ما حكم الشرع الشريف في أخذ قارئ القرآن الأجرة على قراءته في مناسبات العزاء وغيرها؟ حيث إنَّ بعض الأشخاص يقولون إنَّ هذا الأمر بدعةٌ وحرامٌ.

حكم أخذ القارئ الأجرة على قراءة القرآن في المناسبات

أخذ الأجر على قراءة القرآن في مناسبات العزاء مِن الأمور المشروعة التي جَرَت عليها عادَةُ المسلمين مِن غيرِ نَكِير؛ حتى صارت قراءة القرآن مَعْلَمًا من معالم الحضارة الإسلامية، ومظهرًا من مظاهر هُوِيَّتِها الدينية عبر القرون، ومُدَّعِي أن ذلك بدعةٌ هو المبتدع حقًّا بتضييقه لِمَا وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس مِن إقامة الذكر والاجتماع على قراءة القرآن.
وهذه الدعاوى الشاذة ما هي إلَّا مشارب بدعة ومسالك ضلالة غفل مُرَوِّجُوها أو تغافلوا عن أنها ستؤدي إلى فقد المظاهر الدينية من المحافل العامة والمناسبات الخاصة، واستبعاد ذكر الله تعالى من الحياة الاجتماعية ومنظومة الحضارة.
فليتق اللهَ هؤلاء الذين يتكلمون بما لا يَعرِفُون، وليتركوا الفتوى لأهلها الذين يدركون مرارة الواقع ويعقلون مآلات الأحكام.
قراءة القرآن الكريم والاجتماع عليها من أعظم القربات وأفضل الطاعات، وإحضار القُرَّاء لقراءة القرآن الكريم جائزٌ شرعًا ولا شيء فيه، وأجرُ القارئ جائزٌ ولا شيء فيه؛ فإن بذل الأجرة على المباح مباح، وتكييف الأجر جارٍ على أنه أجرُ احتباسٍ وليس أجرًا على محض قراءة القرآن؛ فنَحْنُ نُعطِي القارئَ أجرًا مقابل انقطاعه للقراءة وانشغاله بها عن مَصَالِحِهِ ومَعِيشَتِهِ.
وقد وردت السنة النبوية الشريفة بجواز أخذ الأجرة على تلاوة كتاب الله تعالى للأغراض المشروعة؛ تعليمًا، ورقيةً، ونحو ذلك مِن وجوه الاحتباس للمشتغلين بكتاب الله تعالى قراءةً وإقراءً؛ فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَهَبْتُ مِنْ نَفْسِي، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَقَالَ رَجُلٌ: زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، قَالَ: «هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا؟» قَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي، فَقَالَ: «إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا» فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ: «التَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» فَلَمْ يَجِدْ، فَقَالَ: «أَمَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ: «قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ» أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» رواه البخاري.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلاَ نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ القُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لاَ نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وَقَالَ: «وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (10/ 221، ط. دار الوفاء) معلقًا على الحديث: [وهو عامٌّ في جواز أَخْذِ الأُجرةِ على كِتَابِ اللهِ تعالى بالتعليمِ وغيرهِ، وإذا جاز أخذُ الأجرةِ عليه جاز أن يكون مهرًا] اهـ.
وقال الإمام ابن حزمٍ في "المُحلَّى" (7/ 18، ط. دار الفكر): [مسألةٌ: وَالإِجَارَةُ جَائزةٌ عَلَى تَعليمِ القرآنِ وعلى تَعليمِ العِلمِ مُشَاهَرَةً وَجُملةً، وَكُلُّ ذلك جَائزٌ، وعلى الرَّقْيِ، وعلى نَسْخِ المصاحفِ وَنَسْخِ كُتُبِ العِلمِ؛ لأنه لَم يَأْتِ فِي النهيِ عن ذلك نَصٌّ، بل قد جاءت الإباحة] اهـ.
وقال العلَّامة العيني في "عمدة القاري" (12/ 95، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيهِ جواز أَخْذِ الأُجرةِ لِقِراءةِ القرآن وللتعليم أيضًا، ولِلرُّقْيَا به أيضًا؛ لِعُمُوم اللَّفْظ] اهـ.
وقال الحافظ المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (1/ 309، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [فأخْذُ الأُجرةِ على تَعليمه جائزٌ؛ كالاستئجار لقراءته، وَالنهي عنه منسوخٌ أو مُؤَوَّل] اهـ.
وقال أيضًا في "فيض القدير" (2/ 418، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [وأمَّا خبرُ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا» - أي: الهدية على تعليمه- فمُنَزَّلٌ على أنه كان متبرِّعًا بالتعليم ناويًا الاحتساب، فكَرِهَ تضييعَ أجره وإبطالَ حسنته] اهـ، ثم قال (6/ 42): [«مَنْ أَخَذَ عَلَى -تعليم- القُرْآنِ أَجْرًا فَذَلِكَ حَظُّهُ مِن الْقُرْآنِ» -أي: فلا ثواب له على إقرائه وتعليمه-؛ قال ابن حجر: يعارضه وما قبله خبرُ أبي سعيدٍ رضي الله عنه في قصة اللديغ ورقيهم إياه بالفاتحة، وكانوا امتنعوا حتى جعلوا لهم جعلًا، وصَوَّب النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فِعلَهم، وخَبَرُ البخاري «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَاب اللهِ» وفيه إشعارٌ بنسخ الحكم الأول. اهـ] اهـ.
وإنما أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الصحابةَ أن يضربوا له بسهم فيما أخذوه من الجعل إزالةً لترددهم وتأكيدًا لحِلِّ مثل هذا المال؛ قال العلَّامة أنور شاه الكشميري في "فيض الباري" (3/ 517، ط. دار الكتب العلمية): [فكلُّ موضعٍ تردَّد فيه الصحابةُ رضي الله تعالى عنهم، أَزَالَهُ صلى الله عليه وآله وسلم بضربِ سَهْمٍ منه لنفسه الكريمة أيضًا] اهـ.
على أنه ينبغي أن يُراعَى أن لا يكون أجرُ القُرّاء مِن تركة الميت إلَّا أن يرضى الورثة، ولا يُؤخَذُ شيء من نصيب القُصَّر؛ إذ لا يُتَصَرَّف في أموالهم إلا بالمنفعة المحضة، وينبغي أن لا يكون ذلك في إطار المباهاة والتفاخر، وعلى الحاضرين أن يَستَمِعوا ويُنْصِتُوا لتلاوة القرآن الكريم.
وبِناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ قراءةَ القُرَّاءِ لكتاب الله تعالى في المناسبات وأخذهم على ذلك أجرًا هي مِن الأمور المشروعة التي جَرَت عليها عادَةُ المسلمين مِن غيرِ نَكِير، وعلى ذلك جرى أهل مصر؛ حتى صارت قراءة القرآن في مدنها وقُراها وأحيائها مَعْلَمًا من معالم حضارتها الإسلامية، ومظهرًا من مظاهر هُوِيَّتِها الدينية عبر القرون، ومُدَّعِي أن ذلك بدعةٌ هو المبتدع حقًّا بتضييقه لِمَا وسَّعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس مِن إقامة الذكر والاجتماع على قراءة القرآن.
وهذه الدعوات النَّشازُ الداعيةُ إلى القضاء على أعراف المسلمين وعاداتهم التي بَنَتْهَا الحضارة الإسلامية على مر الزمان وشكَّلَتْها في مناسباتهم وتقاليدهم ما هي إلَّا مشارب بدعة ومسالك ضلالة غفل مُرَوِّجُوها أو تغافلوا عن أنها ستؤول بهم إلى فقد المظاهر الدينية من المحافل العامة والمناسبات الخاصة، واستبعاد ذكر الله تعالى من الحياة الاجتماعية ومنظومة الحضارة، وهو عين ما يدعو إليه الملاحدة والمادِّيُّون من البشر. فليتق اللهَ الذين يَهرِفُون بما لا يَعرِفُون، وليتركوا الفتوى لأهلها الذين يدركون مرارة الواقع ويعقلون مآلات الأحكام.
والله سبحانه وتعالى أعلم