حكم عمل زفة لإثبات العذرية وأثرها على عقد النكاح

حكم عمل زفة لإثبات العذرية وأثرها على عقد النكاح

ما حكم عمل زفة لإثبات العذرية وأثرها على عقد النكاح؟ حيث يقول السائل: انتشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو احتفالًا لفتاة بـ(عذريتها)، والهتاف بشرفها وعفتها؛ مما أثار جدلًا واسعًا حول الأمر. وسؤالي لحضراتكم: هل للعذرية أثر على النكاح؟وهل العذرية دليل على شرف الفتاة وعفتها؟

عمل الزفة المذكورة للاحتفال بثبوت عذرية الفتاة بعد الكشف الطبي عليها مخالف للمسلك الأخلاقي النبوي، والعذرية لا ترقى إلى عدِّها قرينة على ثبوت عفة المرأة ولا نفيها، فمن المقرر شرعًا أن غشاء البكارة قد يزول بسبب اندفاع دم الحيض أو الركوب على شيء حاد أو نحو ذلك، وعَدَمُها ليس عيبًا يفسخ به النكاح، والدليل على شرف الإنسان وعفته: أخلاقُه وتقواه وسلوكه الحسن بين الناس.

التفاصيل ....

المحتويات

بيان المراد بمصطلح العذرية

العذرية مصطلح يُطلَق ويراد به في الأغلب: عدم ممارسة المرأة الجماع من قبل، وتثبت العذرية في زعم العامة بالاختبار والتحقق من وجود غشاء بكارة سليم، على التوهم الشائع من أنَّ غشاء البكارة لا يمكن أن يتمزق إلا نتيجة ممارسة الجماع.

نصوص فقهاء المذاهب على أن غشاء البكارة قد يذهب بغير الجماع

المقرر في الفقه الإسلامي أنَّ البكارة -وهي أعم من العذرية- أمر اعتباري لا حسي؛ فهو لا يرتبط ارتباطًا عضويًّا بوجود غشاء العُذْرة؛ إذ قد يزول غشاء العُذْرة وتظل البنت بكرًا حقيقةً وحكمًا كما إذا زال بغير الوطء؛ بوثبة، أو حِدَّة حيض، ونحو ذلك، وبذلك وردت الآثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين.

روى سعيد بن منصور في "سننه" واللفظ له، وابن أبي شيبة في "المصنف": أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَجِدْهَا عَذْرَاءَ، كَانَتِ الْحَيْضَةُ أَحْرَقَتْ عُذْرَتَهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عَنْهَا، "أَنَّ الْحَيْضَةَ تُذْهِبُ الْعُذْرَةَ يَقِينًا" ولفظ ابن أبي شيبة: "إِنَّ الْعُذْرَةَ تَذْهَبُ مِنَ الْوَثْبَةِ وَالْحَيْضَةِ وَالْوُضُوءِ".

وروى عبد الرزاق واللفظ له وابن أبي شيبة في "مصنفيهما" عن عطاء رحمه الله فيمن قَالَ لِامْرَأَتِهِ لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ، وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ مِنْ زَنَا، فَلَا يُجْلَدُ، لَمْ يَجْلِدْ عُمَرُ: "زَعَمُوا أَنَّ الْعُذْرَةَ تُذْهِبُهَا الْوُضُوءُ وَأَشْبَاهُهُ".

ورويا في "مصنفيهما" عن الحسن البصري: "أنه سُئل فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: لَمْ أَجِدْكِ عَذْرَاءَ. قَالَ: «لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، الْعُذْرَةُ تُذْهِبُهَا الْحَيْضَةُ وَالْوَثْبَةُ".

ورويا في "مصنفيهما"، وكذا سعيد بن منصور في "سننه" عن إبراهيم النخعي "أنه سُئل فِي رَجُلٍ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْهَا عَذْرَاءَ، قَالَ: "لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، الْعُذْرَةُ تُذْهِبُهَا الْوَثْبَةُ، وَالْحِمْلُ الثَّقِيلُ" وقد ورد نحوه عن سالم بن عبد الله بن عمر والشعبي وسليمان بن يسار وطاوس رحمهم الله تعالى.

ونصّ على ذلك أصحاب المذاهب المتبوعة؛ من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

قال العلامة شيخي زاده الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 334، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ومَن زالت بكارتها) أي: عذرتها، وهي: الجلدة التي على المحل، وفي "الظهيرية" البكر: اسم لامرأة لا تجامع بنكاح ولا غيره (بوثبة، أو حيضة، أو جراحة، أو تعنيس) من عنست الجارية، إذا جاوزت وقت التزوج فلم تتزوج (فهي بكر) حقيقة، أي: حكمهن حكم الأبكار، ولذا تدخل في الوصية لأبكار بني فلان؛ لأن مُصِيبها أولُ مصيب لها منه الباكورة والبُكرة لأول الثمار ولأول النهار، ولا تكون عذراء] اهـ.

وقال الإمام البابرتي الحنفي في "شرح الهداية" (3/ 270، ط. دار الفكر): [(وإذا زالت البكارة بوثبة)، وهو الوثوب من فوق، (أو حيضة أو جراحة أو تعنيس فهي في حكم الأبكار) في كون إذنها سكوتَها؛ (لأنها بكر)، إذ البكر: هي التي يكون مصيبها أول مصيب] اهـ.

وقال العلامة الدسوقي المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (2/ 281، ط. دار الفكر): [البكر عند الفقهاء: هي التي لم توطأ بعقد صحيح أو فاسد جار مجرى الصحيح، وأما العذراء: فهي التي لم تزل بكارتها بمزيل؛ فلو أزيلت بكارتها بزنا أو بوثبة أو بنكاح لا يقران عليه فهي بكر؛ فهي أعم من العذراء] اهـ.  وفيه يظهر التفريق البديع بين مفهوم العذرية الحسي ومفهوم البكارة الأعم منه.

وقال العلامة البجيرمي الشافعي في "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" (3/ 361، ط. دار الفكر): [وفي معنى البكر: مَن زالت بكارتها بنحو حيض، وفي معنى الثيب: من لم تزل بكارتها مع وجود دخول الزوج بها؛ كالغوراء] اهـ. ومقتضاه: أنَّ زوال غشاء البكارة لا يلزم منه زوال البكورة، وأنَّ وجوده لا يستلزم وجود البكورة؛ فقد يكون موجودًا والمرأة ليست بكرًا، وقد يزول وتبقى بكرًا.

وجاء في "الإقناع" للعلامة الحجاوي الحنبلي وشرحه "كَشّاف القناع" للعلامة البهوتي الحنبلي (5/ 47، ط. دار الكتب العلمية): [(وزَوَال البكارة بأصبع، أو وثبة، أو شدة حيضة، ونحوه) كسقوط من شاهق (لا يُغَيِّر صفة الإذن)، فلها حكم البكر في الإذن؛ لأنها لم تُخبَر المقصودَ، ولا وُجِد وطؤها في القبل، فأشبهت مَن لم تزل عذرتها] اهـ.

حكم رد النكاح لعدم ثبوت البكارة للزوجة

المعمول به إفتاء وقضاء أنَّ زوال العذرية أي زوال غشاء البكارة ليس عيبًا يرد به عقد النكاح، كما هو مذهب الحنفية، حتى لو اشترط الزوج البكارة في العقد، وهو رواية عن الإمام أحمد.

قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (5/ 95، ط. دار المعرفة): [ولا يَرُدُّ الرجلُ امرأتَه عن عَيب بها وإن فحش عندنا، ولكنّه بالخيار؛ إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها] اهـ.

وقال أيضًا (5/ 97): [كذلك لو شرط الجمال والبكارة، فوجدها بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار] اهـ.

وقال الإمام الموصلي في "الاختيار" (3/ 93، ط. الحلبي): [ولو تزوجها على أنها بكر فوجدها ثيبًا يجب جميع المهر؛ لأن البكارة لا تصير مستحقة بالنكاح] اهـ.

وقال الإمام القدوري في "التجريد" (5/ 2459، ط. دار السلام): [فإن قيل: يبطل ما ذكرتموه إذا وطئها الزوج وهي بكر.

قلنا: زوال البكارة غير موجبة بالنكاح؛ بدلالة: من تزوج امرأة على أنها بكر فوجدها ثيبًا لم يثبت له الخيار.

فإن قيل: عقد النكاح أوجب الوطء، ولا يتوصل إلى وطء البكر إلا بإزالة البكارة، فصار إزالتها من موجب العقد.

قلنا: وقد يتوصل إليه تارة بإزالة البكارة وتارة بغيرها، بأن تزول بكارتها بمعنى من المعاني، فلم يكن إزالتها بفعل الزوج من موجب العقد] اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (7/ 72، ط. مكتبة القاهرة): [فإن شرطها بكرًا، فبانت ثيبًا؛ فعن أحمد كلام يحتمل أمرين، أحدهما: لا خيار له؛ لأن النكاح لا يرد فيه بعيب سوى ثمانية عيوب، فلا يرد منه بمخالفة الشرط] اهـ.

وهو ما جرى عليه قضاء محكمة النقض؛ حيث جاء في الطعن رقم (760) سنة (67 ق) أحوال شخصية جلسة 9/ 2/ 2002م: [المُقَرَّر شرعًا أنَّ الزوج ليس له خيار الفَسخ إذا وجد في امرأته عيبًا ما؛ لأنه يَقدر أن يدفع الضرر عن نفسه بالطلاق] اهـ.

العذرية ليست دليلًا على شرف الفتاة وعفتها

من الناحية الأخلاقية: فقد اتضح أن وجود غشاء البكارة ليس دليلاً على تمام العفة أو عدمها؛ فكما هو مقرر شرعًا أن غشاء البكارة كما تقدم قد يزول بسبب اندفاع دم الحيض أو الركوب على شيء حاد أو نحو ذلك، وأن منظومة الأخلاق الإسلامية والإنسانية لا يستدل فيها على مدى عفة الأنثى بوجوده ولا بعدمه.

وإن من أجل القيم الأخلاقية التي تحكم العلاقات الأسرية والعائلية ما دعا إليه الشرع من الستر على الناس والعون على الفضيلة، روى الإمامان أبو داود والنسائي في "سننيهما" عن علي بن أمية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ».

وقال صلى الله عليه وآله وسلم مبينًا جزاء الستر: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه.

وعمل الزفة المذكورة للاحتفال بثبوت عذرية الفتاة بعد الكشف الطبي عليها مخالف للمنهج النبوي الآمر بحسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات والستر على شئونهم الخاصة.

الخلاصة

بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فعمل الزفة المذكورة مخالف للمسلك الأخلاقي النبوي، والعذرية لا ترقى إلى عدِّها قرينة على ثبوت عفة المرأة ولا نفيها، وعَدَمُها ليس عيبًا يفسخ به النكاح، والدليل على شرف الإنسان وعفته: أخلاقُه وتقواه وسلوكه الحسن بين الناس.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا