هل رعاية أهالي الجنود لها أصل في الشريعة الإسلامية؟ وما ثواب ذلك الأمر؟
ترغيب الشرع في رعاية أهالي الجنود وكفالتهم
من الشيم المستحبة والأخلاق الحسنة ما يقوم به الناس وخاصةً الجيران من تفقد أسر الجنود البواسل وأهليهم؛ للاطمئنان عليهم، ولتوفير احتياجاتهم حال قيام أبنائهم بواجب الجندية، وقد استحسن الشرع الشريف هذا العمل ورتب عليه أحكامًا خاصة لهم؛ إكرامًا لهؤلاء الجنود البواسل وتقديرًا لما يقومون به مِن دَوْرٍ عظيمٍ في الدفاع عن الوطن وحمايته.
التفاصيل ....المحتويات:
- فضل الدفاع عن الوطن
- ثواب رعاية أهل الجنود وكفالتهم، وحرص النبي على ذلك
- تحذير الشرع من التعدي على أهل الجنود والمساس بهم
- الخلاصة
فضل الدفاع عن الوطن
فضَّل اللهُ تعالى الناس بعضهم على بعض بما عملوا وقدَّموا من أعمال خير وبر وفضل؛ فقال سبحانه: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 132].
ولَمَّا كان الدفاع عن الوطن وحمايته من أفضل الأعمال؛ إذ يبذل الإنسان أغلى ما يملكه: وهو نفسه، رفع الله تعالى قدر ذلك العمل وشرَع للقيام به من الأحكام ما لم تُشرع لغيره، تقديرًا لمَن يقوم به، واعترافًا بعظيم صنعه وكبير فضله.
ثواب رعاية أهل الجنود وكفالتهم، وحرص النبي على ذلك
مِن الأحكام التي اختص الشرعُ الشريفُ بها مَن يخرج من بيته للدفاع عن وطنه: أنْ كفل له رعاية أهله ومؤنتهم حتى يعود، وحثَّ على ذلك ورغَّب فيه، وجعل أجر مَن يقوم بذلك كأجر ذلك المجاهد سواء بسواء؛ ذلك أنهم لما خرجوا للدفاع عن الوطن كَفَوْا غيرهم مخاطر الدفاع عنهم، فتحتَّم على القاعدين برًّا وعرفانًا لهم أن يكفوهم أمر أسرهم بما كانوا يقومون به لو لم يخرجوا، وعلى ذلك تواردت النصوص.
فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» أخرجه الشيخان.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ: لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ: «أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ، كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ» أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه".
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أَرْبَعٌ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ لَسْتُ مُضَيِّعُهُنَّ وَلَا تَارِكُهُنَّ لِشَيْءٍ أَبَدًا: الْقُوَّةُ فِي مَالِ اللهِ وَجَمْعِهِ، حَتَّى إِذَا جَمَعْنَاهُ؛ وَضَعْنَاهُ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ، وَقَعَدْنَا آلَ عُمَرَ لَيْسَ فِي أَيْدِينَا وَلَا عِنْدَنَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَالْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ؛ أَلَّا يُحْبَسُوا وَلَا يُجْمَرُوا، وَأَنْ يُوَفَّرَ فَيْءُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى عِيَالَاتِهِمْ، وَأَكُونُ أَنَا لِلْعِيَالِ حَتَّى يَقْدُمُوا" ذكره الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (4/ 227، ط. دار التراث).
وهذه النصوص الشريفة وغيرها تُؤكِّد حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من بعده على أن يَلقى أهالي الجنود من الرعاية والعناية ما يسدّ حاجتهم، ويعوضهم عن تغيب أبنائهم عنهم؛ لِمَا في ذلك من تفريغ خاطر هؤلاء الجنود للقيام بواجبهم في الحفاظ على مقدرات الدولة ومكتسباتها ومصالح أهلها وهم مطمئنو البال على ذويهم، مع ما في ذلك أيضًا من إبراز معاني التقدير والامتنان لعظيم عملهم إذ خرجوا للحافظ على أمن المجتمع، فَقَدَّر المجتمع لهم ذلك بحفظ أمن أهاليهم وسد حاجتهم.
قال العلامة الماوردي (ت: 450هـ) في "الأحكام السلطانية" (ص: 64، ط. دار الحديث): [يجوز أن يُرزق مَن بَلَغَ مِن أولاد الجيش ويُفرض لهم العطاء بغير أمر] اهـ.
وقال الإمام الطيبي في "شرح المشكاة" (8/ 2630، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [قوله: «وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا».. يقال: خَلَفَهُ في أهله إذا قام مقامه في إصلاح حالهم ومحافظة أمرهم؛ أي: مَن تولَّى أمر الغازي وناب منابه في مراعاة أهله زمان غيبته، شاركه في الثواب؛ لأن فراغ الغازي له واشتغاله به بسبب قيامه بأمر عياله فكأنه مسبب من فعله] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" (13/ 40، ط. دار إحياء التراث العربي) :[«وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ؛ فَقَدْ غَزَا» أي: حصل له أجرٌ بسبب الغزو، وهذا الأجر يحصل بكل جهادٍ، وسواء قليله وكثيره، ولكل خالفٍ له في أهله بخيرٍ؛ مِن قضاء حاجةٍ لهم، وإنفاقٍ عليهم، أو مساعدتهم في أمرهم، ويختلف قدر الثواب بقِلَّة ذلك وكثرته] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في "الكافي" (4/ 155، ط. دار الكتب العلمية): [يفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم؛ لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة، ويتعاهد عدد عيالهم؛ لأنهم قد يزيدون وينقصون، ويتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة؛ لأنه قد يغلو ويرخص، لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم] اهـ.
تحذير الشرع من التعدي على أهل الجنود
لم تكتف الشريعة الغرَّاء بالترغيب في رعاية أهل الجنود وتوفير مؤنتهم، بل زادت على ذلك أنْ حذَّرت من المساس بهم، أو التعدي على شيء من حقوقهم حتى اختصتهم بالنص بالتحريم كحرمة الأهل؛ لمزيد من العناية بهم، مع لَفْتِ الانتباه إلى عظيم ما وراء التعدي عليهم أو الانتقاص من حقوقهم من إثم؛ فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلَّا وُقِفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ، فَمَا ظَنُّكُمْ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".
قال العلامة الأمير الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (5/ 344، ط. دار السلام): [«حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ» أي: أمهات القاعدين، خَصَّ نساء المجاهدين؛ لَمَّا كان الحديثُ مسوقًا لبيان فضيلة خلافة القاعد للمجاهد في أهله، لقضاء حوائجهم والنفع لهم، وكان فيه ضرورة الدخول إلى منازلهم، سَدَّ ذريعة الحرام بتخصيص هذا الحكم بهن، وإلا فكلُّ أجنبيةٍ محرمةٌ كحرمة الأم، وفي التسمية بـ"الأم" إشارةٌ إلى إنه ينبغي مِن القاعدين: البر بنساء المجاهدين، والنفع، وقضاء الحوائج، والإحسان] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنَّ من الشيم المستحبة والأخلاق الحسنة ما يقوم به الناس وخاصةً الجيران من تفقّد أسر الجنود البواسل وأهليهم؛ للاطمئنان عليهم، ولتوفير احتياجاتهم حال قيام أبنائهم بواجب الجندية، وقد استحسن الشرع الشريف هذا العمل ورتب عليه أحكامًا خاصة لهم؛ إكرامًا لهؤلاء الجنود البواسل وتقديرًا لما يقومون به مِن دَوْرٍ عظيمٍ في الدفاع عن الوطن وحمايته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.