ما تفسير قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25]؟ وما المراد بالإرادة في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ}؟
التحذير من المعصية داخل الحرم
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية عن دخول المسجد الحرام ومنعوه من الحج والعمرة فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتالهم وكان مُحْرِمًا بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود للعمرة في العام القادم، والمعنى: إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر الله تعالى ومن الطواف بالمسجد الحرام.
إنَّ هؤلاء الذين يفعلون ذلك سوف ينزل بهم الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 32) [وقوله سبحانه: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ المقصود به المسجد نفسه وهو الظاهر؛ لأنَّه لم يذكر غيره، وقيل المراد به: الْحَرَمُ كله؛ لأنَّ المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية فنزل خارجًا عنه، وهذا صحيح لكنه سبحانه قصد هنا الذكر الأهم وهو المسجد الحرام] اهـ.
وقوله سبحانه: ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾ تشريف لهذا المكان حيث جعل سبحانه الناس تحت سقفه سواء، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا الناس عنه، أي: جعلنا هذا المسجد الحرام للناس على العموم يُصَلّون فيه ويطوفون به ويحترمونه ويستوي تحت سقفه من كان مقيمًا في جواره وملازمًا للتردد عليه ومن كان زائرًا له وطارئًا عليه من أهل البوادي أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة، وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ تهديد شديد لكل مَن يحاول ارتكاب شيء نهى الله عنه في هذا المسجد الحرام، والإلحاد: الميل، يقال: ألحد فلان في دين الله أي: مال وحاد عنه، أي: ومن يرد في هذا المسجد الحرام إلحادًا أي: ميلًا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب ظلمه وخروجه عن طاعتنا نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه، وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته؛ لأن القرآن الكريم قد توعَّد بالعذاب الأليم كل مَن ينوي ويريد الميل فيه عن دين الله، وإذا كان الأمر كذلك فمَن ينوي ويفعل يكون عقابه أشد ومصيره أقبح، ويدخل تحت هذا التهديد كلّ ميل عن الحق إلى الباطل؛ كالنطق بالأقوال الباطلة، كترويج المذاهب الفاسدة والأفكار التي يقصد بها الدعاية لشخص معين أو لحزب معين؛ لأننا لو أبحنا ذلك في المسجد الحرام أو في الأماكن المقدسة لأصبحت هذه الأماكن ساحة للدعايات الشخصية أو الطائفية أو المذهبية، وهذه الأماكن أشرف وأسمى وأجل من أن تكون ساحة لأمثال هذه الشعارات التي لم يقصد بها وجه الله تعالى، وإنما قصد بها المنافع الشخصية أو المذهبية والله تعالى يقول: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، ولقد رجح الإمام ابن جرير أنَّ المراد بالظلم هنا معناه العام فقال في "تفسيره" (16/ 510، ط. دار هجر) بعد أن ذكر جملة من الأقوال: [وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه من أنَّ المراد بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله تعالى؛ وذلك لأنَّ الله عمَّم بقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ ولم يخصص ظلمًا دون ظلم في خبر ولا عقل فهو على عمومه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومَن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصي الله تعالى فيه نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له] اهـ. ومما ذُكر يُعلم الجواب عما جاء بالسؤال.
والله سبحانه وتعالى أعلم.