ما حكم تحديد الجهات المنظمة للحج لأعداد الحجيج وسنِّهم واشتراط حصولهم على اللقاحات؟ فمع اقتراب موسم الحج وفي ظل تزايد أعداد مريدي الحج، نجد أن الجهات المعنية بشئون الحج والعمرة تقوم بإِصْدار قرارات تنظيمية لفريضة الحج، نحو: تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم، واشتراط حصولهم على بعض اللقاحات، فهل هذا متفق مع أحكام الشريعة ومقاصدها الإسلامية؟
حكم تحديد الجهات المنظمة للحج لأعداد الحجيج وسنِّهم واشتراط حصولهم على اللقاحات
ما تقوم به الجهات المعنية القائمة على شؤون الحج والعمرة من إصدار قرارات تنظيمية لفريضة الحج، نحو: تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم، واشتراط حصولهم على بعض التطعيمات متفقٌ تمامًا مع أحكام ومقاصد الشرع الشريف، بما أقامهم الله تعالى فيه من رعاية الحجيج ومسؤولية الحفاظ على سلامتهم وأمنهم، ومتَّسقٌ مع ما أعطاه الشرع الشريف لِأُولِي الأمر من رعاية المحكومين، وإباحة تقييد إقامة الشعائر الدينية على قدر الحاجة وبما لا يخالف أصول الشريعة؛ كالحج ونحوه، فلهم أن يتخذوا كافة الإجراءات التي تعين على ذلك، وتسمح للحجيج بأداء هذه العبادة على أكمل وجه من غير الوقوع في الحرج والمشقة نتيجة الزحام.
التفاصيل ....المحتويات
- بيان معنى: "الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته"
- تحديد الجهات القائمة على الحج لأعداد الحجيج وأعمارهم
- الرد على من قال بأن تحديد أعداد الحجيج منع للغير من أداء النسك الواجب عليه بغير حقٍّ
- الالتزام بالتعليمات التي تصدرها الجهات المنظمة للحج
- عدم وجوب الحج على من أراد أداؤه في ذات العام بعد نفاذ الطاقة الاستيعابية لمحلِّ النسك
- مشروعية تحديد الجهات المنظمة للحج لسن الحجيج
- اشتراط الجهات المنظمة للحج حصول الحجيج على بعض التطعيمات الطبية
- الخلاصة
بيان معنى: "الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته"
من المقرر أن الشرع الشريف أوجب على الحُكَّام رعاية المحكومين؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.. الحديث» متفقٌ عليه.
فسمَّى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الحاكمَ: راعِيًا، وسمَّى المحكومين: رَعِيَّةً؛ بمعنى: مَرْعِيَّة، فهي فَعِيلَة بمعنى مفعولة؛ أي: في حفظ الحاكم ومراقبته.
قال العلَّامة ابن فارس في "مقاييس اللغة" (2/ 408، ط. دار الفكر): [الراء والعين والحرف المعتل أصلان: أحدهما المراقبة والحفظ] اهـ.
وقال مجد الدين ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 236، ط. المكتبة العلمية): [أي: حافظ مؤتمَن، والرَّعِيَّةُ: كلُّ مَن شَمِلَه حفظُ الراعي ونظرُه] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (12/ 213، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال العلماء: الراعي: هو الحافظ المؤتمَن، الملتزِم صلاحَ ما قام عليه وما هو تحت نظره؛ ففيه: أن كل مَن كان تحت نظره شيء فهو مطالَبٌ بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته] اهـ.
تحديد الجهات القائمة على الحج لأعداد الحجيج وأعمارهم
أعظم حقوق الرعية على الحكام: حفظ النفوس؛ ولذلك خوَّلت الشريعة للحاكم أن يَسُنَّ مِن التشريعات ما يراه مُحَقِّقًا لمصالح البلاد والعباد، وحفظ الخمس الكليات، فإن "تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للحافظ السيوطي (ص: 121، ط. دار الكتب العلمية)، وكذا أعطت له حقَّ تقييد إقامة الشعائر الدينية؛ كالحج، أو العمرة، أو الجُمعة، أو العيدين، ونحو ذلك، إذا كان في إقامتها أو بعضها ما قد يُعَرِّض النفوس للهلاك أو الضرر الشديد، واتخاذِ كافة إجراءات الحماية ووسائل الوقاية التي تعين على حفظ النفوس، وكذا كافة الإجراءات التي تخوِّل للحجيج أداء هذه العبادة على أكمل وجه من غير الوقوع في الحرج والمشقة جراء الزحام.
ومن هذه الإجراءات: تحديد الجهات المنظمة لأعداد الحجيج وأعمارهم، وفق الطاقة الاستيعابية لأماكن مناسك الحج، واشتراط حصولهم على بعض التطعيمات بهدف تنظيم أداء العبادة وليس منعها أو تقييدها؛ لما في ذلك من مصالح يرجى تحقيقها، ومضار ينبغي دفعها؛ إذ حفظ النفس من مقاصد الشرع الكلية التي جاءت بحفظها كل الشرائع السماوية، وهي في مقدمة الكليات الخمسة الضرورية.
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]؛ وقد جاءت الآيتان بصيغة العموم ممَّا يقتضي المنع من كل ما يفضي إلى الهلاك وقتل النفس، فيدخل فيه تحديد الجهات القائمة على الحج لأعداد الحجيج وأعمارهم؛ لأن الضرورة داعية لمثل هذا، منعًا لحدوث الضرر والإصابات والحوادث، ورفعًا للحرج والمشقة وغيرها ممَّا ينشأ عن الزحام من كثرة الأعداد.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (1/ 541، ط. دار ابن عفان): [رفع الحرج عن المكلفين إنما هو من خصائص الشريعة الإسلامية الغراء، وهو مقصود الشارع في الكليات، فلا تجد كلية شرعية مكلفًا بها وفيها حرج كلي أو أكثري البتة، وهو مقتضى قوله: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]] اهـ.
وممَّا ورد في ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
ومِن المقرر أن رعاية الحجيج والاهتمام بشؤونهم وحفظ مهجهم مقدمةٌ على ما سواها عند التعارض، واستمرار قدوم الحجيج إلى مواطن المناسك دون تنظيم أو تحديد يتعذر تحققه، لعدم إمكان استيعاب المحل للحجيج، بل قد يكون ذلك سببًا في تعريضهم لفوات النفس أو ضياع المال، أو الزيادة من الإجهاد وجعل الجسم في أضعف حالاته، وذلك بسبب محاولات التدافع والتكدس مِن أجل أداء المناسك مع عدم استيعاب المكان، فناسب ذلك تحديد عدد الحجيج وفق ما تراه الجهات المنظمة لذلك، وكان هذا التحديد موافقًا لمقاصد التشريع، تطبيقًا لِمَا تقرر في قواعد الشرع الشريف أنَّ "المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ"، و"الضَّرَرَ يُزَالُ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للحافظ السيوطي (ص: 76-83)، و"إِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ"، و"دَرْءَ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِح"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 49-105، ط. دار الكتب العلمية).
وهذه القواعد تشمل دفع الضرر والحرج والمشقة قبل الوقوع بالوسائل المناسبة التي تشمل كافة الإجراءات والتدابير التي يفرضها الحاكم وتحددها الجهات المنظمة القائمة على أمر الحج وخدمة الحجيج، كما تشمل رفع أيٍّ من ذلك بعد وقوعه بما يناسبه من وسائل تزيل أثره.
يضاف إلى ذلك: أن الحج إنما هو واجب على التَّراخي لِمَن يغلب على ظنه أنه إن أخَّر الحج عامًا أو عامين أنه يستطيع الإتيان به بعد ذلك؛ كما هو المختار للفتوى، فلا ينافي تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم وجوب الحج؛ لأنه واجب موسَّع.
قال برهان الدين ابنُ مَازَه البخاريُّ في "المحيط البرهاني" (2/ 420، ط. دار الكتب العلمية): [وقال محمد: يجبُ على التَّراخي، وهو قولُ الشافعي] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (7/ 103، ط. دار الفكر): [مذهبنا أنه على التَّراخي، وبه قال الأوزاعيُّ والثوريُّ ومحمَّدُ بنُ الحسنِ، ونقله الماورديُّ عن ابن عباسٍ وأنسٍ وجابرٍ وعطاءٍ وطاوسٍ رضي الله تعالى عنهم] اهـ.
وممَّا يستأنس به في ذلك: تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحج؛ حيث إنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يحُجَّ إلَّا في السَّنَة العاشرة.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ» أخرجه الشيخان.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/ 82، ط. دار المعرفة): [استدل بهذا الحديث على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة] اهـ.
وقال العلامة البهوتي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 378، ط. دار الكتب العلمية) في بيان الحكمة من تأخير حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: [تأخيره صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه بناء على أن الحج فُرِضَ سنةَ تسعٍ فيحتمل أنه كان في آخرها، أو لأنه تعالى أَطْلَع نبيه على أنه لا يموت حتى يحج فيكون على يقينٍ من الإدراك، قاله أبو زيد الحنفي، أو لاحتمال عدم الاستطاعة أو حاجة خوفٍ في حقِّه منعه مِن الخروج ومنع أكثر أصحابه خوفًا عليه، أو لأن الله تعالى كَره له الحج مع المشركين عراة حول البيت أو غير ذلك] اهـ.
كما أن الحَجَّ فرض مطلقًا عن الوقت، ثم بُيِّنَ وقتُه فصار المفروضُ هو الحَجَّ في أشْهُرِ الحج في أيِّ وقتٍ مِن العمر، ولأنه وظيفة العمر؛ فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة، وأنَّ القول بالفَور تقييدٌ للمطلق، وتقييدُ المطلق لا يجوزُ إلا بدليلٍ، وأنَّ القولَ بالفَوْريَّة يستلزمُ أن يكونَ المستطيعُ الذي يؤخِّرُ الحجَّ سنينَ ثم يحجُّ قاضيًا لا مؤديًا، وهو ما انعقد الإجماعُ على خلافِه.
قال علاء الدين الكاساني في "بدائع الصنائع" (2/ 119، ط. دار الكتب العلمية): [وجه قول محمد أنَّ الله تعالى فرض الحج في وقتٍ مطلقًا؛ لأن قولَه تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97] مطلق عن الوقت، ثم بيَّن وقت الحج بقوله عزَّ وجلَّ: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] أي: وقتُ الحجِّ أشْهُرٌ معلوماتٌ، فصار المفروضُ هو الحجَّ في أشهُرِ الحج مطلقًا مِن العمر، فتقييدُه بالفَوْر تقييد المطلق، ولا يجوزُ إلا بدليل. وروي أن فتْحَ مكَّةَ كان لسَنَة ثمانٍ من الهجرة، وحَجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة العشر، ولو كان وجوبُه على الفَوْر لما احتمل التأخير منه، والدليلُ عليه: أنه لو أدى في السنة الثانية أو الثالثة يكون مؤديًا لا قاضيًا، ولو كان واجبًا على الفور وقد فات الفور، فقد فات وقته، فينبغي أن يكون قاضيًا لا مؤديًا؛ كما لو فاتت صلاةُ الظهر عن وقتها، وصوم رمضان عن وقته] اهـ.
الرد على من قال بأن تحديد أعداد الحجيج منع للغير من أداء النسك الواجب عليه بغير حقٍّ
لا يقال بأن ذلك منع للغير من أداء النسك الواجب عليه بغير حقٍّ؛ لأن ذلك أمر تنظيمي يهدف في المقام الأول إلى تنظيم أداء العبادة وليس منعها أو تقييدها، بل إن الواقع العملي مع كثرة العَدد يؤكد أنه لو تُرِكَ الأمر دون تنظيم لما تمكن الحجيج من أداء المناسك، ولترتب عليه هلاك عددٍ كبيرٍ من الأنفس نتيجة التزاحم والتدافع في أماكن المشاعر ومواطن المناسك، وهو ما يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، ومع مقصود الشارع من التكليف، وقد تقرَّر في قواعد الشرع الشريف: "لِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ المَقَاصِدِ"، و"مَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ"؛ كما في "قواعد الأحكام" للعز ابن عبد السلام (1/ 53، 2/ 204، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
الالتزام بالتعليمات التي تصدرها الجهات المنظمة للحج
ومن ثَمَّ؛ صار تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم واشتراط حصول الحجيج على بعض التطعيمات وغير ذلك ممَّا يشترطه القائمون على أمر الحج في المملكة العربية السعودية حماية لحياتهم وأمنهم واستقرارهم وتنظيمًا لأداء العبادة، ولا يخالف مقاصد الشريعة -واجبًا، وصار الالتزام بكلِّ التعليمات التي تصدرها الجهات المعنية بهذا الشأن واجبًا؛ لأنه من المقرر شرعًا وجوب طاعة أولي الأمر والالتزام بما يصدر عنهم؛ فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، وقد أخرج السِّتَّةُ عن ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»، والأدلة على هذا كثيرة، والإجماعُ منعقد على وجوب طاعة أولي الأمر فيما لا يخالف الشرع الشريف.
عدم وجوب الحج على من أراد أداؤه في ذات العام بعد نفاذ الطاقة الاستيعابية لمحلِّ النسك
وأيضًا: لما كان الحج من العبادات التي اختصت بأدائها في أزمنة وأمكنة خاصة، وكانت لمواطن مناسك الحج طاقة استيعابية معلومة، صار امتلاء هذه المواطن بالحجيج بحيث لا يسع لحاج آخر يفضي إلى انتفاء المحل في حقِّ البقية من المسلمين في نفس العام.
وقد صرَّح الأصوليون والفقهاء بأنه لا بد للحكم الشرعي من محلٍّ، وتكلموا عن حال ذهاب هذا المحل، وعبروا عن هذا الذهاب بتعبيرات مختلفة، منها: "زَوَالُ المَحَلِّ"؛ كما في "البناية" لبدر الدين العيني (5/ 474، ط. دار الكتب العلمية)، و"انتِفَاءُ المَحَلِّ"، و"عَدَمُ المَحَلِّ"؛ كما في "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (5/ 254-273، ط. دار الفكر) إلى غير ذلك من الألفاظ المستعملة في التعبير عن هذا الذهاب، وهذا يقتضي ذهاب الحكم في حق مَن أراد الحج في ذات العام بعد نفاد الطاقة الاستيعابية لمواطن مناسكه من عامه هذا؛ تطبيقًا للقاعدة الفقهية: "ذَهَابِ الحُكْمِ بِذَهَابِ المَحَلِّ".
ومنه: تنتفي الاستطاعة المشروطة في هذه الفريضة؛ إذ الاستطاعة شرط في وجوب الحج على المكلف، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ. حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْءٍ فَدَعُوهُ» أخرجه مسلم في "الصحيح".
فأفاد الحديث الشريف تقييد وجوب الحج بالاستطاعة؛ لامتناع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإجابة بما يلزم عنه وجوب الحج على المستطيع وغير المستطيع، ولإيمائه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن رحمته بالأمة أن تَكَلُّفَ ما لا تستطيعه هو علة تركه الجواب، ثم لتصريحه عليه الصلاة والسلام بأن أمره يقتضي من المكلفين امتثاله قدر استطاعتهم؛ فقال: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، وأجمعت الأمة على وجوب الحج على المستطيع في العمر مرةً واحدةً، فهي عبادة العمر؛ كما في "المغني" للإمام ابن قدامة (3/ 85، ط. دار إحياء التراث العربي).
وعليه: فلا يجب الحج على مَن أراده مِن عامه فوق الطاقة الاستيعابية لمحلِّ نسكه من ذات العام؛ لانتفاء المحل المترتب عليه ذهاب الحكم، وفقد الاستطاعة المشروطة في الوجوب، فلا يكون تحديد أعداد الحجيج منعًا للبقية من المسلمين من أداء فريضة واجبة عليهم؛ لأنها لم تجب عليهم ابتداء وَفْقَ ما سبق بيانه.
مشروعية تحديد الجهات المنظمة للحج لسن الحجيج
وممَّا يستأنس به في مشروعية تحديد سن الحج: أن حج الصبي وإن كان صحيحًا إلا أنه لا يجزئه عن حجة الفريضة بعد البلوغ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِلَ، وَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الأَعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى» أخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ".
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (9/ 99): [حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه، وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام، بل يقع تطوعًا] اهـ.
وقال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 60، ط. دار المسلم): [أجمعوا على أن المجنون إذا حُج به ثم صح، أو حُج بالصبي ثم بلغ، أن ذلك لا يجزئهما عن حجة الإسلام] اهـ.
فلما كان حج الصبي قبل البلوغ لا يجزئه عن حجة الإسلام، ويترتب عليه تزاحم وكثرة عدد قد يفضيان إلى هلاك الأنفس؛ فالأولى منعه، حرصًا على سلامته وسلامة غيره، ولإفساح المجال لغيره من الحجاج البالغين، فمتى حددت الجهات المنظمة سن الحجيج بحيث لا يقل عن سن البلوغ جاز ذلك، بل هو الأولى مع هذه الكثرة المشاهدة في الواقع.
اشتراط الجهات المنظمة للحج حصول الحجيج على بعض التطعيمات الطبية
لو سلمنا جدلًا أن الأصلَ في تحديد عدد الحجيج وأعمارهم واشتراط حصولهم على بعض التطعيمات -المنعُ؛ فإنه يستثنى من هذا المنع بقدر ما تدعو إليه الحاجة؛ تطبيقًا لما تقرر في قواعد الفقه: "الحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً"، و"الضَّرُورِيَّاتُ تَبِيحُ المَحْظُورَاتِ"، و"مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 84-88).
وممَّا يؤكد جواز اشتراط حصول الحجيج على بعض التطعيمات إضافة إلى ما سبق: عنايةُ الشريعة بالوقاية من الضرر المحتمَل، وتتجلَّى هذه العناية في الأمر بالأخذ بأساليب الوقاية بقدر الإمكان؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
والأصل في الوقاية: أنها مرحلة استباقية تحفظية لمنع وصول الداء ابتداءً، فهي خط الدفاع الأول ضد المرض، فإذا وصل الداء إلى الإنسان بات العلاج هو خط الدفاع الثاني؛ ولذلك كانت الوقاية مقدَّمةً على العلاج؛ لأنها آمَنُ منه خطرًا، وأيسرُ تبعةً، وأقلُّ تكلِفةً، فتحفظ بذلك على الإنسان جهده وصحته وماله، وتحفظ على المجتمع ما يمكن أن يتحمله من تبعات المرض، وكلفة علاج.
ومن هنا قال الحكماء: "الوقايةُ خيرٌ مِن العلاج"، وهذا ما عناه الفقهاء بالقاعدة الفقهية المقررة: "الدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ"؛ كما في "الأشباه والنظائر" لتاج الدين السبكي (1/ 127)؛ فالمراد بالدفع: الاحتياطُ للأمر وتَوَقِّيه، والعملُ على تجنُّبِه وتَلَافيه، وأما الرفع: فهو إزالتُه بعد وقوعه، ومحوُه بعد حلوله، فالدفع يكون قبل الثبوت، والرفع يأتي بعد الوجود، فالوقاية خير من العلاج؛ لأن الوقاية دفعٌ والعلاج رفعٌ؛ أي: إنَّ الأخذ بأسباب الوقاية من المرض قبل وقوعه أولى من البحث عن طرق العلاج منه بعد حلوله.
وفي ذلك يقول ابن الرومي:
تَوقِّي الداء خيرٌ من تصدٍّ لأيسره وإن قرب الطبيب
وعلى هذا المعنى جاءت نصوص السنة النبوية مرشدة إلى أهمية الطب الوقائي، سواء كان ذلك عن طريق الغذاء؛ كما في حديث عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ» متفق عليه.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 160-161): [المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاءً للعباد وتمحيصًا.. وفُهِمَ من مجموع الشريعة: الإذنُ في دفعها على الإطلاق؛ رفعًا للمشقة اللاحقة، وحفظًا على الحظوظ التي أذِنَ لهم فيها، بل أذن في التحرز منها عند تَوَقُّعِها وإن لم تَقَعْ.. فمن ذلك: الإذنُ في دفعِ ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التَّوَقِّي من كلِّ مؤذٍ؛ آدميًّا كان أو غيرَه، والتحرُّزِ من المتوقَّعات حتى يُقدِّم العُدَّة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشُه في هذه الدار؛ من درء المفاسد وجلب المصالح.. وكونُ هذا مأذونًا فيه: معلومٌ من الدِّين ضرورة] اهـ.
ومن أهم أساليب الوقاية من الأمراض في العصر الحديث: التطعيمات الطبية، التي تساعد الجسم الإنساني على تكوين مناعة ضد الإصابة بالأمراض.
وإذا كان الشرع الشريف قد أوجب ذلك في الظروف العادية التي يحصل فيها بعض الاختلاط والملامسة؛ فمن باب أولى أن يكون الإيجاب أشدَّ في شدة الاختلاط وكثرة التجمعات؛ بل ويزداد الحذر ويتأكَّد بالنسبة للحج؛ لأنه مظنة اجتماع أكبر واختلاط أشد، وقد تقرر في قواعد الفقه: "المَظِنَّةُ تُنَزَّلُ مَنزِلَةَ المَئِنَّةِ"، و"يُحْتَاطُ لِلْحِفَاظِ عَلَى الأَنفُسِ والمُهَجِ مَا لَا يُحْتَاطُ لِغَيْرِهَا".
قال الإمام السيوطي في "مصباح الزجاجة شرح سنن ابن ماجه" (ص: 85، ط. قديمي كتب خانة): [البناء على الظَّن الغَالِب أصلٌ مُقَرر فِي الشَّرْع] اهـ.
وعليه: فيجوز للسلطات السعودية القائمة بتنظيم الحج والعمرة وخدمة الحرمين الشريفين -بما أقامها الله فيه من رعاية الحجيج ومسؤولية الحفاظ على سلامتهم وأمنهم- أن تتخذ كافة إجراءات السلامة والأمن التي تكفل لها تحقيق ذلك، ولا تخالف الشرع الشريف ولا تتعارض مع قطعياته؛ بل هي متوافقة معه ومنطلقة من مقرراته، ومنها: اشتراط حصول الحجاج على بعض التطعيمات الطبية، وعلى المسلمين الالتزام بهذه الإجراءات والتعليمات؛ حتى يكونوا عونًا لولاة الأمر على تحقيق مهامهم، وتنفيذ مسؤولياتهم.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 259، ط. دار عالم الكتب): [قال سهل بن عبد الله التُّستَري: "أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد"] اهـ.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فما تقوم به الجهات المعنية القائمة على شؤون الحج والعمرة من إصدار قرارات تنظيمية لفريضة الحج، نحو: تحديد أعداد الحجيج وأعمارهم، واشتراط حصولهم على بعض التطعيمات متفقٌ تمامًا مع أحكام ومقاصد الشرع الشريف، بما أقامهم الله تعالى فيه من رعاية الحجيج ومسؤولية الحفاظ على سلامتهم وأمنهم، ومتَّسقٌ مع ما خوَّله الشرع الشريف لِأُولِي الأمر برعاية المحكومين، وبإباحة تقييد إقامة الشعائر الدينية على قدر الحاجة وبما لا يخالف أصول الشريعة؛ كالحج ونحوه، فلهم أن يتخذوا كافة الإجراءات التي تعين على ذلك، وتخوِّل للحجيج أداء هذه العبادة على أكمل وجه من غير الوقوع في الحرج والمشقة جراء الزحام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.