ما حكم ذبح دم الفدية خارج الحرم؟ حيث عزم أحدُ الأشخاص على الحجَّ هذا العام، والسؤال: إذا وجب عليه دمُ الفدية بسبب ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام، أو ترك واجب من واجبات الحج؛ هل يجوز ذبحه خارج الحرم، وفي بلده تحديدًا؟
حكم ذبح دم الفدية خارج الحرم
يجوز شرعًا لمَن وجب عليه دمُ الفدية بسبب ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام، أو ترك واجب من واجبات الحج؛ أن يذبح الهدي خارج الحرم؛ سواء في بلده أو غيره.
التفاصيل ....المحتويات
- أسباب وجوب الفدية على الحاج
- آراء الفقهاء في مكان ذبح دم الفدية
- مذهب الحنابلة في مكان ذبح دم الفدية لمَن ارتكب شيئًا مِن محظورات الإحرام
- مذهب المالكية وقول عند الحنفية في مكان ذبح دم الفدية
- المختار للفتوى في حكم ذبح دم الفدية خارج الحرم
- الخلاصة
أسباب وجوب الفدية على الحاج
الحج من شعائر الله تعالى المشتملة على العديد مِن المناسك والقربات، المتنوعة في مقاديرها وصفاتها وطرق أدائها، ولَمَّا كانت أحوال الحجاج في أدائها تختلف باختلاف قدراتهم على تحمل مشقتها، ونظرًا لكثرة ما يكتنفها من الأحكام والأعمال، وتحديدِ كلِّ شعيرةٍ بوقتٍ وصفةٍ ومكانٍ؛ فإن الحاج قد يَعرض له ما يمنعه من إتمام بعضها، أو يقع في شيء من محظوراتها؛ ولذا أَوْجَبَ اللهُ تعالى الفديةَ جبرانًا للنقص وجزاءً لارتكاب المحظور.
وتختلف هذه الفديةُ باختلاف سبب وجوبها:
- فمنها: ما يجب بسبب ارتكاب أحد محظورات الإحرام: كحلق شعر الرأس، وقص الأظافر؛ سواء كان ذلك لعذر، أو لغير عذر؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: 196]. والنسك: الفدية بدم.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّ به زمنَ الحديبية، فقال: «قَدْ آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «احْلِقْ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح"، وأبو داود في "السنن"، والطبراني في "الكبير"، وابن حبان في "الصحيح".
وأجمع العلماء على أن الفدية واجبة على مَن أتى بموجبها؛ قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 239، ط. أوقاف المغرب): [وأجمعوا أن الفدية واجبة على مَن حلق رأسه مِن عذر وضرورة، وأنه مخيَّر فيما نص الله ورسوله عليه مما ذكرنا] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي في "تصحيح الفروع" (5/ 410، ط. مؤسسة الرسالة): [أجمع أهل العلم على أنَّ الْمُحْرِمَ ممنوعٌ مِن أخذ أظفاره، وعليه الفدية بأخذها] اهـ.
وإذا كانت الفديةُ واجبةً على المعذور في ارتكاب المحظور؛ فَلَأَنْ تكونَ واجبةً على غير المعذور في ارتكابه مِن باب أَوْلَى.
- ومنها: ما يجب بسبب التعدي على الصيد: وهو الجزاء؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95].
- ومنها: ما يجب بسبب الإحصار: وهو تعذر الوصول لمكة لأداء النسك بعد الإحرام به بسبب العذر؛ مِن نحو مرض أو صعوبة طريق؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196].
- ومنها: أنَّ مَن ترك واجبًا من واجبات الحج فلا يجزئه -عند القائل بأن المتروك واجبٌ- إلا الدم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ؛ فَلْيُهْرِقْ دَمًا" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ"، وابن وهب في "الجامع"، والبيهقي في "السنن" و"معرفة الآثار" واللفظ له.
آراء الفقهاء في مكان ذبح دم الفدية
قد اختلف الفقهاء فيما يجزئ مِن مكان ذبح دم الفدية إذا كان هذا الدم قد وجب عليه بسبب ارتكابه محظورًا من محظورات الإحرام، أو تركه لواجب من واجبات الحج.
-فذهب الحنفية والشافعية في المعتمد إلى أن محل الذبح هو الحرم؛ لأن المقصود الأعظم من ذلك هو إكرام المساكين فيه وسد حاجة ساكنيه، ولأن الهدايا ونحوها من الفدية والكفارات شُرِعَت لتَبلُغ البيت الحرام تعظيمًا له وتشريفًا، وصِلَةً بأهله ومَن في جواره؛ فكان مقصودًا بعينه دون غيره، وهو ما يدل عليه ظاهر النصوص؛ كما في قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: 196]، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95]، وقوله جَلَّ شأنُه: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: 33].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ» أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح".
وفي رواية: «وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» أخرجها الإمام أحمد في "المسند"، والدارمي وابن ماجه والبيهقي في "السنن".
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى البَيْتِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ" متفق عليه. فدل على أن مكان الذبح هو الحرم.
قال كمال الدين ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (3/ 163، ط. دار الفكر): [لا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم؛ سواء كان تطوعًا أو غيره؛ لقوله تعالى في جزاء الصيد: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾، فصار أصلًا في كل دمٍ هو كفارة، وقال تعالى في دم الإحصار: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، وقال تعالى في الهدايا مطلقًا: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، ولأن الهدي: اسمٌ لِمَا يُهْدَى إلى مكانٍ؛ فالإضافة ثابتة في مفهومه، وهو الحرم بالإجماع، فالقربة بالإهداء تتم بالنقل إلى الحرم والذبح به تعظيمًا له، ولذا لو سُرِقَ لم يلزمه غيره وبذلك انتهى مدلولُهُ ويصير لحمًا؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ»، فيجوز الذبح في أيِّ موضعٍ شاء مِن الحرم، ولا يختص بمنًى] اهـ.
ثم قال (3/ 177): [فتَحَصَّل: أنَّ الدماء قسمان: ما يختص بالزمان والمكان، وما يختص بالمكان فقط؛ وبناءً عليه: فيلزمه ألَّا يذبح إلا في الحرم، فإن كان في أيام النحر؛ فالسُّنَّةُ ذبحُه بمنًى، وإلا ففي مكة، وله أن يذبحه حيث شاء مِن أرض الحرم، ولهذا لو نذر أنَّ عليه هديًا وصرَّح بالهدي؛ يتعيَّن الحرم] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 190، ط. دار الفكر): [واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن ذبح الهدي يختص بالحرم، ولا يجوز في غيره، واتفقوا على أنه يجوز في أيِّ موضعٍ شاء مِن الحرم، ولا يختص بمنًى] اهـ.
- وأجاز الشافعية في مقابل الأصح الذبح خارج الحرم؛ وذلك بشرط أن يفرق اللحم في الحرم قبل تغيُّره:
قال حجة الإسلام الغزالي في "الوسيط" (2/ 712، ط. دار السلام): [والأفضل النحر في الحج بمنًى في العمرة عند المروة؛ لأنهما محل تحللها، وقد قيل: لو ذبح على طرف الحرم وفُرِّقَ غضًّا طريًّا على مساكين الحرم: جاز] اهـ.
وقال الإمام الرافعي في "العزيز شرح الوجيز" (3/ 548، ط. دار الكتب العلمية): [وهل يختص ذبحها بالحرم؟ فيه قولان: أصحهما: نعم.. والثاني: لا يختص؛ لأن المقصود هو اللحم، فإذا وقعت تفرقته في الحرم وانصرف إلى مساكينه حصل الغَرَضُ. فعلى الأول: لو ذبح خارج الحرم لم يعتد به، وعلى الثَّاني: لو ذبح خارج الحرم ونقل إليه وفرَّقه: جاز، لكن يشترط أن يكون النَّقْل والتفريق قبل تغيُّر اللحم] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 311، ط. دار الكتب العلمية): [(ويختص ذبحُه) بأيِّ مكانٍ (بالحرم في الأظهر).. والثاني: يجوز أن يذبح خارج الحرم بشرط أن يُنقَل إليه ويفرق لحمه فيه قبل تغيره؛ لأن المقصود هو اللحم، فإذا وقعت تفرقته على مساكين الحرم حصل الغرض.. وظاهر كلامه: أن هذا الحكم كله في الدم الواجب بفعل حرام أو ترك واجب، وليس مرادًا؛ بل دم التمتع والقران كذلك] اهـ.
مذهب الحنابلة في مكان ذبح دم الفدية لمَن ارتكب شيئًا مِن محظورات الإحرام
-ذهب الحنابلة إلى أنَّ كلَّ إطعامٍ يتعلق بالحرم؛ فإنه يجب ذبحه في الحرم، لكن مَن استباح شيئًا مِن محظورات الإحرام في الحِلِّ؛ فإنه يُجزئه ذبح دم الفدية خارج الحرم، وذلك في مكان استباحة المحظور لا في غيره، وأما الدم المترتب على ترك الواجب؛ فلا يجزئ ذبحه إلا في الحرم.
قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (3/ 468، ط. مكتبة القاهرة): [وكل هديٍ أو إطعامٍ فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم، إلا مَن أصابه أذًى مِن رأسه؛ فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (3/ 531، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وكل هديٍ أو إطعامٍ فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم).. كذا ما وجب لترك واجبٍ كالإحرام من الميقات.. وكذا أجزاء المحظورات إذا فعلها في الحرم؛ نص عليه: فيجب نحره بالحرم] اهـ.
وقال أبو السعادات البُهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 558-559، ط. عالم الكتب): [وكل هديٍ أو إطعامٍ تعلق بحرمٍ أو إحرامٍ؛ كجزاء صيد حرمٍ أو إحرامٍ (وما وجب) مِن فديةٍ (لترك واجبٍ أو) لـ(فوات) حجِ (أو) وجبِ (بفعل محظورٍ في حرمٍ) كلبسٍ ووطٍء فيه؛ فهو لمساكين الحرم؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الْهَدْيُ وَالْإِطْعَامُ بِمَكَّةَ"، (و) كذا (هدي تمتع وقران) ومنذور ونحوها؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾، وقال في جزاء الصيد: ﴿هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾، وقيس عليه الباقي (يلزم ذبحه) أي: الهدي (في الحرم)، قال أحمد: مكة.. (وتجزئ فديةُ أذًى و) فديةُ (لبسٍ و) فديةُ (طيبٍ ونحوها) كتغطيةِ رأسٍ (و) سائر (ما وَجَبَ بِفِعْلِ محظورٍ فَعَلَهُ خارجَ الحرم: به) متعلق بـ"يجزئ" أي: الحرم، (ولو) فعله (لغير عذرٍ) كسائر الهدي، (و) يجزئ أيضًا (حيث وُجد) المحظور] اهـ.
وقيَّد بعضُ فقهاء الحنابلة جوازَ الذبح في محل ارتكاب المحظور: بأن يكون المُحْرِمُ قد استباحه لعذرٍ، فإن كان قد استباحه لغير عذرٍ؛ فإنَّ ذَبْحَهُ يختص بالحرم.
قال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (3/ 533) في ذبح الفدية في غير الحرم: [واعتبر في "المجرد" و"الفصول": العذر في المحظور، وإلا فغير المعذور كسائر الهدي. قال الزركشي: وقال القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات: ما فعله لعذرٍ: ينحر هديه حيث استباحه، وما فعله لغير عذرٍ: اختص بالحرم] اهـ.
كما أن هذا مقيدٌ في الصحيح من الروايتين عندهم بتحقق المقصود منه؛ وهو وصوله إلى مساكينه ومُحتاجيه، فإذا لم يقدر الحاجُّ على إيصاله إليهم لأيِّ سببٍ كان؛ جاز له أن يذبحه في غير الحرم ويوزع لحمه على المساكين من قاطني مكان الذبح ومرتاديه.
قال برهان الدين ابن مفلح [ت: 884هـ] في "المبدع" (3/ 172، ط. دار الكتب العلمية): [(وكل هديٍ أو إطعامٍ) متعلق بالحرم أو الإحرام (فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم).. ويجب نحره بالحرم.. ويجب تفرقة لحمه بالحرم أو إطلاقه لمساكينه؛ لأنه مقصودٌ كالذبح، والتوسعة عليهم مقصودةٌ.. فإن تعذر إيصاله إلى فقراء الحرم؛ فالأظهر أنه يجوز ذبحه وتفريقه في غيره] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (3/ 531): [تنبيه: مفهوم قوله: (إن قدر على إيصاله) أنه إذا لم يقدر على إيصاله إليهم: أنه يجوز ذبحه وتفرقته هو والطعام في غير الحرم، وهو صحيح، والصحيح من الروايتين؛ قال في "الفروع": والجواز أظهر، وجزم به الشارح، وقدمه في "الرعاية". والرواية الثانية: لا يجوز، وهو قولٌ في "الرعاية"] اهـ.
وقال العلَّامة الحجاوي في "الإقناع" (1/ 372، ط. دار المعرفة): [(فصل: وكل هديٍ أو إطعامٍ يتعلق بحرمٍ أو إحرامٍ) كجزاء صيدٍ، وما وجب لترك واجبٍ، أو فواتٍ، أو بفعل محظورٍ في الحرم، وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوهما: يلزم ذبحه في الحرم وتفرقة لحمه فيه، أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكين من المسلمين إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه أو بمن يرسله معه؛ وهم: مَن كان به أو واردًا إليه مِن حاجٍّ وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة.. فإن لم يقدر على إيصاله إليهم جاز نحره في غير الحرم وتفرقته هو والطعام حيث نَحَرَهُ، وفدية الأذى واللبس ونحوهما؛ كطيب، ودم المباشرة دون الفرج إذا لم يُنزل، وما وجب بفعل محظورٍ خارج الحرم ولو لغير عذر: فله تفرقتها حيث وُجد سببُها، وفي الحرم أيضًا] اهـ.
ويدخل في هذا المعنى: حصول كفاية مساكين الحرم بما أُهدي إليهم، وأَوْلَى مِن ذلك: إذا لم يوجد فيه مساكين في عامه ذلك، أو كانوا مِن القِلَّة بحيث يفوق لحمُ الهدايا والدماءِ الواجبةِ حاجتَهم، مع تحقق وجود المساكين في مكان آخر؛ لأن "الْإِنْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَكَانِ"، وهو "أَوْلَى عِنْدَ اللهِ مِنَ الْكَعْبَةِ الْبُنْيَانِ"؛ ففي الحديث الشريف: «إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللهِ» ذكره الزمخشري في "الكشاف".
مذهب المالكية وقول عند الحنفية في مكان ذبح دم الفدية
-ذهب الحنفيةُ في قولٍ، والمالكيةُ: إلى أن دم الفدية يجوز ذبحه خارج الحرم مطلقًا بلا قيد، ولم يفرقوا في ذلك بين أن تكون استباحةُ المحظور لعذرٍ أو لغير عذر، كما لم يخُصُّوا الذبح بمكانٍ دُون مكانٍ؛ بناءً على أنَّ الذبح هنا نُسُكٌ وليس بهدي، والنُّسُكُ يذبحه حيث شاء.
قال برهان الدين ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (2/ 456، ط. دار الكتب العلمية): [ولو ذَبَحَ حاجٌّ الهديَ ذَبَحَهُ في الحرم، ولو ذبح خارج الحرم: يجزئه، إلا أنه إذا سُرِقَ لحمه بعد الذبح وقد كان الذبح في الحرم فليس عليه بَدَلُهُ، وإن كان الذبح خارج الحرم فعليه بَدَلُهُ إذا سُرِقَ؛ هكذا ذكره الناطفي رحمه الله في "أجناسه"] اهـ.
وقال العلامة الشيرازي الحنفي المشهور بالمُظْهِري [ت: 727هـ] في "المفاتيح في شرح المصابيح" (3/ 298، ط. أوقاف الكويت): [وكل دمٍ وجبَ على المُحْرِم وجبَ ذبحُه في الحَرَم، ويفرَّقُ لحمُه على مساكينِ الحرم؛ فإن ذبح خارجَ الحرم فأصحُّ القولين: أنه لا يجوز، وفي قولٍ: يجوز] اهـ.
ونقله حجة الإسلام الغزالي عن الإمام أبي حنيفة؛ فقال في "الوسيط في المذهب" (2/ 712): [وَأما الْمَكَان: فَيخْتَص جَوَاز الإراقة بِالْحرم، خلافًا لأبي حنيفَة] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (2/ 240، ط. أوقاف المغرب): [واختلفوا في موضع الفدية المذكورة؛ فقال مالك: يفعل ذلك أين شاء؛ إن شاء بمكة، وإن شاء ببلده، وذبح النسك والإطعام والصيام عنده سواء؛ يفعل ما شاء مِن ذلك أين شاء، وهو قول مجاهد، والذبح ها هنا عند مالكٍ نُسُكٌ وليس بهدي، قال: والنسك يكون حيث شاء] اهـ.
وقال العلَّامة الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (2/ 358، ط. دار الفكر) في ذكر محل ذبح دم الفدية: [ولم يختص بزمان أو مكان، إلا أن ينوي بالذبح الهدي: فكحكمه؛ أي: لم يختص النسك ذبحًا أو نحرًا أو إطعامًا أو صيامًا بزمانٍ أو مكانٍ كاختصاص الهدي بأيام منًى وبمكة] اهـ.
وقال العلامة الدردير المالكي في "الشرح الصغير" (2/ 93، ط. دار المعارف، مع "حاشية الصاوي"): [(ولا تختص) الفدية بأنواعها الثلاثة (بمكانٍ أو زمان)؛ فيجوز تأخيرها لبلده أو غيره في أيِّ وقتٍ شاء] اهـ.
قال العلامة الصاوي محشِّيًا عليه: [قوله: (في أيِّ وقتٍ شاء) أي: فيجوز الصومُ أو الإطعامُ أو الذبحُ في أيِّ مكانٍ أو زمانٍ شاء؛ فلا تختص بزمان؛ كأيام منى، ولا بمكان؛ كمكة أو منى] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 385، ط. عالم الكتب): [قال مالك: يفعل ذلك أين شاء، وهو الصحيح من القول، وهو قول مجاهد] اهـ.
المختار للفتوى في حكم ذبح دم الفدية خارج الحرم
الأخذ بجواز ذبح الفدية خارج الحرم هو الأوفق في زماننا لمقاصد الدين، والأرفق بحاجة المساكين على العموم دون تخصيصِ مكانٍ أو زمانٍ؛ فإنَّ المرادَ من هذه الدماء الصدقةُ وإطعامُ لحومها للمحتاجين، وإشباع الجائعين، وجبر الفقراء والمعوزين، وإلى هذا المعنى يشير قول الله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج: 36-37].
قال الإمام ابن عبد البر المالكي في "التمهيد" (2/ 240-241) في بيان أدلة المالكية: [والذبح هاهنا عند مالكٍ: نُسُكٌ، وليس بهدي. قال: والنسك يكون حيث شاء، والهدي لا يكون إلا بمكة، وحجته في أن النسك يكون بغير مكة: حديثه عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد المخزومي، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر، أنه أخبره: أنه كان مع عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وخرج معه من المدينة، فمرُّوا على حسين بن عليٍّ رضي الله عنهما وهو مريض بالسقيا، فأقام عليه عبد الله بن جعفر، حتى إذا خاف الموت خرج وبعث إلى عليِّ بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة، فَقَدِمَا عليه، ثم إنَّ حُسَيْنًا أشار إلى رأسه، فأمر علي بن أبي طالب برأسه فحلق، ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرًا. قال مالك: قال يحيى بن سعيد: وكان حسينٌ خرج مع عثمان في سفره إلى مكة. فهذا واضح في أن الذبح في فدية الأذى جائز بغير مكة، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم؛ لأن البُغْيَةَ فيه إطعام مساكين المسلمين، قال: ولما جاز الصوم أن يؤتى به في غير الحرم؛ جاز إطعام غير أهل الحرم.. ذكر إسماعيل القاضي حديثَ عليٍّ حين حلق رأس حسين ابنه بالسقيا ونسك عنه في موضعه مِن حديث مالك وغيره عن يحيى بن سعيد ثم قال: "هذا أَبْيَنُ ما جاء في هذا الباب وأَصَحُّهُ، وفيه جواز الذبح في فدية الأذى بغير مكة". قال أبو عمر: الحجة في ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، ثم قال: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، ولم يقل في موضعٍ دون موضع؛ فالظاهر: أنه حيثما فعل؛ أجزأ، وقد سَمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يُذبح في فدية الأذى نُسُكًا ولم يُسَمِّهِ هديًا، فلا يلزمنا أن نرده قياسًا على الهدي، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن عليِّ رضي الله عنه، ومع استعمال ظاهر الحديث في ذلك، والله أعلم] اهـ.
وقرره الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (2/ 385-386) وزاد عليه في الأدلة؛ فقال: [وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا أمر كعبًا رضي الله عنه بالفدية ما كان في الحرم؛ فصَحَّ أنَّ ذلك كلَّه يكون خارج الحرم] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا وجب على الشخص المذكور دمُ الفدية بسبب ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام، أو ترك واجب من واجبات الحج؛ فإنه يجوز شرعًا ذبحه خارج الحرم؛ سواء في بلده أو غيره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.