ما مدى صحة الحديث الوارد في صلاة التسابيح؟ وما حكمها؟ حيث يدَّعي بعض الناس أنها بدعة وضلالة، وأن حديثها مكذوب وموضوع.
مدى صحة الأحاديث الواردة في صلاة التسابيح
أحاديث صلاة التسابيح مروية من طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا، وجماهير العلماء من المحدِّثين والفقهاء سلفًا وخلفًا على ثبوت حديثها، وقليل منهم ضعَّفه، ثم من المُضَعِّفين من أجاز فعلَها ومنهم من كرِهَهُ، ولم يُنقَل عن أحد منهم القول بتحريمها أو بطلانها، بل كان كثير من السلف يحرص على المداومة على أدائها، ومجرد المخالفة في هيئة الصلاة عن الهيئة المعتادة لا يقدح في مشروعيتها كما هو الحال في كثير من الصلوات؛ كالعيدين والجنازة والكسوف والخسوف والخوف.
التفاصيل ....المحتويات
- صحة الحديث الوارد في صلاة التسابيح وكيفية أدائها
- حكم صلاة التسابيح
- الرد على من يزعم أن أحاديث صلاة التسابيح موضوعة
- الخلاصة
صحة الحديث الوارد في صلاة التسابيح وكيفية أدائها
حديث صلاة التسابيح مرويٌّ من طرق كثيرة مِن حديثِ أكثر مِن عشرةٍ مِن الصحابة، وعن عدة من التابعين، وقد أخرج حديثَها أئمةُ الإسلام وحُفَّاظُه؛ كما يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في "أجوبته على أحاديث المصابيح" المطبوع في آخر كتاب "المصابيح" (3/ 1780، ط. المكتب الإسلامي)، وقد توارثتها الأُمَّةُ؛ كما يقول العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 216، ط. دار الكتب العلمية).
وأمثلُ طرقها حديث عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: « يَا عَبَّاسُ، يَا عَمَّاهُ، أَلَا أُعْطِيكَ، أَلَا أَمْنَحُكَ، أَلَا أَحْبُوكَ، أَلَا أَفْعَلُ لَكَ عَشْرَ خِصَالٍ، إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَقَدِيمَهُ وَحَدِيثَهُ، وَخَطَأَهُ وَعَمْدَهُ، وَصَغِيرَهُ وَكَبِيرَهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ.
عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ قُلْتَ وَأَنْتَ قَائِمٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعُ فَتَقُولُ وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ الرُّكُوعِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا فَتَقُولُهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَسْجُدُ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَكَ مِنْ السُّجُودِ فَتَقُولُهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، تَفْعَلُ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَلْ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَفِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً» رواه البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام"، وأبو داود وابن ماجه في "سننهما"، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو علي بن السكن في "صحيحه"، والطبراني في "المعجم الكبير"، وابن شاهين في "الترغيب والترهيب"، والحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "السنن الكبرى" و"الدعوات"، والبغوي في "شرح السنة".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني -فيما نقله عنه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 38-39، ط. دار المعرفة)-: [رجال إسناده لا بأس بهم، عكرمة احتج به البخاري، والحَكَمُ صدوق، وموسى بن عبد العزيز قال فيه ابن معين: لا أرى به بأسًا، وقال النَّسَائي نحو ذلك.. وقد أساء ابن الجوزي بذكره إياه في "الموضوعات"] اهـ.
وقد صحَّح حديثَ صلاة التسابيح أو حسّنه وقوَّى العمل به جماعةٌ من الحفاظ، منهم: أمير المؤمنين في الحديث إسحاق بن راهويه، وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وابن خزيمة، وأبو علي بن السكن، وأبو حفص عمر بن شاهين، والدارقطني الذي أفردها بجميع طرقها في جزء، والحاكم في "المستدرك"، وأبو بكر الآجري، وابن منده وألف في تصحيحه كتابًا، والبيهقي، والخطيب البغدادي وجمع طرقها في جزء، ومحيي السنة البغوي، وأبو سعد السمعاني، وأبو موسى المديني وجمع طرقها في جزء سماه "تصحيح صلاة التسابيح"، وأبو محمد عبد الرحيم المصري، وأبو الحسن المقدسي، والحافظ المنذري، والحافظ ابن الصلاح، والنووي في "تهذيب الأسماء واللغات"، والإمامان التقي وولده التاج السبكيان، والحافظ العلائي، والإمام الزركشي، والسراج البلقيني، والعلامة ابن الوزير، والحفاظ: ابن ناصر الدين الدمشقي، وابن حجر العسقلاني، والجلال السيوطي ولكل منهم في تصحيحه جزء، وغيرهم.
قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه الحنظلي فيما نقله عنه تلميذه منصور بن إسحاق الكوسج في "مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه" (9/ 4696، ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): [لا أرى بأسًا إن استعمل صلاة التسبيح على ما جاء أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر العباس رضي الله عنه بذلك؛ لأنه يُروَى من أوجه مرسلًا، وإن بعضهم قد أسنده، ويشد بعضه بعضًا، وقد ذُكر فيه مِن الفضل ما ذُكِر] اهـ.
وقال علي بن سعيد النسائي: "سألت أحمد عن صلاة التسبيح، فقال: لا يصح فيها عندي شيء، قلت: المستمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عمرو؟ فقال: من حدثك؟ قلت: مسلم بن إبراهيم، قال: المستمر ثقة، وكأنه أعجبه" اهـ. نقله الحافظ ابن حجر في "أجوبته عن أحاديث المصابيح" (3/ 1780، ط. المكتب الإسلامي)، ثم قال: [فهذا النقل عن أحمد يقتضي أنه رجع إلى استحبابها، وأمَّا ما نقله عنه غيره فهو معارَض بمن قوَّى الخبر فيها وعمل بها، وقد اتفقوا على أنَّه لا يُعمَل بالموضوع وإنما يُعمَل بالضعيف في الفضائل وفي الترغيب والترهيب] اهـ.
وقال الإمام مسلم: "لا يُروَى في هذا الحديث إسناد أحسن من هذا"، وقال أبو داود: "ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا"، وقال الترمذي: "وقد رأى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسابيح وذكروا الفضل فيه".
وقال الإمام الحاكم في "المستدرك" (1/ 464-465، ط. دار الكتب العلمية): [هذا إسناد صحيح لا غبار عليه، ومما يُستَدَلُّ به على صحة هذا الحديث: استعمالُ الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا هذا إياه، ومواظبتهم عليه وتعليمه الناس، منهم عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه.. وساقه عن ابن المبارك ثم قال: رواة هذا الحديث عن ابن المبارك كلهم ثقات أثبات، ولا يُتَّهَم عبد الله أن يُعلِّمَه ما لم يصحّ عنده سندُه] اهـ.
وقال الحافظ البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 123، ط. مكتبة الرشد): [كان عبد الله بن المبارك يفعلها، وتداولها الصالحون بعضهم من بعض، وفيه تقوية للحديث المرفوع] اهـ.
وقال الحافظ الديلمي في "مسند الفردوس": [صلاة التسابيح أشهر الصلوات وأصحها إسنادًا] اهـ.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: "من أراد بحبوحة الجنة فعليه بهذه الصلاة".
حكم صلاة التسابيح
والقول بمشروعية هذه الصلاة واستحبابها هو ما نصَّ عليه جماهير العلماء سلفًا وخلفًا، وهو ما عليه جماهير فقهاء المذاهب الأربعة المتبوعة.
فهو مذهب السادة الحنفية:
فنصَّ الإمام الكاساني في "بدائع الصنائع" (1/ 216، ط. دار الكتب العلمية) على أنَّ هذه الصلاة توارَثَتْها الأُمّة.
وقال العلامة الزبيدي الحنفي في "إتحاف السادة المتقين" (3/ 478، ط. مؤسسة التاريخ العربي): [وقد نصَّ على استحبابها غيرُ واحدٍ مِن أصحابنا آخرهم صاحب "البحر"، والبرهان الحلبي، وذكرها فخر الإسلام البزدوي في "شرح الجامع الصغير" لمحمد بن الحسن] اهـ.
وكان الإمام أبو المعالي الباخرزي الحنفي [ت: 659هـ] يصليها جماعة؛ كما نقل الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (23/ 365، ط. مؤسسة الرسالة)، وكذلك الإمام أبو الفتح ركن الدين الملتاني [ت: 734هـ] ومات رحمه الله وهو يصليها ليلة الجمعة؛ كما في "الإعلام بمَنْ في تاريخ الهند من الأعلام" للعلامة الطالبي (2/ 143، ط. دار ابن حزم)، ويُروَى ذلك أيضًا عن الإمام الفقيه حاتم الحملاني اليمني [ت: 765هـ] كما في "الملحق التابع للبدر الطالع" (2/ 67، ط. دار المعرفة).
وهو الذي عليه السادة المالكية؛ حيث ذكرها القاضي عياض المالكي في الصلوات الفضائل ذوات الأسباب كما في كتابه "الإعلام بحدود وقواعد الإسلام" (ص: 48، ط. دار الفضيلة)، والإمام أبو القاسم بن جُزَيٍّ في "القوانين الفقهية" (ص: 33)، والإمام العارف سيدي أحمد زروق، والعلامة التتائي في "فتح الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل" -كما في "منهج التوضيح لمسائل صلاة التسبيح" للعلامة الهاشمي السلوي المالكي (ص: 51-52، ط. مركز نجيبويه)-.
وهو ما عليه السادة الشافعية في طريقتي الخراسانيين والعراقيين متقدميهم ومتأخريهم.
وهذا هو ما استقر عليه قول الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث رجع عن القول بتضعيفها؛ كما استظهره الحافظ ابن حجر في "أجوبته على المصابيح" (3/ 1780).
وعقد شيخ الإسلام العارف بالله عبد القادر الجيلاني الحنبلي إمام الحنابلة وسيدُ أهل الطريق فصلًا في فضلها في كتاب" الغنية" (2/ 244، ط. دار الكتب العلمية).
وصنف الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي في تصحيحها كتابًا؛ كما في "العواصم والقواصم في الذبّ عن سنة أبي القاسم" صلى الله عليه وآله وسلم للعلامة ابن الوزير (9/ 141، مؤسسة الرسالة).
ونصَّ الإمام ابن قدامة الحنبلي على جواز فعلها حتى مع القول بضعف حديثها؛ فقال في "المغني" (2/ 98، ط. مكتبة القاهرة): [وإن فعلها إنسان فلا بأس؛ فإنَّ النوافل والفضائل لا يُشْتَرَطُ صحة الحديث فيها] اهـ.
وشيخ الإسلام أبو عمر المقدسي الحنبلي [ت: 607هـ]؛ فكان يصليها كل ليلة جمعة؛ كما في "سير أعلام النبلاء" للذهبي (7/ 22) و"ذيل طبقات الحنابلة" للحافظ ابن رجب الحنبلي (3/ 114، ط. مكتبة العبيكان).
وصنف في تصحيحها الإمام المحدِّث شمس الدين ابن أبي الفتح البعلي الحنبلي [ت: 709هـ] جزءًا سماه "الحر النجيح في الكلام على صلاة التسبيح" وقال فيه عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما بعد أن ساقه بسنده إليه (ق: 2/ ب): [هذا الإسناد مني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم ثقاتٌ، ولا أعلم فيه شذوذًا ولا علة؛ فيقتضي ذلك كونه صحيحًا أو حسنًا] اهـ. ثم قال (ق: 2/ ب): [يجوز فعلها في الجماعة من غير كراهة ومنفردًا؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل الأمرين كليهما] اهـ.
وللعلماء في تصحيح حديثها مصنفات كثيرة.
ويرى بعضُ العلماء أنَّ حديثها ضعيف؛ ويُروَى هذا عن الإمام أحمد وقد رجع عنه كما سبق، والحافظ العقيلي، والقاضي أبو بكر بن العربي، والمجد الفيروز آبادي، وقال بكراهة فعلها جماعةٌ مِن الحنابلة، ومال الحافظ ابن حجر للتضعيف في "التلخيص الحبير"؛ وكتاب "التلخيص" من أوائل كتبه؛ فإنه فرغ منه تعليقًا سنة 812هـ، وفرغ منه تتبعًا سنة 820هـ -كما وُجِدَ بخطه في آخر "التلخيص" (4/ 404، ط. مؤسسة قرطبة)-، ثم إنه رجع عن ذلك فحسّنها في كتبه التي صنفها بعد ذلك؛ كما في "أمالي الأذكار" التي استمر في تصنيفها حتى توفي؛ كما في "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر" للحافظ السخاوي (2/ 583، ط. دار ابن حزم).
والقول بتضعيفها لا يستلزم بطلان فعلها أو بدعيته؛ فإنَّ السلف اتفقوا على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وهذا الإمام ابن قدامة الحنبلي يقول -كما سبق النقل عنه-: [وإن فعلها إنسان فلا بأس؛ فإن النوافل والفضائل لا يُشْتَرَط صحة الحديث فيها] اهـ.
الرد على من يزعم أن أحاديث صلاة التسابيح موضوعة
أما القول بأنها موضوعة فهو قول الحافظ ابن الجوزي الحنبلي، ولم يسبقه إلى ذلك أحد، وتبعه على ذلك ابن تيمية؛ قال العلامة ابن مفلح في "الفروع" (2/ 405، ط. مؤسسة الرسالة): [وادَّعَى شيخُنا أنه كذبٌ] اهـ، وقد ردَّ عليهم العلماء والحفاظ في ذلك، وبينوا أنَّ القولَ بوضعها أو كذبها قولٌ مهجورٌ مُطَّرحٌ، لا يساعده نقل ولا يَدُلُّ له عقلٌ؛ قال الحافظ الفقيه محب الدين الطبري [ت: 694هـ] -فيما نقله الحافظ سراج الدين بن المُلَقِّن في "البدر المنير" (4/ 241، ط. دار الهجرة)-: [لم يكن له أن يذكر هذا الحديث في الموضوعات فقد خرَّجه الحفاظ، وله مثل هذا كثير عفا الله عنه، وقد رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يواظب على فعلها بعد الزوال في كل جمعة، قال العلماء: وإذا عمل الصحابي بحديث دلَّ على قوته، ولا التفات إلى قول مَن زهَّد فيها، وقد رُوِيَ عن أبي داود أنه قال: عَرضتُ السُّنَنَ بعد فراغها على أحمد بن حنبل فارتضاها ولم ينكر منها شيئًا، وصلاة التسبيح مُثبَتةٌ فيها، وشيوخُ الحديث قد ينقلون الحديث من طريق صحيحة، ثم من طريق ضعيفة فيطلقون عدم الصحة، ويريدون ما نقل بالطريق الضعيف، وجمهور الفقهاء لم يمنعوا صلاة التسبيح مع اختلافهم في المنع من تطويل الاعتدال] اهـ.
وقال الحافظ ابن الملقن في "البدر المنير" (4/ 241): [وذِكْرُه لهذا الحديث في "موضوعاته" من الغلو، وله في هذا الكتاب أشياء تساهل في دعوى وضعها، وحقها أن تذكر في الأحاديث الضعيفة بل بعضها حسن أو صحيح. وقد أنكر غيرُ واحدٍ عليه فعلَه في هذا التصنيف] اهـ.
وقال العلامة اللكنوي في "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص: 123، ط. دار الكتب العلمية): [اشتبه على بعض المتقدمين فظنَّ أحاديثها موضوعة، ومنهم ابن الجوزي وابن تيمية وقلدهما في عصرنا هذا مَنْ قلدهما ممن يظن أنَّ جملة أقوال ابن تيمية كالوحي النازل من السماء، وإن كان رَدَّ عليه بالبراهين والبينات الساطعة جمعٌ من العلماء، ألَا وهي صلاة التسبيح الفائقة الراجحة على غيرها من التطوعات بأعلى تفوق وأثنى ترجيح.. وقد تعقب ابنَ الجوزي جمعٌ مِمّن جاء بعده مِن نُقّاد المحدِّثين، وبينوا أنَّ حديث صلاة التسبيح صحيح أو حسن عند المحققين، وأن ابنَ الجوزي في ذكره الموضوعات مِن المتساهلين. قال السيوطي في شرح سنن أبي داود المسمى "بمرقاة الصعود": أفرط ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات. وقال الحافظ ابن حجر في "الخصال المكفرة للذنوب المقدمة والمؤخرة": أساء ابن الجوزي بذكر هذا الحديث في الموضوعات] اهـ.
ثم نقل اللكنوي (ص: 137) عن العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي قوله في "الإيضاح والبيان لما جاء في ليلة النصف من شعبان": [ذكرها ابن الجوزي في موضوعاته وشنع عليه الحفاظ في ذلك تشنيعًا بليغًا. والحاصل أنَّ أحاديثها حسنة إن لم تكن صحيحة؛ لكثرة الطرق وانتفاء القوادح التي ذكرها ابن الجوزي تساهلًا منه] اهـ.
ثم قال الإمام اللكنوي: [فهذه العبارات الواقعة مِن أَجِلَّةِ الثقات نادَتْ على أنّ قولَ وضعِ حديثِ صلاة التسبيح قولٌ باطلٌ ومُهمَلٌ؛ لا يقتضيه العقل والنقل، بل هو صحيحٌ أو حسنٌ مُحتَجٌّ به، والمحدثون كلُّهم ما عدا ابنَ الجوزي ونُظَراءَه إنما اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه، ولم يتفوه أحد بوضعه] اهـ.
وقد تتبع الحافظ ابن حجر طرق الحديث في "أمالي الأذكار" وساق كلام الأئمة في تصحيحه سلفًا وخلفًا، وخلص إلى ثبوته؛ فقال -فيما نقله عنه الحافظ السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 42-43): [سند هذا الحديث لا ينحطّ عن درجة الحسن، فكيف إذا ضُمَّ إلى رواية أبي الجوزاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما التي أخرجها أبو داود! وقد حسّنها المنذريُّ.
وممَّن صحَّحَ هذا الحديثَ أو حسَّنه غيرُ مَن تقدَّم: ابنُ منده وألَّف فيه كتابًا، والآجُرِّيُّ، والخطيبُ، وأبو سعد السمعاني، وأبو موسى المدينيُّ، وأبو الحسن بن المفضَّل، والمنذريُّ، وابنُ الصلاح، والنوويُّ في "تهذيب الأسماء واللغات"، والسبكيُّ، وآخرون.
وقال أبو منصور الديلميُّ في "مسند الفردوس": "صلاة التسبيح أشهر الصلوات وأصحها إسنادًا"، وروى البيهقي وغيره عن أبي حامد بن الشرقي قال: كتب مسلم بن الحجاج معنى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن بشر؛ يعني حديث صلاة التسبيح، من رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، فسمعتُ مسلمًا يقول: لا يُروَى في هذا إسنادٌ أحسنُ من هذا.
وقال البيهقي بعد تخريجه: كان عبد الله بن المبارك يصليها وتداولها الصالحون بعضهم عن بعض، وفي ذلك تقوية للحديث المرفوع. وأقدَمُ مَن رُوِيَ عنه: فلعله أبو الجوزاء أوس بن عبد الله البصري مِن ثقات التابعين؛ أخرجه الدارقطني بسند حسن عنه: أنه كان إذا نودي بالظهر أتى المسجد فيقول للمؤذن: "لا تُعْجِلْني عن ركعتين"، فيصليها بين الأذان والإقامة. وقال عبد العزيز بن أبي رَوّاد -وهو أقدم من ابن المبارك-: "مَن أراد الجنة فعليه بصلاة التسبيح". وقال أبو عثمان الحيري الزاهد: "ما رأيت للشدائد والغموم مثل صلاة التسبيح". وقد نص على استحبابها أئمةُ الطريقين مِن الشافعية: كالشيخ أبي حامد، والمحاملي، والجويني، وولده إمام الحرمين، والغزالي، والقاضي حسين، والبغوي، والمتولي، وزاهر بن أحمد السرخسي، والرافعي، وتبعه في "الروضة"] اهـ.
ونقل الحافظ السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 43-44) تصحيح الحديث عن جماعة من الحفاظ فقال: [وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في "أجوبته على الأحاديث التي انتقدها السراج القزويني على المصابيح": حديث صلاة التسبيح حديث صحيحٌ أو حسنٌ ولا بُدَّ. وقال الشيخ سراج الدين البُلقيني في "التدريب": حديث صلاة التسبيح صحيح وله طرق يعضد بعضها بعضًا؛ فهي سُنّةٌ ينبغي العمل بها. وقال الزركشي: غلط ابن الجوزي بلا شك في إخراج حديث صلاة التسبيح في الموضوعات.. وابن الجوزي متساهل في الحكم على الحديث بالوضع] اهـ.
الخلاصة
الحاصل أنَّ هذه الصلاة مروية من طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا، وأنَّ ذلك اعتضد بفعل كثير من السلف لها ومداومتهم عليها، وأنَّ مجرد المخالفة في هيئة الصلاة عن الهيئة المعتادة لا يقدحُ في مشروعيتها كما هو الحال في كثير من الصلوات؛ كالعيدين والجنازة والكسوف والخسوف والخوف، وأنَّ جماهير العلماء من المحدِّثين والفقهاء سلفًا وخلفًا على ثبوت حديثها، وقليل منهم ضعَّفه، ثم من المُضَعِّفين من أجاز فعلَها ومنهم من كرهه، ولم يُنقَل عن أحد منهم القول بتحريمها أو بطلانها؛ فإنَّ القول بتضعيف حديثها لا يستلزم بطلانها؛ بل مِن العلماء مَن نص على جواز فعلها مع قوله بتضعيف حديثها، أما القولُ بوضع حديثها أو كَذِبِه وأنَّ فعلها حرام بناءً على ذلك: فهو قولٌ باطل مردودٌ على قائله.
وقد تقرَّر في قواعد الشريعة: أنه "إنما يُنكَر المتفق عليه ولا يُنكَر المختلف فيه"؛ فمَن فعل هذه الصلاة وواظب عليها خصوصًا في المواسم المباركة؛ كليالي الجمعة وليالي العشر الأواخر من رمضان فهو على خير وسُنَّةٍ ومتابعة لسلف الأمة وخلفها، فقهائها ومحدِّثيها، ومن لم يفعلها تقليدًا لمن ضعَّف حديثها وكره فعلها فلا حرج عليه بشرط عدم الإنكار على مَن فعَلها؛ لأنه لا إنكار في مسائل الخلاف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.