مشروعية صلاة الجنازة في المساجد التي بها أضرحة وقراءة القرآن عند القبر أثناء الدفن

مشروعية صلاة الجنازة في المساجد التي بها أضرحة وقراءة القرآن عند القبر أثناء الدفن

ما رأي الدين في الشباب الذين يأتون ويصلون الجنازة على القبر بعد الانتهاء من عملية الدفن، وذلك بحجة أنَّ المسجدَ الذي تمت فيه صلاة الجنازة يوجد به ضريحان لبعض الصالحين، وقاموا بهدم الضريحين بحجة توسعة المسجد؟

وكذلك يحرمون قراءة القرآن على القبر أثناء الدفن، ويقفون ويتراصون ويقولون: "استغفروا لأخيكم فإنه الآن يسأل".

لذا أرجو من فضيلتكم الرد بفتوى رسمية لكي نتمكن من توزيعها، وخصوصًا نحو هدم الأضرحة، وصلاة الجنازة عند القبر، وقراءة القرآن عند القبر أثناء الانتهاء من عملية الدفن؛ لأن هذه الفئات الضالة منتشرة بقريتنا والقرى المجاورة كما تنتشر النار في الحطب.

صلاة الجنازة في المساجد التي بها أضرحة جائزةٌ ومشروعة، بل ومستحبةٌ أيضًا؛ شأنها في ذلك شأن سائر الصلوات، والقول بتَحريمها قولٌ باطلٌ لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه، وقيام بعض الشباب عمدًا بترك صلاة الجنازة في المسجد التي تقام فيه حتى يصلونها عند المقابر بحجة وجود ضريح بالمسجد هو فعلٌ محرَّم؛ لما فيه من تفريق كلمة المسلمين وشقّ عصا جماعتهم ووحدتهم بقول باطل لا سند له، فَهُمْ وإن صحَّت صلاتهم للجنازة عند المقابر، إلا أنهم قد أَثِمُوا بسعيهم في الاختلاف بالباطل والمنازعة وشق الصف.

ولا يَجوزُ التَّهَجُّمُ على أضرحةِ الصالحين والعلماء وآلِ البيتِ، ويحرم السماح لهؤلاءِ البُغَاةِ العادِينَ بإزالة شيء مِنها، ويجب على كُلِّ مَن وَلَّاهم اللهُ أمرَ المساجد وشئونها أن يأخذوا على تلك الأيدي الآثمة التي لا تَعرف لقبور الصالحين حُرمةً.

وأما قراءة القرآن عند المقابر فإنه قد جاء الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرر أن الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك هو الابتداع في الدين؛ وذلك بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

التفاصيل ....

المحتويات

أدلة جواز صلاة الجنازة في المسجد الذي فيه ضريح

دعوى عدم جواز صلاة الجنازة في المسجد الذي فيه ضريح هي دعوى باطلة، فضلًا عن القول ببطلانها؛ فإن ذلك قولٌ مُبتَدَعٌ لا سَنَدَ له من عقلٍ أو نقلٍ، بل الصلاةُ في هذه المساجد جائزة شرعًا: بالكتابِ، والسُّنةِ، وفِعلِ الصحابةِ، وإجماعِ الأُمَّة الفِعليّ.

فمِن القرآن الكريم: قول الله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ [الكهف: 21].

قال الإمام الرازي في "تفسيره" (21/ 447، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ نعبد الله فيه، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد] اهـ.

وقال العلامة الشهاب الخفاجي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" (6/ 86، ط. دار صادر-بيروت): [في هذه دليلٌ على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين] اهـ. بتصرف.

ومِن السُّنة: حديث أبي بصيرٍ رضي الله عنه، الذي رواه عبد الرزاق عن مَعمَر، وابن إسحاق في "السيرة"، وموسى بن عُقبة في "مغازيه" -وهي أصح المغازي كما يقول الإمام مالك-؛ ثَلاثَتُهُم عن الزُّهرِي، عن عُروة بن الزُّبَير، عن المِسوَر بن مَخرَمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما: "أن أبا جَندَلِ بن سُهَيل بن عمرو دَفَنَ أبا بَصِيرٍ رضي الله عنه لَمَّا مات وبنى على قبره مسجدًا "بسِيف البحر"، وذلك بمحضر ثلاثمائةٍ مِن الصحابة" وهذا إسنادٌ صحيح؛ كُلُّه أئمةٌ ثِقَات، ومِثلُ هذا الفعلِ لا يَخفى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فلم يَرِد أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بإخراج القبر مِن المسجد أو نَبْشِهِ.

كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ قَبْرُ سَبْعِينَ نَبِيًّا» أخرجه البزار، والطبراني في المعجم الكبير، وقال الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار": هو إسنادٌ صحيح.

وقد ثبت في الآثار أنَّ سيدَنا إسماعيل عليه السلام وأُمَّه هاجر رضي الله عنها قد دُفِنا في الحِجر مِن البيت الحرام، وهذا هو الذي ذَكَرَه ثِقَاتُ المؤرِّخين واعتَمَدَه علماءُ السِّيَر. وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من مسجد الْخَيْفِ أو من المسجد الحرام.

وأما فعل الصحابة: فقد حكاه الإمام مالك في "الموطأ" بلاغًا صحيحًا عندما ذَكَرَ اختلاف الصحابة في مكان دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: [فقال ناسٌ: يُدفَنُ عندَ المِنبَرِ، وقال آخَرُونَ: يُدفَنُ بالبَقِيعِ، فجاءَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسلم يقولُ: «ما دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إلَّا في مَكانِه الذي تُوُفِّيَ فيه»، فحُفِرَ له فيه] اهـ، والمنبر مِن المسجد قطعًا، ولم يُنكِر أحدٌ مِن الصحابة هذا الاقتراح، وإنما عَدَلَ عنه أبو بَكرٍ تطبيقًا لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُدفَن حيث قُبِضَت روحه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم؛ فدُفِن في حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها المتصلة بالمسجد الذي يصلي فيه المسلمون.

وأما دعوى الخصوصية في ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي غير صحيحة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، بل هي باطلةٌ قطعًا بدَفنِ سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما في هذه الحجرة التي كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تعيش فيها وتصلِّي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة؛ فكان ذلك إجماعًا مِن الصحابة رضي الله عنهم على جوازه.

ومِن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها لذلك: صلاة المسلمين سلَفًا وخَلَفًا في مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمساجد التي بها أضرحة مِن غير نكير، وإقرار العلماء مِن لَدُن الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة الذين وافقوا على إدخال الحجرة النبوية الشريفة إلى المسجد النبوي سنة ثمانٍ وثمانين للهجرة؛ وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة حِينئذٍ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولم يعترض منهم إلَّا سعيد بن المُسَيّب، لا لأنه يرى حُرمَةَ الصلاة في المساجد التي بها قبور، بل لأنه كان يريد أن تبقى حجراتُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هي يَطَّلِعُ عليها المسلمون حتى يزهدوا في الدنيا ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم!

توجيه حديث «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ»

أما حديث عائشة رضي الله عنها في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ والنَّصارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنبِيائِهم مَساجِدَ»؛ فالمساجد: جمع مَسجِد، والمسجد في اللغة: مصدرٌ مِيمِيٌّ يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث، والمقصود به هنا: الحدث، فيكون معنى اتخاذ القبور مساجد: السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان -كما فسَّرَته الروايةُ الصحيحة الأخرى للحديث عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَنَ الله قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، فجملة «لَعَنَ الله قَوْمًا..» بيانٌ لمعنى جَعل القبر وثنًا، والمعنى: اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُسجَدُ له ويُعبَد كما سجد قومٌ لقبور أنبيائهم.

قال الإمام البيضاوي -فيما نقله عنه الإمام المناوي في "فيض القدير" (5/ 251، ط. المكتبة التجارية)-: [لما كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لها نهى أمته عن مِثل فِعلِهم، أما مَن اتَّخَذَ مسجدًا بجوارِ صالِحٍ أو صلَّى في مقبرته استظهارًا بروحه أو وصولِ أثرٍ مِن عبادته إليه -لا لتعظيمه- فلا حرج، ألا ترى أنَّ قبرَ إسماعيل بالحطيم وذلك المَحَلُّ أفضل للصلاة فيه، والنهي عن الصلاة بالمقبرة مُختَصٌّ بالمنبوشة] اهـ.

خلاصة حكم صلاة الجنازة في المساجد التي بها أضرحة

بِناءً على ذلك: فصلاة الجنازة في المساجد التي بها أضرحة جائزةٌ ومشروعة، بل ومستحبةٌ أيضًا؛ شأنها في ذلك شأن سائر الصلوات، والقول بتَحريمها قولٌ باطلٌ لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه.

حكم تعمد ترك صلاة الجنازة بدعوى أنَّ الصلاة لا تجوز في مسجد به ضريح

الصلاةُ على الجنازة من فروض الكفاية عند جماهير الفقهاء، وقد رغب الشرع الشريف فيها، وندب إلى اتباع الجنازة حتى تُدْفَن؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّي فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ»، قيل: وما القيراطان؟ قال: «مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ» متفق عليه.

فإذا أُقيمت صلاة الجنازة، واجتمع المسلمون عليها حَرُم على مَن يشهدها معهم تعمد تركها لإقامة جماعة أخرى بدعوى أنَّ الصلاة لا تجوز في مسجد به ضريح؛ لِمَا في ذلك من التقول على الله بغير علم، والافتيات على الإمام الراتب، وشقّ الصف، والخروج على الجماعة التي أمر الشرع الشريف بلزومها، وحرَّم الخروج وشق العصا عليها.

قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].

وشدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من التفرق وترك جماعة المسلمين:

فعن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ» أخرجه الترمذي في "السنن"، والنسائي في "السنن الكبرى"، وابن أبى عاصم في "السنة".

حكم تكرار الجماعة في مسجد واحد

قد نص الفقهاء على كراهية تكرار الجماعة في مسجد واحدٍ، وأن يتعمَّد المسلمُ ترك صلاة الجماعة لإقامة جماعة أخرى؛ لما في ذلك من تفريق صف المسلمين واختلافهم، وحتى لا يكون في ذلك مجالًا لأهل البدع أن يتخذوا لأنفسهم إمامًا يُصَلُّون خلفه.

قال الإمام الشافعي في "الأم" (1/ 180، ط. دار المعرفة): [إذا كان للمسجد إمامٌ راتبٌ ففاتت رجلًا، أو رجالًا فيه الصلاة؛ صلوا فرادى، ولا أحبُّ أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا؛ بل قد عابه بعضهم. وأحسب كراهية مَنْ كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام جماعة؛ فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة، وفيهما المكروه] اهـ.

وقال الإمام المازري المالكي في "شرح التلقين" (1/ 714، ط. دار الغرب الإسلامي): [فأما من أجاز ذلك: فإنه يتعلق بعموم قوله عليه السلام: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تفضُلُ صَلَاة أَحَدِكُم وَحْدَهُ» الحديث. ونحن إن سلمنا العموم في مثل هذا خصصناه بضرب من الاستدلال: وهو ما ذكره القاضي إسماعيل من أنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء وتفرق الكلمة؛ لأن الإِمام الراتب يقع في نفسه أن المنفردين بجماعة أخرى تأخروا عنه واتخذوا إمامًا لأنفسهم، لاعتقادهم أن الإِمامَ الراتب ليس بأهل للإمامة، فتقع الشحناء والعداوة بين الأئمة، ويؤدي إلى افتراق الكلمة. وقد علَّل أيضًا ذلك بتعليل آخر وهو أن في الإذن فيه تطريقًا لأهل البدع لأن يتخذوا لأنفسهم إمامًا يصلون خلفه] اهـ.

فإذا اجتمع المسلمون في مكانٍ واحدٍ على صلاة واحدة كصلاة الجنازة أو غيرها، فالأصل أن يصلوها بجماعة واحدة، وليس لأحدهم أو بعضهم تفريق صفّهم والابتداع في إقامة الصلاة مرتين بجماعتين؛ لما في ذلك الفعل من شذوذ بَيّن وخروج عن مقصود الشرع الشريف؛ حيث لم يسمح الشرع بتفريق المسلمين في جماعتين أبدًا حتى عند الضرورة الشديدة كالحروب والخوف.

قال العلامة الحطاب الرعيني في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 111، ط. دار الفكر): [ما قاله هؤلاء الأئمة ظاهر لا شك فيه؛ إذ لا يشك عاقل في أن هذا الفعل المذكور مناقض لمقصود الشارع من مشروعية صلاة الجماعة، وهو اجتماع المسلمين، وأن تعود بركة بعضهم على بعض، وأن لا يؤدي ذلك إلى تفرق الكلمة، ولم يسمح الشارع بتفريق الجماعة بإمامين عند الضرورة الشديدة وهي حضور القتال مع عدو الدين، بل أمر بقسم الجماعة وصلاتهم بإمام واحد] اهـ.

خلاصة حكم ترك صلاة الجنازة في المسجد بحجة وجود ضريح بالمسجد

بناء على ذلك: فتعمّد بعض الشباب ترك صلاة الجنازة في المسجد التي تقام فيه حتى يصلونها عند المقابر بحجة وجود ضريح بالمسجد هو فعل محرم؛ لما فيه من تفريق كلمة المسلمين وشق عصا جماعتهم ووحدتهم بقول باطل لا سند له، فهم وإن صحَّت صلاتهم للجنازة عند المقابر، إلا أنهم قد أثموا بسعيهم في الاختلاف بالباطل والمنازعة وشق الصف.

حكم التعدي على الأضرحة وهدمها

أما هدمُ الأضرحة -تحت أي دعوى- فهو أمرٌ مُحَرَّمٌ شرعًا ومجَرَّمٌ قانونًا، بل إن ذلك كبيرةٌ مِن كبائر الذنوب؛ لِمَا فيه مِن الاعتداءِ السافرِ على حُرمة الأموات، ولا ينبغي أن يَتَولَّى أمر هذه المساجد التي تحوي هذه الأضرحَةَ إلَّا مَن يَعرِف لأولياء الله تعالى قَدْرَهُم وحُرمَتَهُم، وينأون بأنفسهم عن التعدي على أضرحتهم؛ لتتحقق إقامةُ المساجد على تقوى مِن الله تعالى ورضوان.

وفي هذا المَقام تُؤَكِّدُ دارُ الإفتاءِ المصريةُ إجماعَ علماء الدِّينِ الإسلاميِّ في كُلِّ عَصرٍ على حُرمةِ الاعتداءِ على أضرحة الصالحين بالإساءة أو الهَدم، وعلى المسلمين في كل مكان أن يتصدَّوْا لهذه الدعوات الهدامة، وأن يقفوا وقفة رجل واحد لصدِّ عدوان هؤلاء المعتدين ودفع بغي الباغين؛ حتى لا تصير أضرحة الأولياء والصالحين وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقامات عظماء الأمة وعلمائها وشهدائها أُلْعوبةً بيد كل ناعقٍ منافقٍ أو دعيٍّ فاسق يُسَوِّلُ له شيطانه الأثيم التعديَ عليها بمثل هذه الشُّبَه الفاسدة والأغلوطات الكاسدة.

وقد صدر بيان من مجمع البحوث الإسلامية يُدِينُ تلك الممارسات أشدَّ الإدانة، ويناشدُ المسئولين أن يتصدَّوْا لها؛ مؤكدًا على أن هذه التصرفات مُحَرَّمةٌ شرعًا ومُجَرَّمةٌ عرفًا وقانونًا.

كما صدر بيان من وزارة الأوقاف المصرية؛ جاء فيه: أنه خرجت علينا فئة من ذوي المفاهيم المغلوطة لتضلّ الناس بغير علم وتقوم بالتطاول على الأولياء وأضرحتهم بالحرق والهدم، فحادُّوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وآذوا مشاعر المسلمين عامة والمصريين خاصة. وأنه قد أجمع علماء الدين الإسلامي في كل عصر على حرمة الاعتداء على أضرحة الصالحين بالإساءة أو الهدم لمخالفة ذلك لروح الشريعة الإسلامية، وأنَّ مَنْ يفعل ذلك يسعى في الأرض فسادًا ويحاول إشاعة الفوضى في المجتمع وزعزعة أمن الوطن واستقراره.

وعليه: فإنه لا يَجوزُ التَّهَجُّمُ على أضرحةِ الصالحين والعلماء وآلِ البيتِ، ويحرم السماح لهؤلاءِ البُغَاةِ العادِينَ بإزالة شيء مِنها، ويجب على كُلِّ مَن وَلَّاهم اللهُ أمرَ المساجد وشئونها أن يأخذوا على تلك الأيدي الآثمة التي لا تَعرف لقبور الصالحين حُرمةً، ولا تَرقُبُ في أولياء الأُمَّةِ إلًّا ولا ذِمَّة.

حكم قراءة القرآن الكريم عند المقابر وهبة الثواب للميت

أما قراءة القرآن عند المقابر فإنه قد جاء الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرر أنَّ الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال؛ فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعلى ذلك: فقراءة القرآن الكريم عند القبر حالة الدفن وبعده مشروعة ابتداءً بعموم النصوص الدالة على مشروعية قراءة القرآن الكريم، بالإضافة إلى أنه قد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثـار كثيرة عن السلف الصالح في خصوص ذلك؛ ذكرها الإمـام أبـو بكر الخلاَّل الحنبلي [ت: 311هـ] في جزء "القراءة على القبور" من كتاب "الجامع"، ومثلُه الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزءٍ أَلَّفه في هذه المسألة، والإمام القرطبي المالكي [ت: 671هـ] في كتابه "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة"، والحافظ السيوطي الشافعي [ت: 911هـ] في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور"، والحافظ السيد عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري [ت: 1413هـ] في كتابه "توضيح البيان لوصول ثواب القرآن"، وغيرهم ممن صَنَّفَ في هذه المسألة.

فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك:

ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلَاجِ، عن أبيه قال: قال لي أبي –اللَّجْلاَجُ أبو خالد–: يا بُنَيَّ! إذا أنا متُّ فأَلْحِدْني، فإذا وضَعْتَني في لحدي فقل: بسم الله، وعلى ملة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا –أي ضَعْه وضعًا سهلًا–، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها؛ فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ ذلك. أخرجه الخلال في جزء "القراءة عند القبور"، والطبراني في "المعجم الكبير" وذكره السيوطي في "الجامع الكبير" (21/ 227، ط. الأزهر الشريف)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 1231، ط. دار أضواء السلف).

وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما. كما أخرجه الخلاَّل في جزء "القراءة على القبور" والبيهقي في "السنن الكبرى" وغيرهما، وحسّنه النووي وابن حجر.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وَأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَلْيُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَبْرِهِ». أخرجه الطبراني والبيهقي في "شعب الإيمان"، وإسناده حسن كما قال الحافظ في "الفتح"، وفي رواية «بفاتحة البقرة» بدلًا من «فاتحة الكتاب».

وفي المسألة أحاديث أخرى، لكنها واهية الأسانيد:

منها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ مَرَّ عَلَى الْمَقَابِرِ وَقَرَأَ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ وَهَبَ أَجْرَهُ لِلْأَمْوَاتِ؛ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ الْأَمْوَاتِ» خرَّجه الخلَّال في "القراءة على القبور" والسمرقندي في "فضائل قل هو الله أحد".

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم: «مَنْ دَخَلَ الْمَقَابِرَ ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ و﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، ثُمَّ قَالَ: اللهم إِنِّي جَعَلْتُ ثَوَابَ مَا قَرَأْتُ مِنْ كَلَامِكَ لِأَهْلِ الْمَقَابِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَانُوا شُفَعَاءَ لَهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى» خرَّجه أبو القاسم الزنجاني في "فوائده".

ومنها حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ دَخَلَ المقَابِر، فَقَرَأَ سُورَةَ يس، خَفَّفَ الله عَنْهُم، وكان لَه بِعَدَدِ مَنْ فيها حَسَنَات» خرَّجه عبد العزيز صاحب الخلَّال، كما ذكر ذلك ابن سرور في جزء "الكلام على وصول القراءة للميت" (1/ 222، ط. الدار الأثرية)، والقرطبي في "التذكرة" (ص: 286، ط. دار المنهاج)، وشمس الدين السروجي في "نفحات النسمات" (1/ 291، ط. الدار الأثرية).

قال الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في "جزئه" الذي ألَّفه في هذه المسألة: [وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة، فمجموعها يدل على أن لذلك أصلًا، وأن المسلمين ما زالوا في كل مصر وعصر يجتمعون ويقرأون لموتاهم من غير نكير؛ فكان إجماعًا] اهـ.

وجاءت السنة بقراءة سورة (يس) على الموتى، في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اقْرَءُوا (يس) عَلَى مَوْتَاكُمْ» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.

قال الإمام القرطبي في "التذكرة" (1/ 187): [وهذا يحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت في حال موته، ويحتمل أن تكون عند قبره] اهـ.

قال الحافظ السيوطي في "شرح الصدور" (1/ 304، ط. دار المعرفة): [وبالأول قال الجمهور كما تقدم في أول الكتاب، وبالثاني قال ابن عبد الواحد المقدسي في الجزء الذي تقدمت الإشارة إليه، وبالتعميم في الحالتين قال المحبُّ الطبري من متأخري أصحابنا] اهـ.

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى" (2/ 27، ط. المكتبة الإسلامية): [أخذ ابن الرفعة وغيره بظاهر الخبر، وتَبِعَ هؤلاء الزركشيُّ فقال: لا يَبْعُدُ –على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه– أنه يُنْدَبُ قراءتها في الموضعين] اهـ.

كما جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على الجنازة؛ وذلك لأن فيها من الخصوصية في نفع الميت وطلب الرحمة والمغفرة له ما ليس في غيرها، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا عِوَضًا عَنْهَا» رواه الدارقطني وصححه الحاكم، وبوَّب لذلك الإمام البخاري في "صحيحه" بقوله (باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ)، وهذا أعمّ من أن يكون في صلاة الجنازة أو خارجها: فمن الأحاديث ما يدل على أنها تُقرأ في صلاة الجنازة، ومنها ما يدل على أنها تُقرأ عند الدفن أو بعده كحديث ابن عمر السابق عند الطبراني وغيره، ومنها ما يدل بإطلاقه على كلا الأمرين؛ كحـديث أم عفيف النهدية رضي الله عنها قالت: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حِينَ بَايَعَ النِّسَاءَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا تُحَدِّثْنَ الرَّجُلَ إِلَّا مَحْرَمًا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَقْرَأَ عَلَى مَيِّتِنَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، وحديث أم شريك رضي الله عنها قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» رواه ابن ماجه.

واستدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ» ثُمَّ قَالَ: «بَلَى؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا» متفق عليه.

قال الإمام بدر الدين العيني في "عمدة القاري" (3/ 118، ط. دار إحياء التراث العربي): [قَالَ الْخطابِيّ: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنه إذا كان يُرْجَى عن الميت التخفيفُ بتسبيح الشجر، فتلاوة القرآن العظيم أكبرُ رجاءً وبركة] اهـ.

وقال الإمام القرطبي في "التذكرة" (1/ 275): [وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باثنين.. قالوا: ويُستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خُفِّفَ عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن، قال: ولهذا استحب العلماء زيارة القبور؛ لأن القراءة تُحْفَةُ الميت من زائره] اهـ.

وقال الإمام النووي في "شرح مسلم" (3/ 202، ط. دار إحياء التراث العربي): [واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث؛ لأنه إذا كان يُرجى التخفيفُ بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولى، والله أعلم] اهـ.

وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجنازة على القبر غير مرة كما جاء في "الصحيحين" وغيرهما، والصلاة مشتملة على قراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذكر والدعاء، وما جاز كله جاز بعضه.

كما أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت من جواز الحجّ عنه ووصول ثوابه إليه؛ لأن الحج يشتمل على الصلاة، والصلاة تقرأ فيها الفاتحة وغيرها، وما وصل كله وصل بعضه، وهذا المعنى الأخير وإن نازع فيه بعضهم إلا أن أحدًا من العلماء لم يختلف في أن القارئ إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب.

وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلًا بعد جيل وخلفًا عن سلف من غير نكير، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة، حتى نقل الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الإجماع على ذلك –كما سبق-، ونقله أيضًا الشيخ العثماني في كتابه "رحمة الأمة في اختلاف الأئمة" (ص: 70، ط. دار الكتب العلمية-بيروت)، ونص عبارته في ذلك: [وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج والعتق تنفع الميت ويصل إليه ثوابه، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة] اهـ.

ومن الآثار في ذلك عن السلف الصالح:

ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" عن الإمام الشعبي رحمه الله قال: "كانَتِ الأنصارُ يقرأون عند الميِّتِ بسورة البقرة"، وأخرجه الخلَّال في "القراءة على القبور" بلفظ: "كانت الأنصارُ إذا مات لهم مَيِّتٌ اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن".

وأخرج الخلَّال عن إبراهيم النخعي رحمه الله قال: "لا بَأْسَ بقراءةِ القرآنِ في المقابِر".

وأخرج أيضًا عن الحسن بن الصَّبَّاح الزعفراني قال: سأَلْتُ الشافعيَّ عن القراءة عند القبور، فقال: "لا بَأْسَ بِهَا".

وأخرج أيضًا عن عليِّ بن موسى الحداد قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دُفِن الميِّتُ جلس رجلٌ ضريرٌ يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا! إن القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! ما تقول في مُبَشِّرٍ الحَلَبِيّ؟ قال: ثقة، قال –يعني أحمد–: كتبتَ عنه شيئًا؟ قال: نعم؛ أخبرني مُبَشِّرٌ عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه: أنه أوصى إذا دُفِن أن يُقْرَأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يوصي بذلك. فقال له أحمد: فارجع وقل للرجل يقرأ.

وأخرج أيضًا عن العباس بن محمد الدُّوري أنه سأل يحيى بن معين عن القراءة على القبر، فحدَّثه بهذا الحديث.

وقد نص أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك:

فجاء في "الفتاوى الهندية" على مذهب السادة الحنفية (1/ 166، ط. دار الفكر): [ويُستحب إذا دُفِن الميت أن يجلسوا ساعة عند القبر بعد الفراغ بقدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها؛ يَتْلُونَ، ويَدْعُون للميت] اهـ، وذكر أن ذلك قول الإمام محمد بن الحسن رحمه الله، وأن مشايخ الحنفية أخذوا به.

وأما السادة المالكية: فالمحققون منهم -وهو المعتمد عند متأخريهم- على جواز ذلك، وأن ثواب القراءة يصل إلى الميت؛ ففي "حاشية العلامة الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 423، ط. دار الفكر): [وفي آخر "نوازل ابن رشد" في السؤال عن قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، قال: وإن قرأ الرجل وأهدى ثواب قراءته للميت جاز ذلك وحصل للميت أجره، وقال ابن هلال في "نوازله": الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين: أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقًا وغربًا؛ ووقفوا على ذلك أوقافًا واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة، ثم قال: ومن اللطائف: أن عز الدين بن عبد السلام الشافعي رُئِي في المنام بعد موته فقيل له: ما تقول فيما كنت تنكر من وصول ما يُهدَى من قراءة القرآن للموتى؟ فقال: هيهات؛ وجدتُ الأمرَ على خلاف ما كنت أظن اهـ بن، -أي: الْعَلَّامَةُ محَمَّدٌ الْبُنَانِيُّ-] اهـ.

وجاء في "الفروق" للإمام القرافي (3/ 223، ط. عالم الكتب): [وأما القراءة على القبر: فنص ابن رشد في "الأجوبة"، وابن العربي في "أحكام القرآن" له، والقرطبي في "التذكرة" على أنه ينتفع بالقراءة، أعني الميت، سواء قرأ في القبر أو قرأ في البيت] اهـ.

أما السادة الشافعية: فقد قال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 311، ط. دار الفكر): [قال أصحابنا: ويُستحب للزائر أن يُسلِّم على المقابر، ويدعو لمن يزوره ولجميع أهل المقبرة، والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما يَثْبُتُ في الحديث، ويُسْتَحَبُّ أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر ويدعو لهم عقبها، نصَّ عليه الشافعيُّ، واتفق عليه الأصحاب] اهـ.

وقال في "الأذكار" (1/ 161، ط. دار الفكر): [ويُسْتَحَبُّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعةً قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن، والدعاء للميت، والوعظ، وحكايات أهل الخير، وأحوال الصالحين. قال الشافعي والأصحاب: يُستحب أن يقرأوا عنده شيئًا من القرآن؛ قالوا: فإن ختموا القرآن كله كان حسنًا] اهـ.

وقال في "رياض الصالحين": [قال الشافعي رحمه الله: ويُستحب أن يُقرأ عنده شيءٌ من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا] اهـ.

وكذلك السادة الحنابلة صرَّحوا بجواز ذلك.

قال العلامة المرداوي في "الإنصاف" (2/ 557، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله: (ولا تُكره القراءة على القبر في أصح الروايتين) وهذا المذهبُ، قاله في "الفروع"، ونصّ عليه –يعني الإمام أحمد–، قال الشارح: هذا المشهور عن أحمد، قال الخلَّال وصاحبُه: المذهب رواية واحدة: لا تكره، وعليه أكثر الأصحاب؛ منهم القاضي، وجزم به في "الوجيز" وغيره، وقدّمه في "الفروع"، و"المغني"، و"الشرح"، "وابن تميم"، و"الفائق"، وغيرهم] اهـ.

والمتصفح لكتب السير والتراجم والتواريخ يرى عمل السلف على ذلك وتتابع الأمة عليه من غير نكير، بما في ذلك السادة الحنابلة وأصحاب الحديث، ويكفينا في ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة أبي جعفر الهاشمي الحنبلي [ت: 470هـ] شيخ الحنابلة في عصره، قال: [ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد، ولزم الناس قبره مدةً حتى قيل: خُتِم على قبره عشرة آلاف ختمة] اهـ.

حتى إنَّ الشيخ ابن تيمية -وهو الذي ادّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف- قد ذكر ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره من المؤرخين في ترجمته أنَّ الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا