حكم قصر الصلاة في الحج

حكم قصر الصلاة في الحج

ما حكم قصر الصلاة في الحج؟ حيث وفقني الله تعالى للحج هذا العام، وكنت أظن أن الحجاج لا يقصرون الصلاة في الحج إلا الظهر والعصر في عرفة، والعشاء في مزدلفة، ثم وجدت كثيرًا من الحجاج يقصرون الصلاة في أيام منى وجميع أيام المناسك، فهل فعلهم هذا صحيح؟

الحاج الذي بلغت مسافة سفره مسافة القصر ولم يَنْوِ الإقامة بمكة عند الدخول ولم تبلغ إقامته فيها قبل خروجه ليوم التروية في منى -الثامن من ذي الحجة- المدة التي يكون بها مقيمًا، وهي أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، له أن يقصر الصلاة في أيام منى وجميع أيام المناسك، وذلك باتفاق الفقهاء؛ لأنه لا يزال متلبسًا بالسفر، وكذلك الحاج الذي ينوي الخروج من مكة بعد انتهاء مناسكه لمسافة تبلغ مسافة القصر، له أيضًا أن يقصر الصلاة في يوم التروية وما بعده من أيام المناسك؛ لأنه قد تلبَّس بالسفر ولم يَنْوِ الإقامة في مكان من أماكن المناسك، كما لم تبلغ إقامته في مكان منها مدة الإقامة؛ كما ذهب إليه فقهاء الشافعية والحنابلة.
أما الحاج الذي هو من أهل مكة أو مِنى أو لم تبلغ مسافة سفره مسافة القصر فيجوز له أن يقصر الصلاة في جميع أيام المناسك، إلا في المكان الذي هو بلده أو كانت فيه إقامته، كمن هو من أهل منى أو فيها محلّ إقامته، فليس له أن يقصر الصلاة بمِنى؛ وذلك على ما ذهب إليه فقهاء المالكية ومن وافقهم، والمستحب له أن يُتِمَّ الصلاةَ خروجًا من الخلاف.

التفاصيل ....

المحتويات

 

بيان مفهوم السفر ومفهوم القصر

قال العلامة الشريف الجرجاني في "التعريفات" (ص: 119، ط. دار الكتب العلمية): [السفر في اللغة: قطع المسافة، وشرعًا: فهو الخروج على قصد سيرة ثلاثة أيام ولياليها، فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام] اهـ.
وعليه فالسفر هو: الخروج على قصد قطع مسافة القصر الشرعية فما فوقها، وهو الذي تترتب عليه بعض الرخص الشرعية، كقصر الصلاة الرباعية "الظهر، والعصر، والعشاء" فتُصَلَّى ركعتين.
وقد عرَّف الشريف الجرجاني القصر فقال في "المرجع السابق" (ص: 176): [القصر في اللغة: الحبس، يقال: قصرت اللقحة على فرس، إذا جعلت لبنها له لا لغيره، وفي الاصطلاح: تخصيص شيء بشيء وحصره فيه] اهـ.

أدلة مشروعية قصر الصلاة في السفر

الرخصة بقصر الصلاة ثابتة بالكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [النساء: 101].
ومن السنة ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».

شروط قصر الصلاة في السفر

يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة عدة أمور، هي:
- أن يقصد المسافر عند ابتداء السفر موضعًا معيَّنًا، فلا قَصْرَ لهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه؛ قال العلامة الخراشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 60، ط. دار الفكر): [قال مالك في المجموعة في الرعاة يتبعون الكلأ بمواشيهم أنهم يتمون، اللهم إلا أن يعلم كلٌّ من الهائم والراعي قطع مسافة القصر قبل البلد الذي يطيب له المقام به وقبل محل الرعي يريد وقد عزم عليه عند خروجه فيقصر حينئذٍ] اهـ.
وقال الإمام النووي في "منهاج الطالبين" (1/ 45، ط. دار الفكر): [ويشترط قصد موضع معين أولًا، فلا قصر للهائم وإن طال تردده] اهـ.
- وأن لا يكون السفر سفرَ معصية، فمن كان عاصيًا بسفره -كقاطع طريق وناشزة- فلا يجوز له القصر، فإن العاصي لا يُعَانُ على معصيته؛ قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 140، ط. دار الفكر): [وقال ابن ناجي في شرح "المدونة": أما سفر المعصية فالمشهور أنه لا يقصر صاحبه] اهـ.
وقال العلامة الرملي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (2/ 263، ط. دار الفكر): [(لا يترخص العاصي بسفره كآبق وناشزة) وقاطع طريق ومسافر بلا إذن أصلًا يجب استئذانه فيه ومسافر عليه دين حالٌّ قادر على وفائه من غير إذن غريمه، إذ مشروعية الترخُّص في السفر للإعانة والعاصي لا يُعَان؛ لأن الرخص لا تُنَاط بالمعاصي] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 505، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يترخص في سفر معصية بقصر ولا فطر، ولا أكل ميتة نصًّا)؛ لأنها رُخص، والرُّخص لا تُناط بالمعاصي] اهـ.
- وأن يبلغ السفر المسافة المحددة شرعًا أو الزيادة عليها، وهي مسافة أربعة بُرُد؛ لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني، وضَعَّفه ابن حجر العسقلاني، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة بُرُد. ذكره الإمام مالك في "الموطأ" بلاغًا، وصححه ابن حجر العسقلاني، وذلك إنما يفعل عن توقيف، ومسافة الأربعة بُرُد تُقَدَّر حديثًا بحوالي (85) كيلو مترًا، فيجوز للمسافر هذه المسافة أن يقصر الصلاة، فيصلي الرباعية ركعتين، وتبدأ مسافة السفر الذي تقصر الصلاة بسببه من نهاية محل الإقامة: كَسُور المدينة، أو بوابة المدينة ومدخلها، وما يقاس عليه: كمحطة القطار، وموقف السيارات، والميناء الجوي، والميناء البحري، ونقطة الشرطة، أو عند ما يعرف الآن بالكارتة عند مدخل المدينة ومخرجها.. إلخ؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (4/ 347، ط. دار الفكر): [لا يعد مسافرًا قبل مجاوزته، فإذا فارق السور ترخص بالقصر وغيره بمجرد مفارقته] اهـ. ويعنى بالسور: سور المدينة المحيط بها، والذي كان يعد نهاية محل الإقامة قديمًا.

هل قصر الصلاة في السفر رخصة أو عزيمة؟

المقرر شرعًا أن قصر الصلاة الرباعية مشروع في السفر بالشروط السابقة إلا أن الفقهاء اختلفوا هل هو رخصة يجوز الإتيان بها وتركها أو هو عزيمة فلا يصح تركه؟
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن القصر في السفر رخصة، إن شاء أخذ بها وإن شاء تركها:
قال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (1/ 364، ط. دار الغرب الإسلامي): [القصر رخصة في السفر] اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (2/ 374، ط. دار الكتب العلمية): [القصر رخصة في السفر] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 198، ط. مكتبة القاهرة): [(وللمسافر أن يتم ويقصر، كما له أن يصوم ويفطر). المشهور عن أحمد، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم.. ولنا قول الله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: 101] وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه، كسائر الرخص] اهـ.
وذهب فقهاء الأحناف إلى أن القصر في السفر عزيمة وواجب؛ لأنهم يرون أنَّ فرض المسافر في الصلاة الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما؛ قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (1/ 239، ط. دار المعرفة): [القصر عزيمة في حق المسافر عندنا] اهـ.

المدة التي يجوز للمسافر أن يقصر فيها الصلاة

المسافر إذا صح سفره يظل على حكم السفر فيما يخص الصلاة من قصر وجمع، ولا يتغير هذا الحكم إلا إذا نوى الإقامة، أو دخل وطنه، فحينئذٍ تزول حالة السفر، ويصبح مقيمًا تنطبق عليه أحكام المقيم، والمدة المعتبرة في الإقامة هي أربعة أيام غير يومَي الدخول والخروج، فإذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر غير يومي الدخول والخروج يتم صلاته ولا يجمعها، ويبدأ التعامل كمقيم من أول يوم بعد يوم الوصول، وأما إن نوى الإقامة أقلّ من ذلك أو لم ينوِ، فيظل على رخصة القصر والجمع إلى أن يُتِمّ أربعة أيام، ولا يحسب من الأيام يومَا الوصول والرجوع.
والقصر غير لازم للجمع، فيمكن للمسافر أن يقصر الصلاة دون أن يجمعها، وأن يجمع بين الظهر والعصر فيصليهما في وقت أيهما شاء، وكذلك المغرب والعشاء يجمع بينهما فيصليهما في وقت أيهما شاء، وصلاتا الصبح والمغرب لا تقصران.
ويجوز للمسافر أن يجمع مع قصر الرباعية، ويجوز له أن يجمع مع الإتمام من غير قصر، وله أن يجمع جمع تقديم أو تأخير، إلا أنه في جمع التأخير يكون عليه أن ينوي قبل خروج وقت الصلاة الأولى أنه يجمعها تأخيرًا مع الصلاة الثانية في وقتها.
وعلى ذلك: فالرخصة للمسافر سفرًا تحققت فيه شروط الترخص أن يجمع ويقصر إن نوى الإقامة أقل من أربعة أيام، أما إن نوى الإقامة أربعة أيام أو أكثر فإنه يتم من أول يوم بعد يوم الوصول.
أما المسافر الذي لم ينوِ الإقامة بعد وصوله، وكانت له حاجة يتوقع انقضاءها في أي وقت، وأنه متى قضيت رجع من سفره ولم ينوِ الإقامة، فله أن يقصر الصلاة ثمانية عشر يومًا صحاحًا.

حكم قصر وجمع الصلاة في الحج

لا خلاف بين الفقهاء في أنَّ الحجاج في يوم التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة) يُصَلُّون الظهر والعصر في عرفة (في نمرة) قصرًا كلًّا منهما ركعتين جمع تقديم في وقت الظهر، ثم يفيضون من عرفة بعد غروب الشمس حتى يَصِلوا إلى مزدلفة فيُصَلُّوا بها المغرب والعشاء قصرًا جمع تأخير في وقت العشاء.
كما أنه لا خلاف بينهم في أن من بلغ سفره إلى الحج مسافة القصر يكون سفره قد تحققت فيه شروط السفر المبيح للترخص، فالحاج المسافر سفرًا تحققت فيه شروط القصر، له أن يقصر الصلاة ما لم يَنْوِ الإقامة في مكة أربعةَ أيام فأكثر سوى يومي الوصول والخروج.
فالحاج المسافر الذي يصل مكة قبل يوم التروية "الثامن من ذي الحجة الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى فيصلي بها: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم يتوجه إلى الوقوف بعرفة" بمدة أقل من أربعة أيام غير يومي الوصول والخروج، يكون له باتفاق الفقهاء أن يقصر الصلاة في جميع أيام المناسك سواء في داخل مكة أو خارجها؛ لأنه لا يزال مسافرًا لم ينو الإقامة بمكان منها، ولم تبلغ إقامته في أحدها أربعة أيام، وهذا هو الأصل الذي ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، حتى إنهم أنكروا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه أتمّ في منى؛ فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قال: "صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ".
وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن الْقَاسِمِ بن عَوْفٍ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: "كُنَّا قَدْ حَمَلْنَا لأَبِي ذَرٍّ شَيْئًا نُرِيدُ أَنْ نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ، فَأَتَيْنَا الرَّبَذَةَ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ فَلَمْ نَجِدْهُ، قِيلَ: اسْتَأْذَنَ فِي الْحَجِّ فَأُذِنَ لَهُ، فَأَتَيْنَاهُ بِالْبَلْدَةِ وَهِيَ مِنًى، فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ عُثْمَانَ صَلَّى أَرْبَعًا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ قَوْلًا شَدِيدًا، وَقَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ قَامَ أَبُو ذَرٍّ فَصَلَّى أَرْبَعًا، فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا ثُمَّ صَنَعْتَهُ، قَالَ: الْخِلَافُ أَشَدُّ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم خَطَبَنَا فَقَالَ: إِنَّهُ كَائِنٌ بَعْدِي سُلْطَانٌ فَلَا تُذِلُّوهُ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُذِلَّهُ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، وَلَيْسَ بِمَقْبُولٍ مِنْهُ تَوْبَةٌ حَتَّى يَسُدَّ ثُلْمَتَهُ الَّتِي ثَلَمَ وَلَيْسَ بِفَاعِلٍ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَكُونُ فِيمَنْ يُعِزُّهُ، أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ لَا يَغْلِبُونَا عَلَى ثَلَاثٍ: أَنْ نَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَنُعَلِّمَ النَّاسَ السُّنَنَ".
حتى إن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه اعتذر لهم بأنه تزوج بمكة؛ فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيم».
كما أن هناك سببًا آخر دعاه للإتمام وهو ما رواه البيهقي في "سننه" أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أتمَّ الصلاة بمنى، ثم خطب فقال: "إِنَّ الْقَصْرَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، وَلَكِنَّهُ حَدَثَ طَغَامٌ -يَعْنِي بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ: الأعراب والعجم- فَخِفْتُ أَنْ يَسْتَنُّوا".
قال العلامة ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 571، ط. دار المعرفة): [روى أيوب عن الزهري ما يخالفه، فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري قال: إنما صلَّى عثمان بمنى أربعًا؛ لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع] اهـ.
وقد نَبَّه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك السبب، كما أن أعرابيًّا حديث العهد بالإسلام وقع منه هذا، فظن أن الصلاة ركعتان وصلى وقتًا طويلًا بظنه هذا؛ قال العلامة ابن حجر العسقلاني في "المرجع السابق نفسه": [وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: "إِنَّ الْقَصْرَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، وَلَكِنَّهُ حَدَثَ طَغَامٌ -يَعْنِي بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمُعْجَمَةِ: كثرة العوام من الأعراب والعجم- فَخِفْتُ أَنْ يَسْتَنُّوا"، وعن ابن جريج أن أعرابيًّا ناداه في مِنى: "يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين"، وهذه طرق يقوي بعضها بعضًا، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام] اهـ بتصرف.

آراء الفقهاء في حكم قصر الصلاة في الحج لمن هو من أهل مكة

لا خلاف بين الفقهاء في أن الحاج المسافر سفرًا بعيدًا توفرت فيه شروط القصر، له أن يقصر صلاته ما لم ينو الإقامة أو تتجاوز إقامته فيها مدة القصر التي يتم بعد انتهائها وهي أقل من أربعة أيام سوى يومي الدخول والخروج.
وإنما اختلف الفقهاء فيمن هو من أهل مكة وغيرهم من الحجاج الذين لم يبلغ سفرهم مسافة القصر، فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن أهل مكة أو من كان سفره لا يبلغ مسافة القصر لا يقصرون؛ قال العلامة الجَمَال المَلَطي الحنفي في "المعتصر من المختصر من مشكل الآثار" (1/ 81، ط. عالم الكتب): [في إتمام عثمان: روي أن عثمان رضي الله عنه صلى بأهل منى أربع ركعات، فلما سلم أقبل إليهم فقال: إني تأهلت بمكة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلْدَةٍ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا»؛ فَلِذَلِكَ صَلَّيْتُ أَرْبَعًا.
وإنما قال ذلك لمَّا أنكر الناس عليه الإتمام، وفيه ما يدل على ما يقوله أبو حنيفة وأصحابه والشافعي رضي الله عنهم أن الإمام إذا كان من أهل مكة وكذا غيره من الحاج لا يقصرون الصلاة بمنى؛ لأنهم في سفر لا يُقصر في مثله، وإليه ذهب عطاء ومجاهد وهما إماما الناس في الحج] اهـ.
وقال في "المرجع السابق نفسه": [والنظر أيضًا يوجب ذلك؛ لأن قصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما الصلاةَ بمنى في حجهم لا يخلو من ثلاثة معانٍ لا رابع لها: إما أن يكون للموطن الذي كانوا به، وذلك مُنْتَفٍ؛ لإجماعهم أن من لم يكن حاجًّا ولا مسافرًا يتم في ذلك الموطن، وإما أن يكون للحجيج، وهو مُنْتَفٍ أيضًا؛ لإجماعهم أن الحاج من أهل منى يتمون الصلاة بمنى، فلم يَبْقَ إلا أن يكون للسفر الذي يقصر في مثله، وكان مالك رحمه الله يقول في الحاج من أهل منى: إنهم يتمون بمنى، ومن أهل مكة وأهل عرفة يقصرون بمنى، وأهل منى يقصرون بعرفة، وإذا انتفى أن يكون قصر الصلاة إلا للسفر انتفى قول من قال: إن غير المسافر يقصر بمنى حاجًّا كان أو غير حاج] اهـ.
وقال العلامة العمراني الشافعي في "البيان في مذهب الإمام الشافعي" (2/ 471-472، ط. دار المنهاج): [إذا سافر إلى بلد تقصُرُ إليه الصلاة، فوصلَ ذلك البلد، فإن لم يَنْوِ الإقامة فيه فهو مسافر فيه، وله أن يقصر فيه الصلاة. وإن نوى فيه الإقامة صار مقيمًا فيه بنفس الدخول، فينقطع عنه رُخَصُ المسافر؛ لما روي: "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، وخرج إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة، وهو يقصر الصلاة"، وتأويل ذلك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دخل مكة يوم الرابع، ولم يكن انتهى سفره؛ لأنه كان يريد الخروج إلى عرفات، فلما خرج إلى عرفات لم يَنْوِ الإقامة فيها، فلذلك قَصَر فيه وجمع، فلما فَرَغ من نُسُكه، ونزل من مِنى لم يدخل مكة، وإنما نزل بالمحصَّبِ، فلما كان من الغدِ دخل مكة، وطاف للوداع، وراح إلى المدينة، فلم يَنْوِ الإقامة بمكة] اهـ.
وقال في "المرجع السابق" (2/ 472): [فإن دخل المسافر في طريقه بلدًا له فيها أهل ومال، ولم يَنْوِ الإقامة فيها، فإن له أن يقصر فيها؛ لأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حج معه خلق كثير من المهاجرين، وكذلك حج أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بالناس في زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وكذلك عمر وعثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا حجَّا بالناس، وكان لهم بمكة دور، وأهل، وقرابة، ولم يُنقل أن أحدًا منهم أتم الصلاة، بل نُقل أنهم قصروا فيها، ولأن الإقامة إنما تكون بنية الإقامة، أو بأن تحصل بدار إقامته، ولم يوجد شيء منهما] اهـ.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" -مع حواشي الشرواني والعبادي عليه- (2/ 377، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [(تنبيه) يقع لكثير من الحجاج أنهم يدخلون مكة قبل الوقوف بنحو يوم ناوين الإقامة بمكة بعد رجوعهم من منى أربعة أيام فأكثر، فهل ينقطع سفرهم بمجرد وصولهم لمكة نظرًا لنية الإقامة بها ولو في الأثناء، أو يستمر سفرهم إلى عودهم إليها من منى؛ لأنه من جملة مقصدهم فلم تؤثر نيتهم الإقامة القصيرة قبله ولا الطويلة إلا عند الشروع فيها، وهي إنما تكون بعد رجوعهم من منى ووصولهم مكة للنظر فيه مجال وكلامهم محتمل، والثاني أقرب. (ولا يحسب منها يَومَا) أو لَيْلتا (دخوله وخروجه على الصحيح)؛ لأن فيهما الحط، والترحال وهما من أشغال السفر المقتضي للترخص] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في" المغني" (3/ 367، ط. مكتبة القاهرة): [فصل: فأما قصر الصلاة، فلا يجوز لأهل مكة. وبهذا قال عطاء، ومجاهد، والزهري، وابن جريج والثوري، ويحيى القطان، والشافعي، وأصحاب الرأي، وابن المنذر. وقال القاسم بن محمد، وسالم، ومالك، والأوزاعي: لهم القصر.. ولنا أنهم في غير سفر بعيد، فلم يجز لهم القصر] اهـ.
أما فقهاء المالكية فيرون أن القصر في جميع أيام المناسك مباح إلا لمن هو من أهل مكان من أماكن المناسك أو له فيه إقامة؛ فإنه لا يقصر في هذا المكان ويقصر فيما سواه؛ قال العلامة ابن عبد البر المالكي في "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (10/ 13، ط. وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية): [قال مالك: وأهل مكة يقصرون الصلاة بمنى، وأهل منى يقصرون الصلاة بعرفة، وأهل عرفة يقصرون الصلاة بمنى وهو قول الأوزاعي سواء، ومن حُجَّتِهِمْ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يصلوا في تلك المشاهد كلها إلا ركعتين، "وسائر الأمراء هكذا لا يصلون إلا ركعتين"، فعلم أن ذلك سنة الموضع؛ لأن من الأمراء مكيًّا وغير مكي.. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وداود: من كان من أهل مكة صلى بمنى وعرفة أربعًا لا يجوز له غير ذلك، وحُجَّتُهُمْ أن من كان مقيمًا لا يجوز له أن يصلي ركعتين، وكذلك من لم يكن سفره سفرًا تقصر في مثله الصلاة فحكمه حكم المقيم] اهـ.
ومذهب المالكية أن علة القصر هي المكان وليس السفر؛ قال العلامة ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (2/ 113، ط. دار الحديث): [فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء أكان من أهلها أو لم يكن] اهـ.
كما ذهب فقهاء الشافعية والحنابلة إلى أن الحاج الذي يبلغ سفره مسافة القصر وينوي الإقامة عند دخوله مكة يتم الصلاة ما دام في مكة، ويكون له أن يقصر الصلاة من وقت خروجه يوم التروية -الثامن من ذي الحجة- إذا نوى السفر بعد انتهاء المناسك؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (8/ 88، ط. دار الفكر): [قال الشافعي والأصحاب: إذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعًا لزمهم إتمام الصلاة، فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خرجوا؛ لأنهم أنشأوا سفرًا تقصر فيه الصلاة] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة المقدسي الحنبلي في "المغني" (3/ 367، ط. مكتبة القاهرة): [قيل لأبي عبد الله: فرجل أقام بمكة، ثم خرج إلى الحج؟ قال: إن كان لا يريد أن يقيم بمكة إذا رجع صلى ثَمَّ ركعتين. وذكر فعل ابن عمر رضي الله عنهما. قال: لأن خروجه إلى منى وعرفة ابتداء سفر، فإن عزم على أن يرجع، فيقيم بمكة، أتم بمنى وعرفة] اهـ.

الخلاصة

بناءً على ذلك: فإن الحاج الذي بلغت مسافة سفره مسافة القصر ولم يَنْوِ الإقامة بمكة عند الدخول ولم تبلغ إقامته فيها قبل خروجه ليوم التروية في منى -الثامن من ذي الحجة- المدة التي يكون بها مقيمًا، وهي أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، له أن يقصر الصلاة في أيام منى وجميع أيام المناسك، وذلك باتفاق الفقهاء؛ لأنه لا يزال متلبسًا بالسفر، وكذلك الحاج الذي ينوي الخروج من مكة بعد انتهاء مناسكه لمسافة تبلغ مسافة القصر، له أيضًا أن يقصر الصلاة في يوم التروية وما بعده من أيام المناسك؛ لأنه قد تلبَّس بالسفر ولم يَنْوِ الإقامة في مكان من أماكن المناسك كما لم تبلغ إقامته في مكان منها مدة الإقامة؛ كما ذهب إليه فقهاء الشافعية والحنابلة، أما الحاج الذي هو من أهل مكة أو مِنى أو لم تبلغ مسافة سفره مسافة القصر فيجوز له أن يقصر الصلاة في جميع أيام المناسك، إلا في المكان الذي هو بلده أو كانت فيه إقامته، كمن هو من أهل منى أو فيها محل إقامته، فليس له أن يقصر الصلاة بمِنى؛ وذلك على ما ذهب إليه فقهاء المالكية ومن وافقهم، والمستحب له أن يتم خروجًا من الخلاف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا