ما حكم من أكل أو شرب عامدًا في نهار رمضان؟
حكم من أكل أو شرب متعمدًا في نهار رمضان
مَن أكل أو شرب في نهار رمضان عامدًا عالمًا بوجوب الصوم عليه من غير عذرٍ ولا ضرورةٍ من سفرٍ أو مرضٍ أو نحوهما، فقد ظلم نفسَهَ باقترافِ كبيرة من كبائر الذنوب، والواجب عليه في هذه الحالة أن يتوب إلى اللهِ تعالى منها، مع وجوب قضاء الصوم فقط من غير كفارة لذلك.
التفاصيل ....المحتويات
- مفهوم الطاعة وعلاقته بالصيام
- الإجماع على وجوب صيام شهر رمضان
- ثواب من أطاع الله بصيام شهر رمضان
- ما يلزم العاصي بالفطر عمدًا في رمضان
- الخلاصة
مفهوم الطاعة وعلاقته بالصيام
امتدح الله تعالى المسلمين بأنهم أمة الطاعة الذين استجابوا لله تعالى ورسوله؛ فأتمروا بما أُمِروا به، وانتهوا عما نُهُوا عنه؛ فقال تعالى في سياق المدح لهم المقتضي لدوام الامتثال: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
قال الإمام ابن عطية في "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/ 392، ط. دار إحياء التراث العربي): [﴿وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا﴾ مدحٌ يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأن يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر، والطاعة: قبول الأوامر] اهـ.
وطاعة الله تعالى: هي فعل ما افترضه من الفروض، والكف عما نهى عنه من النواهي، فيحرم على المسلم ترك ما افترضه الله تعالى عليه دون عذرٍ أو ضرورةٍ؛ لما في ذلك من معصية الله تعالى الموجبة لغضبة وعقابه.
ومن أعظم الفروض والطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه: صوم رمضان، وذلك بما فضله الله تعالى به؛ حيث خصه من بين سائر العبادات بأنه له سبحانه، وذلك فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فلم ينص على عظيم ثوابه وجعله مقدرًا عند الله تعالى لعظمه، إلا أنه مع ذلك بَيَّن أنَّ من ذلك الثواب والجزاء العظيم مغفرة جميع ما مضى من الذنوب والآثام؛ فقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 184].
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «إِنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ افْتَرَضَ اللهُ صِيَامَهُ، وَإِنِّي سَنَنْتُ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ خَرَجَ مِنَ الذَّنْبِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أخرجه أحمد وأبو يعلى الموصلي في "المسند"، وابن خزيمة في "الصحيح".
الإجماع على وجوب صيام شهر رمضان
وقد أجمع المسلمون على أنَّ صيام شهر رمضان فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل خالٍ عن موانع الصوم؛ كالحيض والنفاس، وكذا رخصه؛ كالمرض والسفر والكبر.
قال الإمام ابن حزم الظاهري في "مراتب الإجماع" (ص: 39، ط. دار الكتب العلمية): [اتَّفقُوا على أَن صِيَام نهَار رمضَان على الصَّحِيح الْمُقِيم الْعَاقِل الْبَالِغ الذِي يعلم أَنه رمَضَان وَقد بلغه وجوب صِيَامه وهو مُسلم، وليس امْرَأَة لا حائِضًا وَلَا حامِلًا وَلَا مُرْضعًا.. فرض مذ يظْهر الْهلَال من آخر شعْبَان إلى أَن يتَيَقَّن ظُهُوره من أول شَوَّال] اهـ.
وقال العلامة ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 226، ط. الفاروق الحديثة): [ولا خلاف بين العلماء في أن صيام شهر رمضان واجب] اهـ.
ثواب من أطاع الله بصيام شهر رمضان
بينما تواردت النصوص في بيان جزيل ثواب من أطاع الله تعالى بصيام شهر رمضان، تواردت في زجر مَنْ أفطر ولو يومًا واحدًا منه متعمدًا بلا عذر، ومِن ذلك أنه لن يبلغ ثواب ما فاته فيه من أجرٍ ولو بصيام الدهر كله تعويضًا عنه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ» أخرجه البخاري في "الصحيح".
وعنه أيضًا رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلَا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ» أخرجه الترمذي -واللفظ له-، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي في "السنن"، وابن خزيمة في "الصحيح".
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: إني أفطرت يومًا من شهر رمضان؛ فهل تجد لي مخرجًا؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إِنْ قَدَرْتَ عَلَى يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَارِغًا فَصُمْهُ مَكَانَهُ"، قال: وهل أجد يومًا من رمضان فارغًا؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "وَهَلْ أَجِدُ لَكَ فِي الْفُتْيَا غَيْرَ هَذَا!" أخرجه ابن شاهين في "فضائل رمضان"، والحسن الخلال في "الأمالي".
وقد عدَّ الإمام ابن حجر الهيتمي الفطر في رمضان دون عذرٍ من كبائرِ الذنوب؛ فقال في "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (1/ 323، ط. دار الفكر): [الكبيرة الأربعون والحادية والأربعون بعد المائة: ترك صوم يوم من أيام رمضان، والإفطار فيه بجماع أو غيره بغير عذر من نحو مرض أو سفر] اهـ.
ما يلزم العاصي بالفطر عمدًا في رمضان
من رحمة الله تعالى ورعايته لِمَا جُبِلَ عليه الإنسان من ضعفٍ، شَرع له التوبة عن معاصيه، واستكمال واستدراك ما قد فاته أو قصر فيه، حتى ولو كان ذلك بفعل كبيرة أو ترك فريضة، ومِن هنا تواردت نصوص الفقهاء في بيان ما يَلزَم مَن أفطر في نهار رمضان متعمدًا بأكلٍ أو شربٍ بدون عذرٍ لجبرِ ما فاته من طاعة وتكفير ما لحقه من إثم؛ فأجمعوا على أنه يلزمه القضاء، واختلفوا في لزوم الكفارة لذلك على قولين.
فأمَّا إجماعهم على وجوب القضاء:
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" (2/ 112، ط. المطبعة العلمية): [لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أنَّ مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ فإنه لا قضاء عليه، ولا في أنَّ مَنِ استقاء عامدًا أنَّ عليه القضاء] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر القرطبي في "الاستذكار" (1/ 77، ط. دار الكتب العلمية): [وأَجْمَعَتِ الأمةُ ونَقَلَتِ الكافةُ فيمَن لم يَصُمْ رمضان عامدًا وهو مؤمنٌ بفرضه وإنما تركه أشرًا وبطرًا تَعَمَّدَ ذلك ثم تاب عنه: أن عليه قَضَاءَهُ] اهـ.
وقال الإمام الرجراجي المالكي [ت: 633هـ] في "مناهج التحصيل" (2/ 57، ط. دار ابن حزم): [القضاء واجبٌ في رمضان بالإجماع] اهـ.
وأما الاختلاف في لزوم الكفارة:
فمذهب الحنفية والمالكية: أنه يلزمه القضاء، والكفارة؛ وهي صيام شهرين متتابعين؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أفطر في رمضان، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قال: لا أجد، فأُتِيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بعِرقٍ من تمر، فقال: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ»، فقال: يا رسول اللهِ ، ما أجد أحدًا أحوج إليه مني، قال: «كُلْهُ» رواه البخاري في " الصحيح" وأحمد في "المسند" ومالك في "الموطأ" واللفظ له.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "الموطأ" (ص: 123، ط. المكتبة العلمية) بعد روايته هذا الحديث: [وبهذا نأخذ؛ إذا أفطر الرجل متعمدًا في شهر رمضان بأكل أو شرب أو جماع فعليه قضاء يوم مكانه] اهـ.
وقال الإمام المرغيناني الحنفي في "الهداية في شرح بداية المبتدي" (1/ 122، ط. دار إحياء التراث العربي): [ولو أكل أو شرب ما يُتَغَذَّى به أو ما يُدَاوَى به فعليه القضاء والكفارة] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "الكافي" (1/ 343، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [وإنْ أفطر في يومين أو أيام عامدًا فعليه لكل يوم كفارة] اهـ.
وقال الإمام اللخمي المالكي في "التبصرة" (2/ 790، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب): [الكفارة تجب بأربعة شروط وهو: أن يفطر بأحد الوجوه التي أمر بالإمساك عنها عامدًا، غير ناسٍ، ولا جاهلٍ، ولا متأوِّلٍ] اهـ.
غير أنَّ كثيرًا من أهل العلم قد حملوا حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه -السابق ذكره- على وجوب الكفارة على من أفطر بجماع؛ لأنَّه أغلظَ في الاثم، لا من أفطر بأكل أو شرب أو غيرهما من المفطرات.
قال الإمام الترمذي في "السنن" (3/ 93، ط. الحلبي): ["حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديثٌ حسنٌ صحيح"، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم فيمن أفطر في رمضان متعمدًا من جماع] اهـ. وذكره العلامة المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (3/ 417، ط. المطبعة السلفية).
وقد تواردت الآثار عن جماعة من الصحابة والتابعين في الاقتصار على الاستغفار والقضاء لمَنْ أكلَ أو شرب متعمدًا في نهار رمضان من غير عذرٍ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» رواه الدارقطني في "السنن". والمُسْتَقِيء عامدًا كالآكل عامدًا؛ لأنَّ كليهما مرتكبٌ لما ينافي الصوم ويفسده، والكفارة إنما تلزم فيما نُصَّ عليه، ولا نصَّ في لزومها على مَن أفطر بالأكل والشرب عامدًا؛ كما في "الحاوي" للإمام الماوردي (3/ 434، ط. دار الكتب العلمية).
وروى البخاري في "صحيحه" عن سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ رضي الله عنه، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادٍ رحمهم الله؛ فيمَن أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ؟ أنه: "يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ".
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أنه سُئِلَ عن رَجُلٍ أَفْطَرَ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمًا مُتَعَمِّدًا؛ مَا كَفَّارَتُهُ؟ فقال: "يَصُومُ يَوْمًا مَكَانَهُ، وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ " أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"، والبيهقي في "السنن"، وفي رواية ابن أبي شيبة أنه قال: "يَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ ذَلِكَ، وَيَتُوبُ إِلَيْهِ، وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ".
والقولُ بالاقتصار على قضاء الصوم بمثله من غير كفارةٍ مع التوبة إلى اللهِ تعالى والاستغفار هو ما ذهب إليه فقهاء الشافعية والحنابلة ونصُّوا عليه، وهو المختار للفتوى.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 336، ط. دار الكتب العلمية): [ولا تجب عليه الكفارة؛ لأن الأصلَ عدم الكفارة إلا فيما ورد به الشرع، وقد ورد الشرع بإيجاب الكفارة في الجماع، وما سواه ليس في معناه؛ لأن الجماع أغلظ] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 119، ط. مكتبة القاهرة): [ومَن أكل، أو شرب، أو احتجم، أو استعط، أو أدخل إلى جوفه شيئًا من أيِّ موضعٍ كان، أو قَبَّلَ فَأَمْنَى، أو أمذَى، أو كَرَّرَ النظر فأنزل، أيُّ ذلك فَعَلَ عَامدًا وهو ذاكرٌ لصَومهِ؛ فعليه القضاء بلا كفارةٍ إذا كان صومًا واجبًا] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ مَن أكل أو شرب في نهار رمضان عامدًا عالمًا بوجوب الصوم عليه من غير عذرٍ ولا ضرورةٍ من سفرٍ أو مرضٍ أو نحوهما، فقد ظلم نفسَهَ باقترافِ كبيرة من كبائر الذنوب، والواجب عليه في هذه الحالة أن يتوب إلى اللهِ تعالى منها، مع وجوب قضاء الصوم من غير كفارة لذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.