ما حكم المبيت بمنى ليالي أيام التشريق؟ وماذا لو أعلنت الجهات التنظيمية الرسمية شغل كل الأماكن فيها بالحجاج وعدم وجود أماكن مناسبة للمبيت فيها؟
حكم المبيت بمنى ليالي أيام التشريق
المبيت بمنًى مشروعٌ في حال السعة وتوفُّر المكان للمبيت إذا ناسب ذلك حال الحاج وقدرته، فإنْ ترك الحاجُّ المبيت بها لعذرٍ راجعٍ إليه مِن مرضٍ أو مشقةٍ، رُخِّص له بتركه بلا فدية ولا حرج، أما إذا عجز عن المبيت بها لعذر راجع إلى محل التكليف؛ بأن أعلنت الجهات التنظيمية الرسمية -في وقتٍ ما- شغل الحجاج كلَّ أماكن المبيت بمنًى، وعدم وجود مكانٍ بها يمكن لغيرهم المبيت فيه -مع وجوب الالتزام بالقوانين المنظمة التي تحفظ سلامة الحجاج-؛ فإن التكليف بالمبيت يسقط في حقه حينئذٍ ولا يكون مخاطَبًا به؛ إذ التكليف بالشيء مُعلَّقٌ على استطاعة القيام به.
التفاصيل ....المحتويات
- المبيت بمنى شعيرة من شعائر الحج
- سبب تسمية منًى بهذا الاسم
- أراء الفقهاء في حكم المبيت بمنى
- مقدار المبيت بمنى
- ترك المبيت بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق
- ترك المبيت بمنى بسبب المرض أو المشقة وأقوال الفقهاء في ذلك
- نظرية الاستطاعة وتطبيقاتها في الحج في ضوء مقاصد الشرع
- الخلاصة
المبيت بمنى شعيرة من شعائر الحج
مِن شعائر الحج التي تواردت النصوص على مشروعيتها: المبيت بِمِنًى، والذي شُرع مِن أجل التيسير على الحجاج في القيام بنسك الرمي في أيام التشريق الثلاث، وذلك لكون مِنى أقرب الأماكن لمواضع رمي الجمرات، فيسهل على الحاج الرميُ بلا مشقةٍ في الذهاب والعودة؛ فـ"المقصود من البيتوتة غيرها وهو أن يسهل عليه ما يقع في الغد من النسك وهو الرمي"؛ كما قال العلامة أكمل الدين البابرتي في "العناية شرح الهداية" (2/ 501، ط. دار الفكر).
فعَنْ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ؛ كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَيُطِيلُ الْقِيَامَ وَيَتَضَرَّعُ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا» أخرجه الإمامان: أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "سننه".
ومشعر منًى: هو شِعبٌ ممدودٌ من جمرة العقبة غربًا، إلى وادي مُحَسِّرٍ شرقًا، ومن جبل (ثَبِير) شمالًا، إلى جبل (الصابح) جنوبًا، وكلُّ ما شملته هذه الحدود الأربعة، فهو منها، وما خرج عنها، فليس منها، ويرى بعض العلماء: أن كل ما أقبل على منًى من الجبال، فهو منها، وما أدبر، فليس منها، واعتبرها بعض العلماء حيًّا مِن أحياء مكة؛ لقربها منها، بل واتصال عمران مكة بها؛ كما أفاد العلامة ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (5/ 198، ط. دار صادر).
سبب تسمية "منًى" بهذا الاسم
سميت منًى بهذا الاسم لأسباب؛ منها: أن الله تعالى يَمُنُّ فيها على عباده بالمغفرة والرحمة، وقيل: لكثرة "ما يُمنى فيها مِن الدماء؛ أي: يراق ويُصب؛ وهذا هو الصواب الذي جزم به الجمهور من أهل اللغة والتواريخ وغيرهم"؛ كما نص عليه الإمام النووي في "المجموع" (8/ 129، ط. دار الفكر).
أراء الفقهاء في حكم المبيت بمنى
قد أجمع الفقهاء على أنَّ المبيت بمنى منسك مِن مناسك الحج، وشعيرة من شعائره، يخاطب الحاج بالإتيان به.
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 263، ط. أوقاف المغرب): [أجمع الفقهاء على أن المبيت للحاج -غير الذين رخص لهم ليالي منًى- بمنى مِن شعائر الحج ونسكه] اهـ.
وقال أيضًا (17/ 259): [ولا خلاف بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سن في حجته المبيت بمنى ليالي التشريق] اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (9/ 63، ط. دار إحياء التراث العربي): [المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به؛ وهذا متفق عليه] اهـ.
ومع اتفاق الفقهاء على مشروعية المبيت بمنى، إلا أنهم اختلفوا في حكمه؛ هل هو مشروعٌ على جهة الوجوب، فيلزم مَن يتخلف عنه دم، أو على جهة السنية، فلا يلزمه شيء؟
فذهب المالكية في المشهور، والشافعية في الأصح، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، إلى أن المبيت بمنًى واجب، وأن تركه يوجب دمًا.
قال العلامة ابن جزي المالكي في "القوانين الفقهية" (ص: 87، ط. النهضة): [وسننه الواجبة التي ليست بأركان ويجبرها الدم: عشرة.. والمبيت بمنًى ليالي الرمي] اهـ.
وقال العلامة أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (4/ 188، ط. دار الكتب العلمية): [إنْ بَاتَ بمكة ولم يَبِتْ بمنًى: فعليه دم، وكذلك إن ترك المبيت بمنًى ليلةً كاملةً أو جُلَّهَا] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 247): [(أما) الأحكام: ففيها مسائل؛ مختصرها: أنه ينبغي أن يبيت بمنًى ليالي أيام التشريق، وهل المبيت بها واجبٌ أم سُنَّة؟ فيه طريقان: (أصحهما وأشهرهما) وبه قطع المصنف والجمهور: فيه قولان: (أصحهما) واجب.. فإن ترك المبيت: جبره بدم بلا خلاف.. ويؤمر بالمبيت في الليالي الثلاث، إلا أنه إذا نفر النفر الأول: سقط مبيت الليلة الثالثة] اهـ.
وقال شمس الدين ابن قدامة الحنبلي [ت: 682هـ] في "الشرح الكبير" (9/ 236، ط. هجر): [والمبيت بمنًى في لياليها واجب في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول عروة، ومجاهد، وإبراهيم، وعطاء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال مالك، والشافعي] اهـ.
وذهب الحنفية، وبعض فقهاء المالكية، والإمام الشافعي في أحد قوليه، والإمام أحمد في الرواية الثانية، إلى أن ترك المبيت بمنًى لا يوجب الدم استقلالًا؛ لأن المبيت بمنًى إنما شُرع لأجل انتظار نُسُك الرمي، ولذلك عدَّه الحنفية سُنَّةً لا واجبًا.
قال برهان الدين المَرْغِينَانِيُّ الحنفي في "الهداية" (1/ 147، ط. دار إحياء التراث العربي): [ويُكرَه ألَّا يَبِيتَ بمنًى لياليَ الرمي؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بات بمنًى، وعمر رضي الله عنه كان يُؤَدِّبُ على ترك المُقام بها، ولو بات في غيرها متعمدًا لا يلزمه شيء عندنا.. لأنه وجب ليسهل عليه الرمي في أيامه؛ فلم يكن مِن أفعال الحج، فَتَرْكُهُ لا يوجب الجابر] اهـ.
وقال العلامة الشرنبلالي الحنفي في "حاشيته على درر الحكام" (1/ 231، ط. دار إحياء الكتب العربية): [(قوله: وكره ألَّا يبيت بمنى) قال الكمال: ويكون مسيئًا لتركه السنة، وقال في "الكافي": يكره ألَّا يبيت بمنى ليالي الرمي، ولو بات في غيرها عمدًا لا يجب عليه شيء، ثم قال في تعليله: لأن البيتوتة غير مقصودة، بل هي تبعٌ للرمي في هذه الأيام؛ فتركها لا يوجب الإساءة كالبيتوتة بالمزدلفة ليلة النحر اهـ. فليُنظر التوفيقُ ليدفع التعارض] اهـ.
وقال العلامة شيخي زاده الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 282، ط. دار إحياء التراث العربي): [يكره ألَّا يبيت بمنًى ليالي منًى، ولو بات في غيره من غير عذر لا شيء عليه عندنا] اهـ.
وقال القاضي عياض المالكي في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (4/ 396، ط. دار الوفاء للطباعة): [المبيت بمنى أيامها مِن سنن الحج] اهـ. ونقله عنه العلامة أبو عبد الله المواق المالكي في "التاج والإكليل" (4/ 186، ط. دار الكتب العلمية).
وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في "المهذب" (1/ 420، ط. دار الكتب العلمية): [ويبيت بمنًى ليالي الرمي؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَلَ ذلك، وهل يجب ذلك أو يستحب؟ فيه قولان: أحدهما: أنه مستحب؛ لأنه مبيتٌ، فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة] اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي في "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" (1 /285، ط. مكتبة المعارف): [نقل أبو طالبٍ وعبدُ الله فيمن لم يَبِتْ ليالي منى بمنى: لا دم عليه، ويتصدق بشيء، فيخرج في ليلة المزدلفة كذلك؛ لأن البيتوتة ليست نسكًا، وإنما تراد للتأهب لغيرها وهو الرمي والخروج إلى عرفات؛ ألَا ترى أنها تسقط بالفراغ من هذه الأشياء؟ ولأنه ترك الكون بها من غير وقت الرمي، فهو كما لو تركه نهارًا] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (4/ 60، ط. دار إحياء التراث العربي): [(والمبيت بمنًى) الصحيح مِن المذهب: أنَّ المبيت بمنًى في لياليها واجبٌ، وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: سنة] اهـ.
مقدار المبيت بمنى
على عموم القول بمشروعية المبيت، فالأكمل فيه: أن يبيت الحاجُّ الليلَ كله إذا تيسر له ذلك، فإن لم يتيسر: فيجزئه أن يبيت بها معظم الليل؛ كما ذهب إليه الشافعية في الأصح، والحنابلة، فإن لم يتيسر له ذلك أيضًا: فيجزئه أن يبيت بها نصف الليل؛ كما هو مذهب المالكية، ومقتضى مذهب الحنفية، أو دونه بقليل؛ كما هو مذهب المالكية، فإن تعذر ذلك كله: فيجزئه أن يكون حاضرًا بها عند طلوع الفجر؛ كما ذهب إليه الشافعية في مقابل الأصح.
قال أبو المحاسن جمال الدين المَلَطِيُّ الحنفي في "المعتصر من المختصر" (1/ 182-183، ط. عالم الكتب): [لا يلزم ألَّا يبرح الحاج عن منى لياليها، وإنما عليه ألَّا يبيت إلا بها، ولهذا يجوز أن يأتوا مكة بليلٍ فيطوفوا طواف الزيارة، ثم يرجعون إليها للمبيت، ألَا ترى أنَّ مَن حَلَفَ ألَّا يبيت في هذا المنزل الليلة، فأقام فيه قبل نصفها: لا يحنث، ولو أقام أكثر من نصفها، ثم خرج عنه إلى غيره فأقام فيه بَقِيَّتَهَا: يحنث؛ لأنه بات] اهـ.
وقال الشيخ العدوي المالكي في "حاشيته على مختصر خليل" (2/ 337، ط. دار الفكر): [(قوله: وإن ترك جُلَّ ليلةٍ) أي: أو ليلةً، أو الثلاثَ: الواجب دمٌ فقط، ولا يتعدد، (وقوله: فوق العقبة) أي: فوق جمرة العقبة، والصواب: إسقاط "جمرة"، ويقول: فوق العقبة؛ لأن الجمرة من منًى كما أفاده بعض شيوخنا، (قوله: على المشهور) ومقابله: لا هدي عليه إلا أن يبيت الليلة كلها، وقد فهم من قوله: (جُلَّ ليلة) أنه لو بات بمنًى نصف ليلة فما دون: لا يجب عليه الدم؛ وهو ظاهر "المدونة" انتهى] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (8/ 247، ط. دار الفكر): [الأكمل: أن يبيت بها كل الليل، وفي قدر الواجب قولان؛ حكاهما صاحب "التقريب" والشيخ أبو محمد الجويني وإمام الحرمين ومتابعوه، (أصحهما:) معظم الليل، (والثاني:) المعتبر أن يكون حاضرًا بها عند طلوع الفجر الثاني] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (2/ 430، ط. المكتب الإسلامي): [(ويَبيتُ بها) أي: بمنًى، (ويَتَّجه: المراد) مِن البيتوتة بمنًى (مُعظَم الليل) وهو مُتَّجِه] اهـ.
ترك المبيت بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق
إذا أراد الحاج أن يتعجل العودة إلى الوطن، فقد رخَّص الشرعُ الشريف له تركَ المبيت بمنًى في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ أي: ليلة ثالث أيام التشريق، ولا حرج عليه في ذلك ولا فدية بالاتفاق؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 203]، فأفاد أن ترك المبيت المترتب على عذر التعجل لا يحصل به الإثم.
قال فخر الدين الرازي في "مفاتيح الغيب" (5/ 342، ط. دار إحياء التراث العربي): [أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه] اهـ.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (2/ 263، ط. الدار التونسية): [رخَّص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنًى اليومين الأخيرين من الأيام المعدودات، وقوله: ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ تفريعٌ لفظيٌّ للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منًى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه، وجيء بالفاء؛ لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمةً منه تعالى بعباده] اهـ.
ترك المبيت بمنى بسبب المرض أو المشقة وأقوال الفقهاء في ذلك
إذا تعذَّر على الحاجّ المبيت بمنًى بسبب المرض أو المشقة التي يخاف معها الهلاك، أو لضرورةٍ من عملٍ أو خدمة الحجاج ونحو ذلك، أو بسبب الخوف على النفس أو المال، أو خشية فوتِ أمرٍ يطلبه، أو رفقة مريضٍ يخاف هلاكه بترك تعهده؛ فإنه يجوز له حينئذٍ ترك المبيت بها في الليالي كلِّها، بلا حرجٍ عليه في ذلك ولا فدية أيضًا.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لِيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ" أخرجه الشيخان.
وعن عاصِمِ بنِ عَدِيٍّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم "أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَينِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ" أخرجه الإمام مالك في "الموطأ".
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (3/ 579، ط. دار المعرفة): [وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس، أو بغير ذلك مِن الأوصاف المعتبرة في هذا الحكم؟ فقيل: يختص الحكم بالعباس، وهو جمود. وقيل: يدخل معه آلُهُ. وقيل: قومه؛ وهم بنو هاشم. وقيل: كلُّ مَن احتاج إلى السقاية فله ذلك. ثم قيل أيضًا: يختص الحكم بسقاية العباس رضي الله عنه، حتى لو عملت سقاية لغيره؛ لم يرخص لصاحبها في المبيت لأجلها، ومنهم مَن عَمَّمه؛ وهو الصحيح في الموضعين، والعلة في ذلك: إعداد الماء للشاربين. وهل يختص ذلك بالماء، أو يلتحق به ما في معناه مِن الأكل وغيره؟ محل احتمال، وجزم الشافعية بإلحاق مَن له مالٌ يخاف ضياعه، أو أمرٌ يخاف فوته، أو مريضٌ يتعاهده: بأهل السقاية] اهـ.
وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ من الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
قال العلامة شيخي زاده الحنفي في "مجمع الأنهر" (1/ 282، ط. دار إحياء التراث العربي): [يُكره ألَّا يبيت بمنًى ليالي منًى، ولو بات في غيره مِن غير عذر: لا شيء عليه عندنا] اهـ. وتوجيه ذلك: أنه لو ترك المبيت في حال العذر؛ فلا شيء عليه من باب أولى.
وقال الإمام النووي الشافعي في "منسكه" (ص: 399-402، ط. دار الحديث، مع "حاشية العلامة الهيتمي"): [مَن ترك مبيت مزدلفة أو منًى لعذر: فلا شيء عليه، والعذر أقسام.. الثالث: مَن له عذر بسبب آخر؛ كمن.. يخاف على نفسه أو مالٍ معه.. فالصحيح: أنه يجوز لهم ترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب ولا شيء عليهم] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج" (2/ 275-276، ط. دار الكتب العلمية): [يُعذر في ترك المبيت وعدم لزوم الدم: خائفٌ على نفسٍ أو مالٍ، أو فوتِ أمرٍ يطلبه؛ كآبق، أو ضياعِ مريضٍ بترك تعهده؛ لأنه ذو عذرٍ فأشبه الرعاء وأهل السقاية] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 427، ط. مكتبة القاهرة): [أهل الأعذار من غير الرعاء؛ كالمرضى، ومَن له مال يخاف ضياعه ونحوهم: كالرعاء في ترك البيتوتة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رَخَّصَ لهؤلاء تنبيهًا على غيرهم، أو نقول: نَصَّ عليه لمعنًى وُجِدَ في غيرهم، فوَجَبَ إلحاقه بهم] اهـ.
وهذا الخلاف بين الفقهاء في حكم المبيت بمنًى، إنما هو في حال السعة وعدم العذر، أو الاختيار ما بين الرخصة والعزيمة في حال العذر -كما سبق البيان- من كون العذرِ راجعًا إليهم، والترخصِ متعلقًا بحالهم، وعلى ما كان مناسبًا لأحوال الناس في القيام بهذا النسك، أما إذا اختلفت الظروف باختلاف الجهات الأربع المتمثلة في الزمان والمكان والأحوال والأشخاص أو بعض منها؛ فإن هذا ممَّا يلزم له تجدد النظر في الاجتهاد والإفتاء.
فأما اختلاف المكان تبعًا لاختلاف الزمان: فضيق منًى بسبب ما طرأ عليها مِن تجديداتٍ وأمورٍ تنظيميةٍ ومبانٍ خدميةٍ حكوميةٍ رسميةٍ لخدمة الحجاج ورعايتهم وتوفير ما يحتاجون إليه في مجال الصحة والأمن والإعاشة وغيرها، بخلاف الطُّرق التي لَزم التوسُّع فيها لاستيعاب أعداد الحجاج وضمان تنقلهم في يُسرٍ وسهولة.
وأما اختلاف الأحوال: فكثرة أعداد الحجاج ممَّا يسبب زحامًا شديدًا لا يمكن معه مبيتهم كلهم بها في آنٍ واحدٍ.
وأما اختلاف الأشخاص: فعجز بعض الحجاج عن المبيت في حال عدم توفر وسائل المعيشة الطبيعية التي استلزمتها الحياة المدنية الحديثة، ووقوعهم مع ذلك تحت وطأة القوانين المنظِّمة التي لا يجوز لهم مخالفتها، والتي تمنع مِن افتراش الطريق والتعدي على حقه.
نظرية الاستطاعة وتطبيقاتها في الحج في ضوء مقاصد الشرع
عجز المكلَّف عن القيام بهذا النسك عند عدم وجود مكان للمبيت لا يكون متعذرًا بسببٍ راجعٍ إليه، بل بسبب راجع إلى المكلَّف به، وتكون مخاطبته به مخاطبةً بما يخرج عن قدرته واستطاعته، وكل ما ليس للمكلَّف قدرة على فعله، فهذا لا يوصف بالوجوب، بل عدمُ القدرة يَمنع الإيجاب؛ كما في "المستصفى" لحجة الإسلام الغزالي (ص: 57، ط. دار الكتب العلمية).
وكيف يوصف بالوجوب في حقه وقد قال الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه".
والاستطاعة: هي حقيقة القدرة التي مَنَّ اللهُ تعالى بها على عباده حتى يمكِّنهم مِن القيام بما كُلِّفُوا به، بحيث إن لم يتمكنوا من القيام بما كلفوا به لأمر خارج عنهم؛ لم يصح وصفهم بالقدرة عليه، ولم يصح مخاطبتهم به؛ إذ القدرة على الفعل مناط التكليف به، وقد نص العلماء على أن القدرة تنقسم إلى نوعين؛ لكلٍّ منهما متعلَّقه وأثره:
النوع الأول: ما كان قبل الفعل، وهو مناط التكليف به، إذ به يصح التكليف أو ينعدم، والمقصود به: توفر الأسباب والآلات الباعثة التي تمكن المكلَّف من القيام بالتكليف، بحيث إذا ارتفعت تلك الأسباب أو امتنعت الآلات: سقط التكليف عن المكلَّف، ولا يصاحبه في ذلك إثم ولا لائمة. ومن ذلك: ذهاب المحل الذي يقصد بالتكليف؛ كبتر العضو الواجب غسله في الوضوء، أو عدم التمكن منه؛ كانقطاع الطريق إلى مكة وعدم التمكن من دخولها، أو ازدحام منًى وعدم التمكن من الوصول إليها فضلًا عن المبيت فيها.
النوع الثاني: ما كان مصاحبًا للفعل، وهو الذي يرجع إلى حال المكلف؛ مِن تَوَجُّهِ إرادته إلى القيام بما كُلِّف به، وبحيث إذا امتنع من القيام به: استحق على ذلك الإثم إلا مِن عذرٍ يبيح له الترخص بتركه؛ كارتفاع القدرة بالمرض أو المشقة.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي [ت: 321هـ] في "متن الطحاوية" (ص: 74، ط. المكتب الإسلامي): [الاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به: فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات: فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾] اهـ.
وقال الإمام الماتريدي [ت: 333هـ] في "التوحيد" (ص: 256، ط. دار الجامعات المصرية): [الأصل عندنا في المسمى بِاسم القدرة: أنها على قسمين:
أحدهما: سلامة الأسباب وصحة الآلات، وهي تتقدم الأفعال، وحقيقتها ليست بمجعولة للأفعال وإن كانت الأفعال لا تقوم إلا بها..
والثاني: معنًى لا يقدر على تبيُّن حدِّه بشيءٍ يُصار إليه سوى أنه ليس إلا للفعل، لا يجوز وجوده بحال إلا ويقع به الفعل عندما يقع معه، وعند قوم: قبله، أعني: فعل الاختيار الذي بمثله يكون الثواب والعقاب، وبه يَسْهُلُ الفعل وَيَخِفُّ، ولا قوة إلا بالله] اهـ.
قال صدر الدين ابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (2/ 633-635، ط. مؤسسة الرسالة): [الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع: ألفاظٌ متقاربة، وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين؛ كما ذكره الشيخ رحمه الله، وهو قول عامة أهل السنة..
والذي قاله عامة أهل السنة: أن للعبد قدرةً؛ هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله؛ لا يجب أن تكون معه، والقدرة التي بها الفعل: لا بد أن تكون مع الفعل؛ لا يجوز أن يوجد الفعلُ بقدرةٍ معدومةٍ.
وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات: فقد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [آل عمران: 97].. ولا يُلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام مَن امتنع منه الفعل لتضييعه قدرةَ الفعل؛ لاشتغاله بغير ما أُمِرَ به، أو شَغْلِهِ إياها بِضِدِّ ما أُمِرَ به] اهـ. فأفاد أنه إذا عدم الحاج المكان الذي يبيت فيه بمنًى؛ فإنه يكون قد عدم آلة من آلات فعله وسببًا من أسبابه، ولا يُلام على عدم المبيت، ولا يُخاطَب به حينئذٍ أصالةً؛ لأنه في هذه الحالة لا يتمكن مِن القيام به، وهو كَمَنْ لا يجد راحلةً تنقله إلى البيت الحرام؛ فلا يُعَدُّ مُخاطَبًا بالحج حتى تتهيَّأَ له أسبابُه؛ من الراحلة، والزاد، والقدرة على المسير، ولا يكلف بافتراش الشوارع، فهذه مفسدة عظيمة لا يخفى على عاقلٍ ضررُها.
وقال أيضًا (2/ 637): [الصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوعٌ مصحِّحٌ للفعل، يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل] اهـ.
ثم قال (2/ 638): [وأَمْرُ الله مشروطٌ بهذه الطاقة، فلا يكلف اللهُ مَن ليس معه هذه الطاقة، وضد هذه: العجز؛ كما تقدم.
وأيضًا: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخصُّ مِن الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه.
فالشارع يُيَسِّرُ على عباده، ويُريدُ بِهِمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بِهِمُ العُسر، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه؛ فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه وإن كان قد يُسَمَّى مستطيعًا.
فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإن كان الفعل ممكنًا مع المفسدة الراجحة: لم تكن هذه استطاعة شرعية؛ كالذي يقدر على الحج مع ضررٍ يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائمًا مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك.
فإذا كان الشارع قد اعتبر في الْمُكْنَةِ عَدَمَ المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟!] اهـ.
فخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة: أنه لا تكليف على المكلَّف إلا بما يطيق.
ولا يعترض على ذلك بأن الأشاعرة يرون جواز تكليف الله تعالى للعبد مما لا قدرة لِلْمُكَلَّفِ عليه؛ لأنهم يَرَوْنَهُ على جهة الجواز العقلي لا الشرعي؛ أي: أنه يمكن تَصَوُّرُهُ عقلًا وإن لم يُمكِن وُقُوعُهُ في الشرع؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يجب عليه شيءٌ، ولا يقبح منه سبحانه وتعالى شيءٌ؛ إذ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه؛ كما في "شرح المواقف" للقاضي الجرجاني (8/ 200، ط. مطبعة السعادة).
وأما من جهة الجواز الشرعي: فلا خلاف بين أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية في أنَّ شرط التكليف أو سببه: قدرة المكلف على ما كُلِّف به، أمَّا مَا لا قدرة للمكلف عليه فإنه لا يصح التكليف به شرعًا وإن جاز عقلًا، وهذا الأصل متفقٌ عليه عندهم.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 171، ط. دار ابن عفان): [ثبت في الأصول: أن شرط التكليف أو سببه: القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا وإن جاز عقلًا] اهـ.
فأفاد ذلك: أن الخلافَ لفظيٌّ لا حقيقيٌّ؛ لأنَّ الخلافَ الحقيقيَّ هو ما ترتب عليه أثرٌ، وهذا لا أثر له؛ لأن الحاصل عدم وقوع التكليف بما لا يطاق.
وخلاصة ذلك وما ينبني عليه: أنه لَمَّا شرع للمعذور بعارضٍ مِن مرضٍ أو مشقةٍ أو انشغالٍ بسقايةٍ -تَرْكُ المبيت بصريح نصوص القرآن والسنة، مع كون العذر في هذا الحال خاصًّا بالمكلف، مع القطع بإمكان المبيت ولو بحصول بعض المشقة، إلا أن الشرع قد رفع ذلك عنه؛ إذ الأصل في التشريع: رَفْعُ الحرجِ والتيسيرُ، فرخص له ترك المبيت بلا حرج ولا فدية، فكيف إذا كان العذر متعلقًا بالمكلَّف به؛ بحيث يتعذر على المكلَّف الإتيانُ بما كُلِّف به لسببٍ يرجع إلى تحقق أسباب التكليف وشروطه وارتفاع موانعه وعوارضه، فإن القيام بالعبادات مشروطٌ بتحقق شروطها وارتفاع موانعها، والأمر بالمبيت بمنًى يقتضي أن يكون بها مكانٌ يَسَعُ المبيت فيه، فإذا ضاقت منًى؛ بسبب كثرة أعداد الحجيج وما استجد مِن المدنية التي استلزمت شَقَّ الطرق وتوفيرَ أماكن للخدمات مما استوعب مساحةً لا يستهان بها منها، إلى جانب تهيئة الأماكن التي تناسب مبيت الحجاج فيها أيام التشريق ولياليها؛ بحيث يتعذر أن تستوعب جميع الحجاج مع كثرتهم للمبيت بها في آنٍ واحدٍ؛ فإنَّه يتجه القول بأنَّ كلَّ مَن لم يجد له مكانًا للمبيت فقد زال محل التكليف في حقه؛ لتحقق وجود المانع له من الإتيان بالمكلَّف به، فيكون الأصل في حق مَن لم يجد مكانًا مناسبًا للمبيت: هو عدم الخطاب به؛ لزوال استطاعته وقدرته التي هي مناط التكليف في حقه؛ إذ إن مقتضي المبيت هو وجود ما يتحقق به المبيت من المكان الذي يلزمه الإنسان دون أن يعرض نفسه لخطرٍ أو مشقةٍ أو وقوعٍ في الحرج، وقد تقرر في الشرع الشريف أنه: "إِذَا اجْتَمَعَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي، غَلَبَ الْمَانِعُ عَلَى الْمُقْتَضِي"؛ كما قال شهاب الدين ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (1/ 108، ط. المكتبة التجارية الكبرى).
ولا يعترض على ذلك بأنه: لو عُمل به لأبطل شعيرة المبيت بمنًى؛ لأن القول بذلك مشروط باكتفاء منى بالحجيج، وعدم سعة المكان لآخرين، فالشعيرة حاصلة بمبيت ما تستوعبه من الحجيج، وهذا حاصل، ويمكن الوقوف عليه من خلال تنظيم الجهات الرسمية المعنية بشؤون الحج، كما يقترح في هذا الصدد تخصيص أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي لهذا الغرض.
بل إذا لم يكن للمحرم ثمةَ سبيلٌ للإتيان بهذا النسك إلا بالتضييق على العباد وافتراش طريقهم؛ فيؤذيهم، ويضيع حق الطريق، ويضيق على المسلمين، ويوقعهم في الحرج، فإنه إن فعل ذلك يكون آثمًا لا محسنًا؛ لارتكابه ما نهى اللهُ ورسولُهُ عنه، ومخالفته للأمر العام الوارد بشأن حماية الطريق وحفظ حقه؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» متفق عليه.
الخلاصة
بناءً على ذلك: فإن المبيت بمنًى منسكٌ مِن مناسك الحج وشعيرةٌ مِن شعائره، يخاطب الحاج بالإتيان بها، فإذا تركه الحاج لغير عذرٍ، فلا شيء عليه عند الحنفية، وبعض فقهاء المالكية، والإمام الشافعي في أحد قوليه، والإمام أحمد في الرواية الثانية، ويجب عليه دمٌ عند المالكية في المشهور، والشافعية في الأصح، والإمام أحمد في إحدى الروايتين، وهذا كله في حال السعة، وعدم وجود المانع أو العذر المبيح لتركه.
أما إذا تعسر على الحاج المبيتُ بها لعذرٍ مِن مرضٍ أو مشقةٍ أو تعجلِ العودة إلى الوطن، فقد رخَّص الشرعُ الشريف له تركَ المبيت بمنًى بلا حرج ولا فدية.
فإذا ما اختلفت الظروف وتغيرت الأحوال، وكان العجز عن المبيت بها لعذرٍ راجعٍ إلى محل التكليف؛ كازدحام المكان كله، وتعذر الوصول إليه أو عدم وجود مكانٍ يصلح للمبيت فيه، فإنه يسقط عن العاجز حينئذٍ التكليف به؛ إذ لا تكليف على المكلف إلا بما له قدرةٌ عليه.
وفي واقعة السؤال: المبيت بمنًى مشروعٌ في حال السعة وتوفر المكان للمبيت إذا ناسب ذلك حال الحاج وقدرته، فإنْ ترك المبيت بها لعذرٍ راجعٍ إليه مِن مرضٍ أو مشقةٍ، رُخِّص له بتركه بلا فدية ولا حرج، أما إذا عجز عن المبيت بها لعذر راجع إلى محل التكليف؛ بأن أعلنت الجهات التنظيمية الرسمية -في وقتٍ ما- شغل الحجاج كلَّ أماكن المبيت بمنًى، وعدم وجود مكانٍ بها يمكن لغيرهم المبيت فيه -مع وجوب الالتزام بالقوانين المنظمة التي تحفظ سلامة الحجاج-؛ فإن التكليف بالمبيت يسقط في حقه حينئذٍ ولا يكون مخاطَبًا به؛ إذ التكليف بالشيء منوط بالاستطاعة إليه؛ كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.