التحذير من القيام بالأعمال التي تعطل مسيرة العمل والإنتاج

التحذير من القيام بالأعمال التي تعطل مسيرة العمل والإنتاج

ما حكم الشرع في القيام بالأعمال التي تعطل مسيرة العمل والإنتاج؟ حيث ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الدعوات الهدامة التي تدعو إلى تعطيل مسيرة العمل والإنتاج نكايةً في الدولة ولتحقيق مآرب شخصية.

كلُّ أمرٍ يُعطِّل عملية الإنتاج أو يدعو إلى تعطيلها ممنوعٌ شرعًا ومجرَّم قانونًا، ويزداد الأمر خطورة إذا تعلَّق بالمرافق العامة التي تؤدِّي خدمات جوهرية لعموم المواطنين بما فيهم القائمون على هذه الجرائم أنفسهم، الذين لو حَكَّموا المنطق والحكمة ما غلَّبوا مصالحهم الشخصية الضيقة المظنونة على المصالح العامة والمنافع المحققة.

التفاصيل ....

المحتويات

حث الشرع الشريف على العمل والإنتاج

حثَّ الشرع الشريف على العمل والإنتاج ورغَّب فيهما؛ فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: ١٥].

قال الإمام النسفي في "تفسيره" (3/ 514، ط. دار الكلم): [﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ جوابها استدلالًا استرزاقًا أو جبالها أو طرقها ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ أي من رزق الله فيها] اهـ.

وروى الإمام البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْتَطِب أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».

وأكَّدت الشريعة الغراء على أنَّ من مقاصدها العمل والسعي والإنتاج؛ فروى الإمام البخاري في "الأدب المفرد" عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (4/ 241، ط. مكتبة دار السلام): [والحاصل أنَّه مبالغةٌ، وحثٌّ على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس غيرك ما شبعت به فاغرس لمَن يجيء بعدك] اهـ.

دعوة الشريعة الإسلامية إلى إتقان العمل

وفي سبيل ذلك دعت -الشريعة الإسلامية- إلى إتقان أي عمل يُقدم عليه الإنسان؛ فروى الإمام البيهقي في "شعب الإيمان" عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ».

قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في "التنوير" (3/ 378، ط. مكتبة دار السلام): [(إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا) دينيًّا أو دنيويًّا له تعلق بالدين (أَنْ يُتْقِنَهُ)، الإتقان الإحسان والتكميل؛ أي: يحسنه ويكمله] اهـ.

بل جعل الله تبارك وتعالى عمارة الكون -بالإنتاج والتقدم- مقصدًا من مقاصد خلق الإنسان؛ حيث قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١]، قال الإمام النسفي في "تفسيره" (2/ 69): [﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ وجعلكم عمَّارها وأراد منكم عمارتها] اهـ.

وهو ما أكَّد عليه المشرع المصري؛ فتنص المادة (12) من دستور مصر الحالي وفقًا لآخر التعديلات على أنَّ: "العمل حق، وواجب، وشرف تكفله الدولة"، وتتمثل كفالة الدولة لذلك في تشريعاتها أو بغير ذلك من التدابير، وإعلائها لقدر العمل وارتقائها بقيمته.

ولما كان حفظ المال مقصدًا من مقاصد الشرع فكذلك كل ما يعمل على زيادته وإنمائه يكون مقصودًا من قبل الشرع الشريف، وأي عمل يعرقله ويضرّ به يكون معارضًا لمقاصد الشرع الشريف، يقول الإمام الغزالي في "المستصفى" (ص: 174، ط. دار الكتب العلمية): [ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم؛ فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة] اهـ.

التحذير من تعطيل مسيرة الإنتاج وخطورته على المجتمع

تعطيل مسيرة الإنتاج يترتب عليه إلحاق الضرر بجموع المواطنين، ومن المقرَّر شرعًا أنَّه: "لا ضرر ولا ضرار"، فهذه قاعدة فقهية من القواعد الخمس التي يدور عليها غالب أحكام الفقه، وأصل هذه القاعدة ما أخرجه الإمام ابن ماجه في "سننه" عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"، وهي قاعدة تحول مراعاتها بين الإنسان وبين كل ما يمكن أن يسبب له الضرر؛ على مستوى الأفراد والجماعات.

ويزداد الأمر خطورةً إذا تعلق الأمر بمرفق عام؛ فإنَّه يتعارض تعارضًا صارخًا مع أحد المبادئ الـمُسَلَّم بها في القانون الإداري، وهو مبدأ "دوام سير المرافق العامة بانتظام واضطراد".

والـمُشرِّع المصري وإن لم يضع تعريفًا صريحًا للمرافق العامة إلَّا أنَّ المستفاد مِن نصوص قانون التزامات المرافق العامة رقم 129 لسنة 1947م وَفْقًا لآخر تعديلاته، وكذا القرارات التنفيذية المبنية على هذا القانون: أنَّ المرافق العامة هي مشروعات تنشأ بقصد تحقيق غرض من أغراض النفع العام ويكون الرأي الأعلى في إدارتها للسلطة العامة. انظر: "الوجيز في القانون الإداري" للدكتور محمد فؤاد مهنا (ص: 6، ط. مؤسسة المطبوعات الحديثة).

موقف القانون المصري من الدعوات التي تؤدي إلى تعطل مسيرة العمل والإنتاج

لما كانت المرافق العامة تُؤدِّي خدمات جوهرية للجمهور بحيث يُنظِّم شؤون حياته على أساسها؛ كان لا بد من استمرار سيرها بانتظام واضطراد، حتى لا يدبّ الخلل في حياة الناس وتتعطل شؤون حياتهم، ولذلك فإنَّ كل ما يضر ويعرقل سير هذه المرافق -سواء كان ذلك من العاملين بها بامتناعهم عن العمل متجاوزين في ذلك حق الإضراب السلمي الذي منحه لهم الدستور ونَظَّمه القانون، أو من غيرهم ممَّن يعرقلون سير عملها بانتظام-: هو أمرٌ مجرَّم قانونًا؛ حيث نص قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م وفقًا لآخر تعديلاته في 2022م على العقوبات التي تقع على أفعال التخريب والإتلاف لكل مَن تعمَّد تعطيل وسيلة من وسائل خدمات المرافق العامة.

ونصت المادة رقم 361 مكررًا (أ) من قانون العقوبات على: [كل مَن عطَّل عمدًا بأية طريقة كانت وسيلة من وسائل خدمات المرافق العامة أو وسيلة من وسائل الإنتاج يعاقب بالسجن، وتكون العقوبة السجن المشدد إذا وقعت الجريمة بقصد الإضرار بالإنتاج أو الإخلال بسير مرفق عام] اهـ.

كما نصّت المادة رقم 364 على: [كل مَن تعرّض بدون اقتضاء بواسطة ضرب ونحوه لمنع ما أمرت أو صرحت الحكومة بإجرائه من الأشغال العمومية يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تزيد على خمسمائة جنيه] اهـ.

ولا يَرِد على ذلك التحريم الشرعي والتجريم القانوني مقولة إنَّ الإضراب حَقٌّ كفله الدستور والقانون؛ وذلك لأنَّ القانون إنما أعطى هذا الحق شريطة أن يكون في غير المنشآت الاستراتيجية أو الحيوية التي يترتَّب على تَوقُّف العمل فيها الإخلال بالأمن القومي، أو بالخدمات الأساسية التي تُقدِّمها للمواطنين، ولا ريب أَنَّ هذه الدعوات الهدامة التي تدعو لتعطيل مسيرة الإنتاج يترتب عليه إلحاق الضرر بخدمات أساسية تتعلق بجموع المواطنين؛ فهي إذًا مُخالِفة لمفهوم الإضراب السلمي لا مُرادِفة له.

الخلاصة

بناءً على ما سبق: فكلّ أمر يعوق عملية الإنتاج ممنوع شرعًا ومجرَّم قانونًا، ويزداد الأمر خطورة إذا تعلَّق بالمرافق العامة التي تؤدِّي خدمات جوهرية لعموم المواطنين بما فيهم القائمون على هذه الجرائم أنفسهم، الذين لو حَكَّموا المنطق والحكمة ما غلَّبوا مصالحهم الشخصية الضيقة المظنونة على المصالح العامة والمنافع المحققة.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا