حكم التقليد والتلفيق بين المذاهب الفقهية الأربعة

حكم التقليد والتلفيق بين المذاهب الفقهية الأربعة

هل يجوز للإنسان التقليد أو التلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة ولو لغير ضرورة قبل العمل أو بعده؛ وذلك كمن توضأ وضوءًا واجبًا أو اغتسل غسلًا واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع حدث مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة؟ فهل يكون وضوؤه أو غسله صحيحًا أو لا؟

التقليد واجب على غير المجتهد المكلف؛ لضرورة العمل، ولا يجب على المقلد التزام مذهب معين؛ فيجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا غير إمامه، ومذهب العامي فتوى مفتيه المعروف بالعلم والعدالة، والتلفيق بمعنى العمل في كل حادثة بمذهب جائز، ويتخرج على جوازه جواز تتبع رخص المذاهب في المسائل المتعددة؛ كالوضوء على مذهب الشافعي، ثم الصلاة به بعد اللمس على مذهب أبي حنيفة، أما التلفيق بمعنى تتبع الرخص في مسألة واحدة فغير جائز؛ فلا يصح الوضوء إذا ترك الترتيب في غسل الأعضاء ومسح أقل من ربع الرأس، وعلى ذلك: فالتلفيق بتتبع الرخص جائزٌ في الصورة التي ذكرها السائل؛ فإنَّ المياه القليل المستعمل مُطَهِّر عند الإمام مالك، فإذا أخذ المقلد بهذا الحكم مقلدًا مذهب الإمام مالك أجزأه، ثم يقلد مذهب الإمام أبي حنيفة في عدم لزوم الدلك والنية في الوضوء والغسل يكون وضوؤه أو غسله صحيحًا؛ لأنه لم يتتبع الرخص في مسألة واحدة بل في مسائل؛ إذ الحكم على طهورية الماء منفصل عن الحكم على صحة الوضوء أو الغسل مع ترك الدلك والنية.

التفاصيل ....

المحتويات

التقليد في التكليفات من رحمة الله بعباده

من رحمة الله تعالى بعباده أن أرسل خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بشريعة هي خاتمة الشرائع عامة وافية كفيلة بما يحتاج إليه البشر في كل زمان، دستورها الأول القرآن الكريم، والثاني السنن الصحيحة، ومنهما يتولد أصلان آخران هما إجماع المجتهدين على الحكم الشرعي، والقياس الصحيح فيما لم يرد فيه نصٌّ، وهو باب فسيح يسدّ حاجة الأمة فيما يجدّ من الحوادث والشؤون على تعاقب الدهور واختلاف الأحوال والعصور، عني علماء الأصول بتحرير قواعده وضوابطه التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام من هذه الأصول والأحكام العملية، وهي التي يُبْحَث عنها في الفقه؛ منها ما لا يحتاج إلى نظر واجتهاد، وهي ما ثبت بالدليل القطعي واستفاض العلم به حتى أصبح معلومًا من الدين بالضرورة؛ كأركان الإسلام الخمسة وتحريم الكبائر، ومنها ما هو محلّ نظر واجتهاد، وهذا النوع متشعّب الأطراف، وهو الذي جرى في حِلِّبته فقهاء الإسلام، واختلفت فيه أنظارهم، واتسع به نطاق الفقه الإسلامي، والذي قام بعبئه هم المجتهدون الذين توافرت لهم وسائل الاجتهاد، أما مَن عداهم من عامة المسلمين الذين لم تتوافر لهم وسائل النظر في الأدلة، والاجتهاد في استنباط الأحكام فهم المقلدون الذين يجب عليهم الأخذ بمذاهب المجتهدين؛ إذ كل مَن جهل حكمًا ولم يكن في استطاعته الاجتهاد وجب عليه أن يسأل عنه العلماء به؛ لقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وإلا لتعذر العمل عليه، وكان تكليفه به مع عدم القدرة على استنباطه تكليفًا بما ليس في الوسع؛ فكان من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهؤلاء الرجوع إلى العلماء ولم يلزمهم النظر والاجتهاد؛ لعدم تمكنهم منهما، وعدم توافر وسائلهما لديهم.

التقليد في الأحكام العملية

التقليد مشروع في الأحكام العملية؛ وهو كما قال الإمام الآمدي: [العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة] اهـ. -انظر: "نفائس الأصول في شرح المحصول" (9/ 3918، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز)-.

وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أنَّ العامي وهو الذي ليس له أهلية الاجتهاد في الأحكام وإن كان محصلًا لبعض العلوم يجب عليه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه للآية السالفة، وهي عامة لكل المخاطبين الذين لم تتوافر لهم وسائل العلم بالأحكام؛ ولأن العامة في زمن الصحابة والتابعين كانوا يستفتون المجتهدين منهم ويتبعونهم فيما بينوه لهم من الأحكام، وكان المجتهدون يبادرون إلى إفتائهم والكشف لهم عمَّا جهلوا، ولم ينكروا عليهم استفتاءهم إياهم فكان ذلك إجماعًا على مشروعية التقليد في الفروع، غير أنَّ العامي في الاستفتاء مُقيَّد باستفتاء مَن عرف بالعلم والعدالة وأهلية النظر فيما يستفتى فيه، فلا يجوز له أن يستفتي مَن لم يعرفه بالعلم والعدالة احتياطًا في أمر الدين.

حكم التزام مذهب مجتهد معين

لا يجب التزام مذهب مجتهد معين:

إذا تقرَّر هذا فهل يجب على العامي التمذهب بمذهب مجتهد معين والتزام جميع عزائمه ورخصه بحيث لا يجوز له الخروج عنه؟

الحق الذي ذهب إليه جمهور العلماء أنَّه لا يجب عليه ذلك؛ بل له أن يعمل في مسألة بقول أبي حنيفة مثلًا وفي أخرى بقول مجتهد آخر؛ للقطع بأنَّ المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة ومن بعدهم كانوا يستفتون مرة واحدًا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيًا واحدًا، وعلى ذلك لو التزم مذهبًا معينًا كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي لا يلزمه تقليده في كل مسألة، وقد اختار ذلك الآمدي، وابن الحاجب، والكمال في "تحريره"، والرافعي وغيره؛ لأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل معين من الأئمة، فيقلده في دينه يأخذ كلّ ما يأتي ويذر دون غيره، وقال ابن أمير حاج في "شرحه على التحرير" (3/ 345، ط. دار الكتب العلمية): [ثم في "أصول ابن مفلح": وذكر بعض أصحابنا -يعني الحنابلة والمالكية والشافعية- هل يلزمه التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان: أشهرهما لا كجمهور العلماء فيتخير، ونقل عن بعض الحنابلة أنه قال: وفي لزوم الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمره وهو خلاف الإجماع، وتوقّف في جوازه، وقال أيضًا: إن خالفه في زيادة علم أو تقوى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع، بل يجب في هذه الحالة، وأنه نص أحمد، وكذا قال القدوري الحنفي ما أظنه أقوى عليه تقليده فيه] اهـ. ثم قال ابن أمير حاج بعد نقل هذا (3/ 351): [وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك -يعني الالتزام-، بل لا يصحّ للعامي مذهب ولو تمذهب به؛ لأن المذهب إنما يكون لمَن له نوع نظر واستدلال وبصر بالمذاهب على حسبه، أو لمَن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى أمامه وأقواله، وأما مَن لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا حنفي أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول؛ كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله، يوضحه أن قائله يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة إمامه وعلمه بطريقه فكيف يصح الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ عن المعنى] اهـ.

ولذلك اشتهر قولهم: العامي لا مذهب له، ففي "البحر" (2/ 90، ط. دار الكتاب الإسلامي) في بيان قضاء الفوائت: [وإن كان عاميًّا ليس له مذهب معيّن فمذهبه فتوى مفتيه، وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة على مذهب مجتهد أجزأه] اهـ. وممَّا تقدم يُعلَم أنه لا يجب تقليد مجتهد معين، وأنَّ التلفيق بمعنى العمل بقول مجتهد في مسألة وبقول آخر في أخرى؛ لضرورة ولغيرها في العبادات والمعاملات -جائز تخفيفًا ورحمة بالأمة.

حكم الرجوع عن التقليد

وليس للعامي إذا قلد مجتهدًا في مسألة واتصل عمله بها الرجوع عنها وتقليد غيره فيها؛ لأنَّ الرجوع عن التقليد بعد العمل باطل اتفاقًا؛ لما فيه من إبطال عين فعله وهو غير جائز؛ لأنَّ إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض. أما قبل العمل كما إذا استفتى مجتهدًا وعرف حكم المسألة منه، ثم استفتى آخر فيها وعرف الحكم منه فله أن يعمل بقول أي واحد منهما، نص على ذلك الآمدي، وابن الهمام في "التحرير" وصاحب "جمع الجوامع" و"مسلم الثبوت" وغيرهم من علماء الأصول.

حكم تتبع رخص المذاهب في المسائل المختلفة

ينبني على جواز التلفيق في التقليد بالمعنى المتقدم أولًا جواز اتباعه رخص المذاهب في المسائل المختلفة، كما ذهب إليه الجمهور فيعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، كما إذا توضأ مراعيًا الشرائط على مذهب الشافعي، ثم في وضوء آخر راعى الشرائط على مذهب أبي حنيفة؛ لأنَّ للمكلّف أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل بأن لم يكن قد عمل بقول مجتهد آخر في ذات المسألة التي يريد التقليد فيها؛ لما علمت من أنه ليس للمقلد الرجوع بعد العمل بقول أحد المجتهدين في حادثة إلى قول مجتهد آخر فيها، قال في "التحرير وشرحه" –"التقرير والتحبير" (3/ 351، ط. دار الكتب العلمية)-: [(ويتخرج منه) أي: من كونه كمَن لم يلتزم (جواز اتباعه رخص المذاهب) أي: أخذه من كل منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل] اهـ. ومثله في "مسلم الثبوت"، أما ما ثبت عن ابن عبد البر من أنه لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعًا، فليس على إطلاقه؛ إذ قد روي عن الإمام أحمد في هذا روايتان، وحمل القاضي أبو يعلى الرواية التي تقول بفسق متتبع رخص المذاهب على غير متأول ولا مقلد، فالقصد التيسير على الناس، فمَن توضأ على مذهب أبي حنيفة له أن يصلّي بهذا الوضوء على مذهب الشافعي، وبالعكس، فالتلفيق على هذا الوجه جائز؛ لعدم اتحاد المسألة التي لفَّق فيها؛ ولأنه لا يلزم المقلد استفتاء مفت معين على ما أسلفنا بيانه؛ ومن هذا يُعلَم أنَّ تتبع رخص المذاهب بأن يأخذ المقلد بقول المذاهب في المسائل المتعددة جائز، أما إذا اتحدت المسألة حقيقة أو حكمًا فلا يجوز، كما حققه الكمال في "التحرير" وصاحب "مسلم الثبوت" في باب الإجماع؛ لأنه لا يترتب على الأخذ برخص المذاهب في المسائل المتعددة وهو التلفيق بالمعنى المتقدم خرق الإجماع في مسألة متفق عليها، وقد اختار ذلك الآمدي والرازي، وعلى ذلك فالتلفيق بتتبع الرخص جائزٌ في الصورة التي ذكرها السائل، فإنَّ المياه القليل المستعمل مُطَهِّر عند مالك، فإذا أخذ المقلد بهذا الحكم مقلدًا مذهب مالك أجزأه، ثم يقلد مذهب أبي حنيفة في عدم لزوم الدلك والنية في الوضوء والغسل يكون وضوؤه أو غسله صحيحًا؛ لأنه لم يتتبع الرخص في مسألة واحدة بل في مسائل، إذ الحكم على طهورية الماء منفصل عن الحكم على صحة الوضوء أو الغسل مع ترك الدلك والنية.

الخلاصة

الخلاصة: أنَّ التقليد واجبٌ على غير المجتهد المكلّف؛ لضرورة العمل، وأنه لا يجب على المقلد التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا غير إمامه، وأن مذهب العامي فتوى مفتيه المعروف بالعلم والعدالة، وأنَّ التلفيق بمعنى العمل في كل حادثة بمذهب جائز، ويتخرج على جوازه جواز تتبع رخص المذاهب في المسائل المتعددة؛ كالوضوء على مذهب الشافعي، ثم الصلاة به بعد اللمس على مذهب أبي حنيفة، أما التلفيق بمعنى تتبع الرخص في مسألة واحدة فغير جائز؛ فلا يصحّ الوضوء إذا ترك الترتيب في غسل الأعضاء ومسح أقل من ربع الرأس على ما سبق تحقيقه، وأن الرجوع عن التقليد بعد العمل في حادثة واحدة باطل، فإذا عقد زواجه وفق شروط مذهب أبي حنيفة بأن تولت الزوجة البالغة العقد بنفسها مثلًا وعاشرها زوجها معاشرة الأزواج، ثم طلقها ثلاث تطليقات فليس له أن يقلد مذهب الشافعي الذي يرى أن النكاح لا ينعقد بعبارة النساء بل لا بد من الوليّ؛ لأنّ هذا تلفيق للتقليد في مسألة واحدة وهو باطل اتفاقًا، ولا بد لهذه الزوجة لكي تحلّ لمطلقها أن تتزوج بغيره زواجًا صحيحًا ويدخل بها حقيقة ويطلقها وتنقضي عدتها. وممَّا تقدَّم عُلِم الحكم في هذه المسائل.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا