ونظرًا لاستراتيجية بنك ناصر لجذب شريحة من العملاء التي تمثل خدماتهم خدمات مجتمعية أسرية وبشرط توافقها مع الشريعة الإسلامية الغراء وهي عبارة عن حساب هبة من الأب/ الابن (القاصر/ البالغ). وذلك بالشروط والكيفية التالية (للعميل الحق في اختيار أي شرط من الشروط واستبعاد ما يراها غير ملائمة):
1. (غل - عدم غل) يد الموهوب له من التصرف في الشهادات أو الودائع أو الأوعية الادخارية محل هذه الهبة (طيلة حياتي/ لحين بلوغ القاصر سن الرشد).
2. (غل - عدم غل) يد الموهوب له البالغ من صرف العائد الناتج من الشهادات أو الودائع أو الأوعية الادخارية محل هذه الهبة.
3. احتفاظي بحقي في التصرف في هذه الشهادات أو الودائع أو الأوعية الادخارية محل هذه الهبة في أي وقت وذلك طيلة حياتي ودون الرجوع إلى الموهوب له إطلاقًا حتى بعد بلوغه سن الرشد؛ بحيث تصبح الهبة حقًا خالصًا للموهوب له بعد وفاتي.
4. احتفاظي بحقي في صرف العائد الناتج من الشهادات أو الودائع أو الأوعية الادخارية المختلفة بصفة دورية ومنتظمة ومستمرة، وبدون أي موافقة من الموهوب له، وذلك (طيلة حياتي/ لحين بلوغ القاصر سن الرشد).
5. يتم تجديد الشهادات أو الودائع أو الأوعية المختلفة محل هذه الهبة، بصفة دورية ومنتظمة طيلة حياتي، وبنفس الشروط والكيفية المبينة بالطلب المذكور أعلاه.
6. احتفاظي بحقي في الاقتراض من البنك بضمان الأموال محل هذه الهبة.
7. احتفاظي بحقي في كفالة الغير لصالح البنك، بضمان الأموال محل هذه الهبة.
يقوم العميل بالتوقيع على الهبة ويقوم الموهوب له بالتوقيع بقبول الهبة.
والأمر معروض على سيادتكم للتفضل بالاطلاع والتوجيه. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام والتقدير. 

التعامل بحساب الهبة المشروطة في بنك ناصر الاجتماعي تحت شعار "هب لمن تحب، ودع الأمر لنا" جائز شرعًا، ولا مانع من اختيار الواهب المتعامل معه لأي بند من بنوده السبعة؛ انتقاءً منها أو جمعًا بينها؛ فما تضمنته البنود الثلاثة الأولى والبند الخامس: مبني على حصول العقد بين الواهب والموهوب له، مع إيقاف لزومه وثبوت ملك الموهوب فيه على إذن الواهب بالتسليم والقبض والحيازة، وهذا يتلاقى مع مذهب الجمهور الذين يشترطون القبض في لزوم العقد وثبوت الملك، ويشترطون إذن الواهب بالقبض، وهو المعمول به إفتاءً وقضاءً.
كما أن البنود الرابع والسادس والسابع: تجري على ما رجحه كثير من الفقهاء من صحة الهبة المشروطة وجوازها، وهو المعمول به في مصر إفتاءً وقضاءً.
إلا أننا نرى أن يصاغ شرط "غل يد الموهوب له عن التصرف" على نحو: "اتفاق طرفي الهبة على تأجيل تسليمها وتأخير القبض مدةَ حياة الواهب"؛ تحرزًا مما يوهمه لفظ "غل اليد عن التصرف" من تنافٍ مع صحة الملكية. 

التفاصيل ....

الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، ولا بُدَّ فيه مِن معرفة المحكوم فيه؛ معرفةً تستوفيه، والحساب موضوع السؤال يشتمل على معانٍ وتصرفات متعددة؛ يُحتاج إلى بيانها تفصيلًا، للوقوف على تكييف الفقهاء لها تأصيلًا، ومذاهبهم وأقوالهم فيها تدليلًا وتعليلًا.
فهو حساب هبة، مشروطة، من الوالد إلى ولده، القاصر أو البالغ، يتفق الطرفان (الواهب والموهوب له) على عقده بشروط معينة؛ يمكن التَّخَيُّرُ منها، ويمكن أخذُها جملةً واحدةً، وحاصل هذا الشروط -بالنظر لأثرها على عقد الهبة- يرجع إلى ستة:
1. منع الموهوب له (قاصرًا كان أو بالغًا) من التصرف في أصل الهبة طيلةَ حياة الواهب.
2. منع الموهوب له القاصر من التصرف في أصل الهبة لحين بلوغه سن الرشد.
3. منع الموهوب له البالغ من صرف عوائد الهبة.
4. منح الواهب حق التصرف طيلة حياته في أصل الهبة وتجديدها، والاقتراض وكفالة الغير بضمانها، دون رجوع للموهوب.
5. اشتراط صرف الواهب لعوائد الهبة طيلة حياته.
6. اشتراط صرف الواهب لعوائد الهبة حتى يبلغ الموهوب له سن الرشد.
وهذا يتطلب بيان ماهية عقد الهبة عند الفقهاء، وذكر مقصوده، وغايته، والفرق فيه بين الانعقاد بالقول، وتمام الملك بالقبض، ومذاهب العلماء في مدى التزام الواهب بالتسليم والتخلية بين الموهوب له والهبة ليقبضها، وأقوالهم في جواز رجوع الوالد في هبته لولده، وحكم الاشتراط في الهبة، والفرق بين ما يقبل وما لا يقبل من الشروط، إلى غير ذلك من المباحث الفقهية المحتاج إليها في هذا الصدد؛ للوقوف على مدى انطباق هذا الحساب وشروطه على عقد الهبة الشرعي وشروطه.
فالأصل المقرر شرعًا: أن الإنسان ما دام كامل الأهلية، فهو حر التصرف فيما يدخل تحت ملكه؛ ببيعه أو هبته أو وقفه أو إجارته أو غير ذلك من التصرفات الشرعية التي هي فرع عن الملك؛ وقد روى الدارقطني والبيهقي عن حِبَّان بن أبي جَبَلَة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّ أَحَدٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فهذا الحديث يقرر أصل إطلاق تصرف الإنسان في ماله، ومن ذلك: تصرفُه بالهبة.
ومقصود عقد الهبة: التمليكُ من الواهب، وغايته: التملُّكُ للموهوب له؛ فالتمليك من ماهية العقد؛ إذ عقد الهبة عند الحنفية: تمليك العين بلا عوض؛ كما في "كنز الدقائق" (ص: 536، دار البشائر)، وقد تكون بعوض؛ كما في المادة (77) من "مرشد الحيران" للعلامة محمد قدري باشا.
وعند المالكية: تمليك عين في حال الحياة؛ كما في "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 674، ط. دار ابن حزم).
وعند الشافعية: التمليك لعين بلا عوض في حال الحياة تطوعًا؛ كما في "مغني المحتاج" (2/ 396، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: تمليكٌ في الحياة بغير عوض؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (6/ 41، ط. مكتبة القاهرة).
فإذا تمت أركان العقد (بالإيجاب والقبول) صحت الهبةُ، وتحقَّقَ وجودُها شرعًا؛ أي: صح تمليك الموهوب للموهوب له عند جميع الفقهاء؛ ضرورة أن التمليك ركن التعريف عندهم؛ سواء قصرنا الركنية على الإيجاب وجعلنا القبول شرطًا؛ كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، أو كان القبول ركنًا أيضًا؛ كما هو مذهب زُفَرَ من أصحابه وعامة الفقهاء.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (6/ 115، ط. دار الفكر): [أما ركن الهبة: فهو الإيجاب من الواهب، فأما القبول من الموهوب له: فليس بركن استحسانًا، والقياس أن يكون ركنًا، وهو قول زفر، وفي قولٍ قال: القبض أيضًا ركن] اهـ.
- غير أن جمهور الفقهاء يفرقون بين صحة التمليك وتمام الملك، فيثبتون صحةَ التمليك بالقول، ويُوقِفُون تمامَ الملك على القبض؛ فلا يثبت الملكُ التام فيها للموهوب له إلا بالقبض التام، وإن كان العقد صحيحًا؛ لأنهم استصحبوا فيها معنى التبرع بعد صحة العقد إلى تمامه بالقبض.
- ومن العلماء من جعل ملك الهبة حاصلًا بالعقد وإن لم يحصل قبضٌ، وهذا قولٌ قديمٌ للإمام الشافعي، ومذهب أهل الظاهر، وابن أبي ليلى، وأبي ثور، ورواية عن الإمام أحمد في غير المكيل والموزون، والرواية الأخرى موافقة للجمهور في اشتراط قبض كل هبةٍ لتمام الملك.
وحجة الجمهور في اشتراط القبض في تمام ملك الهبة للموهوب له: أنه المرويٌّ عن الخلفاء الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولا يُعرَف لهم مخالف من الصحابة.
فعن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه نَحَلَها جُذَاذَ عشرين وَسْقًا مِن ماله بالعالية، فلما مرض قال: "يا بُنَيّة، ما أحد أحب إليَّ غنًى بعدي منكِ، ولا أحدٌ أعزّ عليَّ فقرًا منكِ، وكنتُ نحلتُكِ جُذَاذَ عشرين وسقا، وودِدْتُ أنكِ حُزْتِيه أو قَبَضْتِيه، وهو اليومَ مالُ الوارث؛ أخواك وأختاك، فاقتسموا على كتاب الله عز وجل" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما".
وعن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما بالُ رجالٍ يَنْحَلُونَ أبناءَهم نُحْلًا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي؛ لم أعطه أحدًا، وإن مات هو قال: هو لابني؛ قد كنت أعطيته إياه! من نحل نحلة، فلم يَحُزْها الذي نُحِلَها حتى تكون إن مات لورثته: فهي باطل" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في "مصنفيهما"، زاد ابن أبي شيبة: "لا نِحْلَةَ إلَّا نِحْلَةً يَحُوزُها الولدُ دونَ الوالد".
قال الإمام الموفَّق بن قدامة الحنبلي في "المغني" (6/ 44): [وهو قول أكثر أهل العلم، قال المرُّوذِي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة. ويُروَى ذلك عن النخعي والثوري والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأي] اهـ.
والجمهور القائلون باشتراط القبض لتمام الملك: لهم قولان في إلزام الواهب بتسليم الهبة:
القول الأول: أن صحة عقد الهبة لا تستلزم إلزام الواهبِ بتسليمها، ولا يجوز للموهوب له قبضُها إلا بإذنه؛ فلو قبضها دون رضاه لم يصح، وهذا مذهب أكثر الفقهاء؛ من الحنفية والشافعية، وهو مذهب الحنابلة في المكيل والموزون، وقولٌ عندهم في كل هبة.
غير أن الحنفية يجعلون للواهب حق الرجوع في الهبة ولو قبضها الموهوب له؛ استصحابًا لمعنى التبرع فيها وأنها عقدٌ غير لازم حتى بعد القبض، إلا لمانعٍ خارجي؛ كأن يتعلق بها حق.
أما الشافعية ومعهم الحنابلة: فيجعلون الهبة لازمة بعد القبض، ويمنعون الواهب من الرجوع فيها.
قال العلامة أحمد إبراهيم بك في "التزام التبرعات" في بيان مذهب الحنفية:
[فقبلَ القبض يكون للواهب أن يبطل هبته بلا شرط ولا قيد، وأن يتصرف في الشيء الموهوب أي تصرف شـــاء، من بيع وهبة وغير ذلك؛ إذ موانع الرجوع في الهبة لا عمل لها إلّا بعد ذلك القبض.. وليس للموهوب له أن يتصرف في الشيء الموهوب قبل أن يدخل في ملكه بالقبض التام؛ وذلك لأنه أجنبي عنه، وليس له ولا لورثته من بعده أن يطالبوا الواهب بالهبة؛ وذلك لعدم لزومها بالقبول.
ولا بد من اتحاد مجلس الإيجاب والقبول؛ كما هو الشأن في كل عقود التمليكات.
ولا بد من إذن الواهب في قبض الشيء الموهوب إذا لم يكن حاضرًا بمجلس العقد إذنًا صريحًا وإلا كان قبضه باطلًا، أما إذا كان حاضرًا بمجلس العقد فإنه يكتفى بالإذن دلالةً استحسانًا، وذلك بألا ينهى الواهب الموهوب له عن قبضه، ولا يعترضه إذا قبضه، حتى إذا نهاه عن القبض فلا يجوز له بعد ذلك؛ وذلك لأن النهي صريح، وهو يفوق الدلالة] اهـ من "مجموعة مقالات وبحوث العلامة أحمد بك إبراهيم" (2/ 128، ط. دار الفلك).
وقال في تقرير المعتمد عند الشافعية (2/ 129): [القول المعتمد في مذهب الشافعي: أن ملك الموهوب له في الهبة لا يثبت إلا بقبضه، والقبض لا يصح إلا بإذن الواهب؛ لأنه سببٌ لنقل الملك، فلا يجوز من غير رضا المالك] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (6/ 42):
[والواهب بالخيار قبل القبض، إن شاء أقبضها وأمضاها، وإن شاء رجع فيها ومنعها، ولا يصح قبضها إلا بإذنه، فإن قبضها الموهوب له بغير إذنه لم تتم الهبة، ولم يصح القبض.
وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا قبضها في المجلس صح وإن لم يأذن له؛ لأن الهبة قامت مقام الإذن في القبض، لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذي لا يتم إلا بالقبض.
ولنا: أنه قبض الهبة بغير إذن الواهب، فلم يصح، كما بعد المجلس، أو كما لو نهاه عن قبضها، ولأن التسليم غير مستحق على الواهب، فلا يصح التسليم إلا بإذنه، كما لو أخذ المشتري المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه. ولا يصح جعل الهبة إذنًا في القبض، بدليل ما بعد المجلس. ولو أذن الواهب في القبض ثم رجع عن الإذن، أو رجع في الهبة: صح رجوعه؛ لأن ذلك ليس بقبض، وإن رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه؛ لأن الهبة تمت] اهـ.
القول الثاني: أن صحة العقد تُلزِمُ الواهبَ بالتسليم؛ فللموهوب له أن يقبضها بغير إذن الواهب وينتقل الملك إليه، وله أن يجبره على التسليم بالقضاء، وهو المشهور من قول المالكية.
قال الإمام أبو البركات الدردير المالكي في "الشرح الكبير" (4/ 101، ط. دار الفكر): [(وحِيزَ) الشيءُ الموهوبُ، لتتم الهبةُ؛ أي: تَحصُلَ الحيازةُ عن الواهب، التي هي شرط في تمامها (وإنْ بلا إذن) من الواهب، ولا يُشترَطُ التحويزُ (وأُجبِرَ) الواهبُ (عليه) أي: على الحَوْزِ؛ أي: على تمكين الموهوب له منه حيث طلبه؛ لأن الهبةَ تُمْلَكُ بالقول على المشهور؛ فله طلبُها منه حيث امتنع، ولو عند حاكم ليُجبرَه على تمكين الموهوب له منها، قال ابن عبد السلام: القبول والحيازة معتبران، إلا أن القبول ركن والحيازة شرط] اهـ.
قال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته" عليه:
[(قوله: أي تَحصُل الحيازةُ عن الواهب) أي: وتحصل حيازةُ الموهوبِ له للشيء الموهوبِ إذا حصل إذنٌ من الواهب، بل وإن بلا إذن من الواهب.
(قوله: التي هي شرطٌ في تمامها) أي: فإن عُدِمَ لم تلزم مع كونها صحيحةً.
(قوله: ولا يُشترَطُ التَّحْويزُ) أي: تسليمُ الواهب للموهوب له.
(قوله: على المشهور) وقيل: إنما تُملَكُ بالقبض.
(قوله: ركن) أي شرط في صحتها فتبطل الهبة بعدمه.
(قوله: شرط) أي في تمامها؛ فإن عُدِمَ لم تلزم وإن كانت صحيحةً] اهـ.
وقال العلامة أحمد إبراهيم بك في "تلخيص مذهب المالكية" (2/ 126): [والحاصل: أن الهبة عند مالك وأصحابه تلزم بالقول، لكن لا يدخل الشيء الموهوب في ملك الموهوب له إلا بالحيازة أو ما يقوم مقامها قبل وجود الموانع، فإذا تراخى الموهوب له عن الحيازة وما في حكمها حتى وجد مانع من الموانع بطلت الهبة أو توقفت على زوال المانع] اهـ.
وجاء في كتاب "المقارنات التشريعية" للعلامة سيد حسين (4/ 1499، ط. دار السلام): [وتصح الهبة بالقول، وتتم بالحيازة، والقبول شرط فيها؛ فالقبول والحيازة معتبران؛ إلا أن القبول ركن، والحيازة شرط في تمامها، وإن كانت الحيازة بدون إذن الواهب وأجبر الواهب على تمكين الموهوب له أو ولي أمره من الحيازة قضاء أو إداريًّا من الحاكم] اهـ.
وفي بيان مأخذ القولين في إيجاب التسليم على الواهب وعدمه يقول العلامة علي الخفيف في كتابه "التصرف الانفرادي" (ص: 160-161، ط. دار الفكر العربي):
[وعلى ما ذهب إليه فقهاء الشريعة: يرى أن التزام الواهب بما التزم به لا يجب عليه أن يمضي فيه، بل يجوز له العدول عنه قولًا أو فعلًا متى كان ذلك قبل القبض؛ وذلك بأن يتصرف في الموهوب فيخرجه عن ملكه مثلًا، ونتيجة ذلك: أن الواهب لا يطالَبُ قضاءً بتسليم ما وهبه إلى الموهوب له؛ لأن ذلك ليس واجبًا عليه قضاءً، ولا مطالبةَ إلا بواجب..
وذهب مالك وأصحابه: إلى أن الواهب لا يملك العدول عن التزامه في الهبة؛ فلا يملك الرجوع عن إيجابه بها، سواء أكان الموهوب له -وهو مَن وُجِّه إليه الإيجابُ- حاضرًا أو غائبًا، عالمًا بالهبة أو جاهلًا بها، فإن امتنع عن تسليم الموهوب إلى الموهوب له أُجبرِ على التسليم بقضاء القاضي، حتى لو تَسَلَّم الموهوبُ له المالَ الموهوبَ بدون إذن الواهب ولو جبرًا عنه: صح تسلمه وتم له الملك فيه.
ذلك لأن الأصل عند مالك وأصحابه: أن المعروف لازم لمن أوجبه على نفسه، ما لم يمنع من ذلك مانع، والهبة نوع من المعروف، وهي تتحقق بالإيجاب وحده على ما بينّا.
وعلى هذا الرأي يظهر أنها التزام يتم بالإرادة المنفردة.
أما على قول الجمهور: فللواهب أن يرجع عن إيجابه كما هو الشأن في جميع عقود التمليكات، ولا يجبر على تسليم الموهوب؛ إذ إنه متبرع محسن، وما على المحسنين من سبيل، وعلى ذلك: ليس للموهوب له أن يقبض الموهوب بدون رضاه، وإذا فعل ذلك كان غاصبًا] اهـ.
وكون الحساب المذكور هبةً بين الوالد وولده القاصر أو البالغ: يجعل الرجوع في الهبة جائزًا عند الجمهور: بعد انعقادها وقبل قبضها، وبعد انعقادها وقبضها أيضًا؛ فإن للعلماء في جواز الرجوع في الهبة بين ذوي الأرحام ثلاثةَ أقوال:
الأول: منع الرجوع فيها، وهو قول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد؛ لِمَا رواه الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يُرْجَعْ فِيهَا» أخرجه الدارقطني في "السنن"، والحاكم في "المستدرك" وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه".
الثاني: جواز الرجوع في الهبة للأب وسائر الأصول، وذلك ما دامت الهبة باقية في سلطة الموهوب له، وهو قول الشافعية.
الثالث: جواز الرجوع للوالدين وحدهما، إلا أن الأم لا ترجع على ابنها اليتيم حتى يبلغ، وهو قول المالكية وظاهر مذهب الحنابلة.
ودليل هذين القولين: حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
قال الإمام أبو الوليد ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (2/ 333، ط. البابي الحلبي):
[ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب: جوازُ الاعتصار في الهبة؛ وهو الرجوع فيها:
فذهب مالك وجمهور علماء المدينة: أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه، ما لم يتزوج الابن، أو لم يستحدث دَيْنًا، أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق للغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيًّا، وقد روي عن مالك: أنها لا تعتصر.
وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لأحد أن يعتصر ما وهبه، وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه، إلا ما وهب لذي رحم محرمة عليه] اهـ.
وفي بيان مذهب المالكية يقول العلامة سيد حسين في كتاب "المقارنات التشريعية" (4/ 1500-1501):
[يكون تجرد الواهب ويسار الموهوب له بدون رجوعٍ أصالةً، ولكن يجوز أولًا: للأب اعتصار الهبة (استرجاعها) من الولد الحر الذكر والأنثى، صغيرًا أو كبيرًا، غنيُّا أو فقيرًا، وكذلك للأم حق اعتصار ما وهبت لولدها؛ بشرط أن يكون صغيرًا ذا أب؛ فلا اعتصار من يتيم، فإن وهبت كبيرًا فلها الرجوع، ويشترط في صحة الرجوع للوالدين: أن لا تكون الهبة لثواب الآخرة، وإلا فلا اعتصار لهما.
ثانيًا: يجوز للواهب الرجوع في الهبة متى اشترط الرجوع فيها؛ سواء أكان الموهوب له قريبًا أم أجنبيًّا. وقال بعض المتشرعين: لا يجوز الرجوع في الهبة مع شرط الرجوع] اهـ.
وإذا جاز رجوع الوالد في هبته لولده بالشرع، فجوازه بالشرط من باب أولى.
والمراد بكون الحساب المذكور هبةً مشروطةً: أن الهبة فيه مقترنة بشرط، لا أنها معلقة على شرط، واقتران الهبة بالشرط هو: أن يزاد على عقد الهبة شرط فيه فائدة لأحد العاقدين أو لغيرهما زيادةً على ما يقتضيه العقد، والفرق بين التعليق والشرط -كما قال الإمام الزركشي في "المنثور" (1/ 370، ط. وزارة الأوقاف الكويتية)-: [أن التعليق: ما دخل على أصل الفعل بأداته؛ كإنْ وإذا. والشرط: ما جُزِمَ فيه بالأصل، وشُرِطَ فيه أمرٌ آخرُ] اهـ.
وقال العلامة الحموي الحنفي في "غمز عيون البصائر" (4/42، ط. دار الكتب العلمية):
[وإن شئت فقل في الفرق:
إن التعليق: ترتيبُ أمرٍ لم يُوجَدْ على أمرٍ يُوجَدُ؛ بإِنْ أو إحدى أخواتها.
والشرط: التزام أمرٍ لم يُوجَدْ في أمرٍ وُجِدَ، بصيغة مخصوصة] اهـ.
والذي تقتضيه مستجدات العصر وتطور وسائله أن الأصل العام في العقود والشروط هو الصحة، ما لم تكن متنافية مع الشرع أو مقتضى العقد، والأمر الشرعي جاء بالوفاء بالعقود والشروط على جهة الإطلاق والعموم، فإبطال الشروط بلا دليل تقييد لما أطلقه الشرع، وتضييق لما وسَّعه على الناس؛ لأن العقود والشروط معاملات مرتبطة بعادات الناس، وتغير العادات: يقتضي تجديد النظر في المصالح والمآلات، والأصل أن العاقدين لا يشترطان شرطًا وإلا ولأحدهما مصلحة فيه يسعى في جلبها أو مضرة يريد دفعها؛ كما قرره الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "ابن حنبل: حياته وعصره وآراؤه الفقهية" (ص: 392، ط. دار الفكر العربي).
يقول فقيه عصره العلامة أحمد إبراهيم بك في بحثه "العقود والشروط والخيارات" (المنشور في "مجلة القانون والاقتصاد"، العدد الأول، سنة 1934م، ص: 709): [الأصل العظيم الذي ينبغي أن يكون الأساس الذي تبنى عليه مسائل الشروط والعقود جميعها هو: أن كل عقد وكل شرط لم ينه الشارع عنه فهو جائز؛ فالأصل في العقودِ والشروطِ الصحةُ، حتى يقوم الدليلُ على البطلان؛ فإذا عقد عاقد عقدًا، أو شرط شارط شرطًا، فقيل له: عقدك أو شرطك باطل أو فاسد، فعلى مدعي البطلان أو الفساد الدليلُ، وأما العاقد والشارط فليس على أحدهما عبء شيء من ذلك؛ لتمسك كل منهما بالإذن العام؛ حيث لم يرد عن الشارع نص بالمنع والتحريم، فإذا روعي هذا في التشريع كان فيه فتح باب خير عظيم على الناس] اهـ.
وتصحيح الشروط في عقود التبرعات آكد وأولى؛ فإن تصرف الفقهاء من مختلف المذاهب الفقهية جارٍ على أن الأصل هو جواز الاشتراط في الهبة ما لم يكن الشرط منافيًا لمقتضى العقد، وهو قول المحققين، وهذا ما عليه الفتوى والعمل؛ لأن الهبة من باب التبرعات، وقد تقرر في قواعد الفقه أنه يجوز في عقود التبرعات ما لا يجوز في المعاوضات؛ لأن التبرعات مبناها على الإرفاق، وهو مقصد تتشوف له الشريعة، والمالكية والحنابلة أكثر المذاهب توسعًا في ذلك؛ فربما كان الشرط فاسدًا في باب البيوع، فإذا اشتُرِطَ عندهم في الهبة صح العقد والشرط، ولا يكون الشرط فاسدًا حتى ينافي مقتضى الهبة، وإذا فسد الشرط لم يكن هذا مؤديًا إلى فساد العقد، بل يصح العقد ويبطل الشرط حينئذٍ؛ كما فصَّله العلامة الحطاب المالكي (ت954هـ) في كتابه "تحرير الكلام في مسائل الالتزام" (ص: 401، ط. دار الغرب الإسلامي).
قال مفتي تونس الإمام المقرئ الفقيه أبو القاسم الغبريني المالكي (ت بعد 770هـ): [يجوز في التبرعات -كالهبة، والصدقة، والوصية، حتى ما خرج منها مخرج المعروف وإن كان من باب المعاوضات- ما لا يجوز في المعاوضات والمكايسات] اهـ بتصرف يسير، نقلًا عن العلامة الونشريسي المالكي (ت914هـ) في "المعيار المعرب" (9/ 271، ط. دار الغرب الإسلامي).
وهذا يبين مدى موافقة الشروط المذكورة في حساب الهبة المشروطة لعقد الهبة الشرعي:
فأما اتفاق الطرفين على منع الموهوب له القاصر من التصرف في أصل الهبة إلى بلوغه سن الرشد: فلا ينافي صحتها، بل هو الأصل الذي أُمِر به الأولياء في أموال القُصَّر؛ حفاظًا عليها، ورعاية فيها، واستبقاءً لها؛ قال تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، وقد نص على ذلك الإمامٌ مالك في "المدوَّنة" (4/ 406، ط. دار الكتب العلمية).
وأما اتفاق الطرفين في عقد الهبة على منع الموهوب له (قاصرًا كان أو بالغًا) من التصرف في أصل الهبة طيلة حياة الواهب: فلذلك احتمالان:
الأول: الاتفاق على منع تصرفه في الأصل مع إمكانية صرفه للعوائد: فهذه هبة صحيحة مشروطة، وتتخرج على ما صوَّبه جماعة من أئمة المالكية فيمن وهب لرجل هبة بشرط ألا يبيع ولا يهب: فالعقد صحيح والشرط نافذ؛ كما قاله عيسى بن دينار ومطرِّفٌ واللخميُّ وابن رشد.
قال الإمام أبو الحسن اللخمي المالكي (ت478هـ) في "التبصرة" (8/ 3516، ط. دار الغرب الإسلامي):
[اختُلف في الواهب يشترط على الموهوب له ألا يبيع ولا يهب، أو يقول: إن بعتها فهي لي بغير شيء، أو الثمن بيع به.
فقال مالك فيمن وهب هبة علي ألا يبيعها ولا يهبها: فالهبة غير جائزة.
وقال ابن القاسم في العتبية: أكرهه، فإن نزل مضى على شرطه، وقال في كتاب محمد: يخير الواهب، فإن قبلها وإلا نقضت، وقال أشهب: ذلك جائز، وهو كالحبس.
وأرى أن تجوز على ما شرط، فإن مات الموهوب له ورثت عنه؛ لأنها معروف، فيجوز أن يعطي الرقاب ينتفع بها من الآن، أو يعطي المنافع خاصة حياته ثم يعود إليه، أو يعطي المنافع حياته ثم يكون له المرجع بعد موته يقضي منه دينه، أو يأخذه ورثته] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد المالكي في "البيان والتحصيل" (13/ 442، ط. دار الغرب الإسلامي):
[وقال مالك: إذا تصدق الرجل بصدقة أو وهب له الهبة على ألا يبيع ولا يهب قال: لا يجوز هذا، ويقال للمتصدق: إما أن تُبَتِّلَها وإلا فخُذْ صدقتك، قال مالك: إلا أن يكون صغيرًا أو سفيهًا فيشترط عليه ذلك إلا أن يحسن حال السفيه ويكبر الصغير، فيكون لهما بَتلًا فذلك جائز. قال عيسى: أكره أن تقع الصدقة على هذا، فإن وقع مضى ولم يُرَدَّ وكان على شرطه.
قال سحنون: إذا تصدق عليه بصدقة أو وهب له هبة على ألا يبيع ولا يهب فهي له حبس.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها خمسة أقوال:
أحدها: أن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدق أن يبطل الشرط ويمضي الصدقة أو الهبة..
والقول الثاني: أن الواهب مخير بين أن يسترد هبته، أو ترك شرطه وورثته بعده، ما لم ينقض أمده بموت الموهوب له، فيكون ميراثًا عنه..
والقول الثالث: أن الشرط باطل، والهبة جائزة..
والقول الرابع: أن الشرط عامل، والهبة ماضية لازمة، فتكون الصدقة بيد المتصدق عليه، بمنزلة الحبس، لا يبيع ولا يهب حتى يموت، وإذا مات ورث عنه على سبيل الميراث، وهو قول عيسى بن دينار في هذه الرواية، وقول مطرف في الواضحة. وهو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب؛ لأن الرجل له أن يفعل في ماله ما شاء، إن شاء بَتَّلَهُ للموهوب له والمتصدق عليه من الآن، وإن شاء أعطاه المنافع خاصة طول حياته وجعل المرجع بعد موته ليقضي من دينه ويرثه عنه ورثته بما له في ذلك من الغرض أن يستديم الانتفاع بما وهبه، وبدا إثر هبته عليه.
والقول الخامس: قال سحنون: إن ذلك يكون حبسًا على الموهوب له أو المتصدق عليه بما شرط عليه من ألا يبيع ولا يهب] اهـ.
الاحتمال الثاني: الاتفاق على منع تصرفه في الأصل والعوائد معًا: فذلك يحصل بتأجيل تسليم الهبة للموهوب له، ونرى أن يصاغ الشرط على هذا النحو؛ تحرزًا مما قد يوهمه لفظ "المنع من التصرف" من التنافي مع صحة الملكية ابتداءً، ويكيف ذلك شرعًا على أنه: اتفاق طرفي الهبة على تأجيل تسليمها للموهوب له وتأخير القبض مدةَ حياة الواهب؛ وحينئذٍ فلا ينافي ذلك صحة عقد الهبة؛ إذ يتخرج على مذهب الجمهور الذين فرقوا بين صحة الهبة بالعقد، وتمام ملكها بالقبض، وأوقفوا القبض على إذن الواهب، وإذا كان يجوز للواهب تأخير التسليم شرعًا: فأولى أن يجوز ذلك له شرطًا؛ إذ اتفاق طرفي العقد على حق أحدهما الثابت له بالشرع لا يزيده الشرط إلا تأكيدًا ولزومًا.
كما يتخرج هذا الاحتمال أيضًا على قول المالكية وجمهور الفقهاء أيضًا في إجازتهم للوالد الرجوع في هبته لولده؛ فإن تأخير تسليم الهبة أهون من الرجوع فيها؛ إذ في الرجوع سلبٌ للملك، وفي التأخير إبقاء له.
وأما منح الواهب حق التصرف طيلة حياته في أصل الهبة وتجديدها، والاقتراض وكفالة الغير بضمانها، دون رجوع في ذلك للموهوب له: فإن كان حق التصرف يشمل الرجوع فيها: فهو مبني على حق الواهب في الرجوع في الهبة قبل القبض، وأن تسليمها منوط بإذنه؛ على ما عليه جمهور الفقهاء، وهو حق للواهب بالشرع، فأولى أن يستحقه بالشرط، فيصح عقد الهبة، ويكيف هذا الشرط حينئذٍ على أنه اتفاق بين العاقدين على تأجيل التسليم إلى وفاة الواهب. وإن كان الشرط مقتصرًا على بعض وجوه انتفاع الواهب من الهبة: فيجري فيه ما يأتي من جواز اشتراط الواهب الانتفاع بثمرة الهبة مدة معينة. وأما عند المالكية فيتخرج ذلك على حق الوالد في الرجوع في الهبة لولده، وحق الواهب في الرجوع متى اشترطه، كما سبق عنهم.
وأما اشتراط صرف الواهب لعوائد الهبة طيلة حياته، أو حتى يبلغ الموهوب له سن الرشد: فهذه هبة للأصل مع اشتراط الثمرة مدة معينة، وهي صحيحة شرعًا؛ فقد نص المالكية على جواز أن يشترط الواهب ثمرة ما وهبه، إذا لم يكن في ذلك مؤونةٌ على الموهوب له، وهذا متسق مع اشتراط انتفاع الواهب بالأرباح، مع صحة ملك الموهوب له للهبة.
قال الإمام أبو بكر الصقلي المالكي (ت451هـ) في "الجامع لمسائل المدونة" (19/ 579، ط. دار الغرب الإسلامي):
[قال مالك: ومن تصدق على رجل بحائط فيه ثمرة فزعم أنه لم يتصدق عليه بالثمرة، فإن كانت الثمرة يوم الصدقة لم تُؤَبَّرْ فهي للمعطَى، وإن كانت مأبورة فهي للمعطِي؛ كالبيع، ويُقبل قوله، وكذلك الهبة، ورب الحائط مصدَّق من حيث تأبير الثمرة.
قال ابن القاسم: ولا يمين عليه في ذلك. قلت: وكيف حيازة النخل وربها يسقيها لمكان ثمرته؟ فقال: إن خلى بينه وبين الثمرة يسقيها كانت حيازة.
قال ابن المواز: ويقبض الموهوب له النخل، ويكون سقيها على الواهب في ماله لمكان ثمرته، ويتولى الموهوب سقيها لمكان حيازته.
قال ابن القاسم: وكذلك لو استثنى الواهب ثمرها لنفسه عشر سنين، فإن أسلم النخل إلى الموهوب يسقيها بماء الواهب ويدفع إليه ثمرها كل سنة فذلك حوز، وإذا كان الموهوب يسقيها بمئة والثمرة للواهب لم يجز؛ لأنه كأنه قال له: اسقها عشر سنين ثم هي لك، ولا يدري أتسلم النخل إلى ذلك الأجل أم لا؟] اهـ.
وأما منع الموهوب له البالغ من صرف عوائد الهبة: فالهبة صحيحة مع هذا الشرط أيضًا؛ لأنه لا يخلو إما يكون مشروطًا بغرض تكثير الهبة للموهوب له، أو بغرض تركها للواهب ليصرفها هو، وذلك جائز كما سبق، والشرط على الوجهين يُرادُ به فائدةُ أحدهما، ولا مناقضة فيه لمقتضى العقد.
وبذلك تكون هذه الشروط كلها صحيحة شرعًا، على ما هو المعمول به إفتاءً.
كما أنها جاريةٌ على وفق نصوص القانون المدني المصري في عقد الهبة، وما استقرت عليه أحكام القضاء المصري، المأخوذة نصوصُها وأحكامها من الأحكام الفقهية التفصيلية للهبة؛ إذ لحظ المشرع المصري أنها ملحقة بالأحوال الشخصية؛ لقيامها على معنى التصدق المستحب شرعًا، فنص حكم النقض (40) لسنة 3 قضائية جلسة 21/ 6/ 1934م على أن: [المشرع المصري وجد أن الوقف والهبة والوصية -وكلها من عقود التبرعات- تقوم غالبًا على فكرة التصدق المندوب إليه ديانةً؛ فألجأه هذا إلى اعتبارها من قبيل مسائل الأحوال الشخصية] اهـ.
وجاء في "تقرير لجنة القانون المدني عن مشروع القانون المدني" الذي أُعِدَّ عام 1948م (ص: 6، المطبعة الأميرية) -في سياق الأحكام التي نقلها المشروع عن الشريعة الإسلامية تفصيلًا- أن الهبة: [قد استمد المشروع أحكامها من الشريعة الإسلامية] اهـ، وجاء في التقرير أيضًا (ص: 50): [واستمد المشروع الأحكام الموضوعية في الهبة من الشريعة الإسلامية، وبخاصة من كتاب "الأحوال الشخصية" لقدري باشا؛ حيث قننت هذه الأحكام] اهـ.
فمشروعية الهبة المشروطة ابتداءً: متسقة مع قرره القانون من حق الواهب في أن يشترط على الموهوب له القيام بالتزام معينٍ له في مقابل الهبة، وأن ذلك لا يبطل الهبة، ولا يخرجها عن مقصود التبرع؛ فجاء نص المادة (486): [ويجوز للواهب، دون أن يتجرد عن نية التبرع، أن يفرض على الموهوب له القيامَ بالتزامٍ معين] اهـ.
والشروط التي يقضي حســـاب الهبة المشروطة بإمكان اشتراطها للواهب على الموهوب له: لا تجرد الواهب عن نية التبرع، ولا تخرج عقد الهبة عن ماهيته؛ فإن الواهب لا يستفيد من وراء هذه الشروط منفعةً زائدةً لا يتسنى له الحصولُ عليها دون العقد.
وإعمال الشرط في الهبة: جارٍ على ما نصت عليه المادة (502) من أن: [الالتزام في عَقدِ الهبةِ شأنه شأن سائر العقود؛ قد يكون معلقًا على شرط فاسخ، فإذا تحقق الشرط ترتب على ذلك زوال الالتزام وجاز للواهب أن يسترد ما وهبه، ولا يشترط في هذه الحالة أن يستند الواهب إلى عُذرٍ مقبول، وإنما يكفي تحقق الشرط، كما لا يجوز للموهوب له أن يتمسك بقيام مانع من الرجوع في الهبة؛ لأن العقد شريعة المتعاقدين، ويجب عليهما تنفيذ ما اشتمل عليه] اهـ.
واشتراط منع تصرف الموهوب له في أصل الهبة وأرباحها مدة معينة: جارٍ على ما قرره القانون من مشروعية اتفاق المتعاقدين على وقت معين يتم فيه التسليم، أو أن هناك عرفًا يقضي بالتسليم في وقت معين، أو اقتضت طبيعة الموهوب شيئًا من الوقت في تسليمه. وتسري على الهبة الأحكام المتعلقة بالبيع في هذا الصدد؛ كما في "الوسيط في شرح القانون المدني" للعلامة عبد الرزاق السنهوري (5/ 153، ط. دار إحياء التراث العربي).
واشتراط منع التصرف طيلة حياة الواهب: جارٍ على مقتضى نص المادة (823) وهي:
[1. إذا تضمن العقد أو الوصية شرطًا يقضي بمنع التصرف في مال: فلا يصح هذا الشرط، مالم يكن مبنيًّا على باعث مشروع، ومقصورًا على مدة معقولة.
2. ويكون الباعث مشروعًا: متى كان المرادُ بالمنع من التصرف حمايةَ مصلحةٍ مشروعةٍ للمتصرِّف، أو للمتصرَّف إليه، أو للغير.
3. والمدة المعقولة: يجوز أن تستغرق مدى حياة المتصرف، أو المتصرف إليه، أو الغير] اهـ.
جاء في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة: [فالشرط المانع قد يرد في وصية أو في عقد، ويكون العقد في الغالب: هبةً، أو هبةً مستترةً في بيع] اهـ من "الوسيط" للعلامة السنهوري (8/ 508) مع هامش رقم (1).
ويمثل العلامة السنهوري في "الوسيط" (8/ 510) للباعث المشروع بقوله: [قد تكون هناك مصلحة مشروعة للمتصرف يريد حمايتها عن طريق الشرط المانع، مثل ذلك: أن يكون المتصرف قد وهب منزلًا لأحد من ذويه، واشترط لنفسه حق الانتفاع أو حق السكنى طول حياته، ولا يريد أن تكون له علاقة في شأن حقه هذا إلا مع من تصرف له، فيعمد إلى تضمين هبته شرطًا مانعًا من التصرف في المنزل] اهـ.
وهناك فارق بين تأخير التسليم للمصلحة وتأخير نقل الملكية؛ "فلا يجوز في القانون المصري أن يعقد الواهب هبة باتة ويرجئ في الوقت ذاته نقل ملكية الموهوب إلى ما بعد موته، ولكنه يستطيع أن يهب مالًا في الحال ويؤجل تسليمه إلى ما بعد موته؛ فيثبت للموهوب له في الموهوب حق الملك في الحال"؛ كما يقرره العلامة السنهوري في "الوسيط" (5/ 7-8).
وعلى ذلك جرى القضاء المصري وتتابعت على تقريره أحكام النقض:
فجاء في الطعن (5) لسنة 10 قضائية، بتاريخ 23/ 5/ 1940م: [الهبة متى كانت موصوفة بعقد آخر فإن الملكية تنتقل بها بمجرد الإيجاب والقبول، ويكون للموهوب له أن يطلب تسلم الموهوب بناءً على ما له من حق الملك فيه إذا كان لم يسلم إليه من قبل. والهبة إذا كان مشروطًا فيها تأجيل التسليم فإن ذلك لا يبطلها ولا تأثير له في صحة انعقادها] اهـ.
وجاء في الطعن (38) لسنة 16 قضائية، بتاريخ 13/ 3/ 1947م: [الهبة تنعقد صحيحةً بمجرد الإيجاب من الواهب والقبول من الموهوب له (المادة: 48 مدني)، أما نقل الملك فليس ركنًا من أركان انعقادها ولا شرطًا من شرائط صحتها، وإنما هو أثر من الآثار المترتبة على قيامها. وقانون التسجيل لم يغير من طبيعة الهبة كما لم يغير من طبيعة البيع من حيث كون كليهما عقدًا من عقود التراضي التي تتم بمجرد الإيجاب والقبول، بل كل ما استحدثه هو أنه عدل من آثارهما بجعله نقل الملكية متراخيًا إلى ما بعد التسجيل. وكونُ الهبة عقدَ تمليكٍ مُنَجَّزٍ ليس معناه أن نقل الملكية ركن من أركان انعقادها أو شرط من شروط صحتها، بل معناه أنها عقد يراد به التمليك الفوري، تمييزًا لها عن الوصية التي يراد بها إضافة التمليك إلى ما بعد الموت] اهـ.
وجاء في الطعن (82) لسنة 17 قضائية، بتاريخ 20/ 1/ 1949م: [وما يقال من أن شرط عدم التصرف شرط باطل، أو أن الفسخ لم ينص عليه جزاءً بمخالفته: مردود بأن اشتراط عدم التصرف قد أُقِّتَ بحياة الواهبة، فهو لا ينافي ترتيب حق الملكية لمن وهبت له، ومن ثم صح الشرط ونفذ، وجاز لمن وُضِعَ لمصلحته أن يطلب فسخ الهبة إذا ما أُخِلَّ به، دون حاجة إلى نص صريح على حق الفسخ] اهـ.
وجاء في الطعن (109) لسنة 17 قضائية، بتاريخ 3/ 2/ 1949م: [من الجائز قانونًا أن يقصد المتصرف إلى الإيهاب في صورة التبايع، ولا يقدح في ذلك أن يظل البائع واضعًا اليدَ على ما باعه، فهذا لا يتعارض مع تنجيز التصرف ما دام المتصرَّفُ لهنَّ بناتِ البائع وبينهن قاصرتان مشمولتان بولايته وهن جميعًا في رعايته، ولا أن البائع احتفظ بحق الانتفاع مع تمليك الرقبة تمليكًا منجَّزًا] اهـ.
وجاء في الطعن (155) لسنة 41 قضائية، بتاريخ 26/ 6/ 1975م: [إذا كان احتفاظ الواهب بحقه في الانتفاع بالمال الموهوب مدى حياته لا يتحتم معه وجوبُ اعتبار العقد وصيةً ولا يتعارض مع تنجيز التصرف، وكان الحكم المطعون فيه قد اعتمد في قضائه برفض ما تمسك به الطاعنون من أن عقد الهبة الصادر من مورثتهم إلى المطعون عليه الأول وهو غير وارث، يخفى وصية على ما استظهره من أقوال شهود المطعون عليه المذكور -الذين سمعتهم محكمة الاستئناف، ولم تكن محل نعى من الطاعنين- من أن عقد الهبة قد تم تنجيزه بأن استلم الموهوب له حال حياة الواهبة المنازل موضوع العقد واستغلها لحساب نفسه، فإن النعي على الحكم بهذا السبب لا يعدو أن يكون جدلًا موضوعيًّا في تقدير الأدلة، مما لا تجوز إثارته أمام محكمة النقض] اهـ.
وجاء في الطعن (685) لسنة 45 قضائية، بتاريخ 28/ 5/ 1980م: [إعمال القواعد العامة للعقود المنصوص عليها في الفصل الأول من الباب الأول من الكتاب الأول من القسم الأول من التقنين المدني يقضي بأن تصح هبة جميع أنواع الأموال والحقوق العينية التي عليها كحق الانتفاع وحق الرقبة وحق الارتفاق، فإن ما انتهى إليه الحكم المطعون فيه من رفض الدفع ببطلان عقد الهبة لوروده على حق الرقبة دون المنفعة يكون صحيحًا، ولا يقدح في ذلك احتفاظ الواهب بحقه من الانتفاع ما دام التصرف بالهبة قد تم منجزًا] اهـ.
وجاء في الطعن (1459) و(1465) لسنة 48 قضائية، جلسة 4 يناير سنة 1983م: [احتفاظ الواهب بحقه في الانتفاع بالمال الموهوب مدى حياته لا يتحتم معه وجوبُ اعتبار العقد وصية، ولا يتعارض مع تنجيز التصرف، ولما كان من المقرر في المادة (486) من القانون المدني أن "الهبة عقد يتصرف به الواهب في مال دون عوض، ويجوز للواهب دون أن يتجرد عن نية التبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين"، ومن ثم تكون الهبة عقدًا لا بد فيه من إيجاب وقبول متطابقين، ولا تنعقد بإرادة الواهب المنفردة كما في الوصية، وهى تصرف منجز لا يجوز فيها إرجاء نقل ملكية المال الموهوب إلى ما بعد موته، إلا أن ذلك لا يمنع الواهب من أن ينقل ملكية المال في الحال ويرجئ التسليم إلى ما بعد الموت، وليس ثمة ما يمنع الواهب -ما دام لم يتجرد من نية التبرع- أن يفرض على الموهوب له القيام بالتزام معين، سواء كان هذا الالتزام لمصلحة الواهب، أو لمصلحة الموهوب نفسه، أو لمصلحة الغير، دون أن يمنع ذلك كله من كون العقد هبة؛ بمقدار الفرق بين العين الموهوبة والعوض] اهـ.
وجاء في الطعن (413) لسنة 58 قضائية، بتاريخ 6/ 3/ 1990م: [المقرر -وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة- أن الهبة التي يشترط فيها المقابل لا تعتبر من التبرعات المحضة] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فالتعامل بحساب الهبة المشروطة في بنك ناصر الاجتماعي والمسمى باسم "هب لمن تحب، ودع الأمر لنا" أمر جائز شرعًا، ولا مانع من اختيار الواهب المتعامل معه لأي بند من بنوده السبعة؛ انتقاءً منها أو جمعًا بينها، وما تضمنته البنود الثلاثة الأولى والبند الخامس من غل يد الموهوب له من التصرف في الشهادات أو الودائع أو الأوعية الادخارية، طول حياة الواهب أو حتى يبلغ القاصر سن الرشد، وكذلك عن صرف عوائدها، وكذلك احتفاظ الواهب بحق التصرف فيها طول حياته دون الرجوع للموهوب له، وكذلك حق تجديدها بصفة دورية ومنتظمة طيلة حياته: مبني على حصول العقد بين الواهب والموهوب له، مع إيقاف لزومه وثبوت ملك الموهوب فيه على إذن الواهب بالتسليم والقبض والحيازة، وهذا يتلاقى مع مذهب الجمهور الذين يشترطون القبض في لزوم العقد وثبوت الملك، ويشترطون إذن الواهب بالقبض، وهو المعمول به إفتاءً وقضاءً.
كما أن البنود الرابع والسادس والسابع تجري على ما رجحه كثير من الفقهاء من صحة الهبة المشروطة وجوازها، وهو المعمول به في مصر إفتاءً وقضاءً.
ونرى أن يصاغ شرط "غل يد الموهوب له عن التصرف" على نحو: "اتفاق طرفي الهبة على تأجيل تسليمها وتأخير القبض مدةَ حياة الواهب"؛ تحرزًا مما يوهمه لفظ "غل اليد عن التصرف" من تنافٍ مع صحة الملكية.
والله سبحانه وتعالى أعلم. 

اقرأ أيضا