ما حكم من بيت النية بالعمرة ولم يتلفظ بها عند الميقات؟ فهناك رجلٌ أكرمه اللهُ بالعمرة، ونَوَى الإحرام قبل الميقات بعدما تجرَّد مِن المخيط ولبس ملابس الإحرام الخاصة، لكنه نَسِيَ التلفُّظَ بالتَّلْبِيَة عند المرور بالميقات، ولم يتذكر إلا بعده، فلَبَّى عند مَوضِع تَذَكُّرِهِ، فهل إحرامه صحيحٌ شرعًا؟
حكم من نوى العمرة قبل الميقات لكنه لم يتلفظ بها عند المرور به
ما دام الرجل المذكور قد نَوَى بقَلْبه الإحرامَ بالنُّسُك قَبْل الميقات بعدما تجرَّد مِن المخيط ولَبِسَ ملابس الإحرام المخصوصة له، فقد انعقد إحرامُهُ شرعًا، ولا يؤثِّر في ذلك سَهْوُهُ عن التلفُّظ بالتلبية عند الميقات المعهود، مع تلفُّظه بها بعد ذلك وهو مُحرِمٌ، ولا فدية عليه في ذلك ولا حرج.
التفاصيل ....المحتويات
- مفهوم الإحرام وبيان حقيقته
- حكم الإحرام قبل الميقات في الحج والعمرة
- بيان حكم الإحرام
- حكم من بيت النية بالعمرة ولم يتلفظ بها عند الميقات
- الخلاصة
مفهوم الإحرام وبيان حقيقته
الإحرامُ لُغَةً: مِن حَرُمَ الشَّيْءُ، أي: امْتَنَعَ فِعْلُهُ، يقال: أَحْرَمَ الشَّخْصُ، إذا أدخل نفسه في شيءٍ حَرُمَ عليه به ما كان حلالًا له؛ كما في "المصباح المنير" للعلامة أبي العباس الفيومي (1/ 131، ط. المكتبة العلمية)، و"تاج العروس" للعلامة المرتضى الزبيدي (31/ 454، ط. دار الهداية).
وحقيقة الإحرام عند الفقهاء هي نيَّةُ الدخول في نُسُك الحجِّ أو العمرةِ؛ كما في "المَسْلَك المُتَقَسِّط في المَنْسَك المتوسِّط" للمُلَّا علي القارِي الحنفي (ص: 31، ط. الترقي الماجدية)، و"حاشية العلامة الدُّسُوقِي المالكي على الشرح الكبير" (2/ 21، ط. دار الفكر)، و"أسنى المطالب" لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي (1/ 467، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"الفروع" للإمام علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي (5/ 544، ط. مؤسسة الرسالة).
حكم الإحرام قبل الميقات في الحج والعمرة
اتفق الفقهاءُ على لُزوم الإحرام في حقِّ كلِّ مَن يريد الدخول في النُّسُك مِن حجٍّ أو عُمرةٍ؛ لأن الإحرام هو النية، ولا تصح العبادة إلا مع وجود النية؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" مِن حديث أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب رضي الله عنه.
كما أجمعوا على صحة الإحرام قبل الميقات؛ قال العلامة ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 51، ط. دار المسلم): [وأجمعوا على أنَّ مَن أحرم قبل الميقات، أنه مُحرم] اهـ.
وقال العلامة ابن القَطَّان في "الإقناع" (1/ 250، ط. الفاروق الحديثة): [ومَن أحرم قبل أن يأتي الميقاتَ فقد أحرم بإجماعٍ مِن أهل العلم] اهـ.
بيان حكم الإحرام
ومع اتفاق الفقهاء على لزوم الإحرام لصحة النُّسُك، إلا أنهم اختَلَفوا في حُكمه:
فذهب جمهور الفقهاء مِن المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أنه ركنٌ مِن أركان الحج والعُمرة؛ كما في "حاشية العلامة الدسوقي المالكي على الشرح الكبير" (2/ 21)، و"مغني المحتاج" للعلامة الخطيب الشِّرْبِينِي الشافعي (2/ 285، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح منتهى الإرادات" لأبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (1/ 596، ط. عالم الكتب).
وذهب الحنفية إلى أنَّ الإحرامَ شرطُ أداءٍ ابتداءً، وله حُكم الركن انتهاءً؛ كما في "مجمع الأنهر" للعلامة شَيْخِي زَادَه (1/ 263، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"الدر المختار" لعلاء الدين الحَصْكَفِي (ص: 156، ط. دار الكتب العلمية).
فأما كونُه (شرط أداءٍ ابتداءً): فلأنه يَصِحُّ تقديمه على أشهر الحج -وإنْ كُرِهَ-، ومثل هذا لا يكون ركنًا؛ إذ لو كان ركنًا لما جاز تقديمُه، لعدم انفصاله عن الماهية، وأما كونُه (له حكم الركن انتهاءً): فلأنَّ فَائِتَ الحجِّ لا يجوزُ لهُ أنْ يَسْتَدِيمَ إحرامَهُ بحيث يَبْقَى مُحْرِمًا إلى أنْ يُتِمَّ حَجَّهُ مرةً أخرى، بل عليه أنْ يتحلَّلَ بعمرةٍ ثم يقضي الحجَّ في عامٍ قابلٍ، ولو كان الإحرامُ شرطًا محضًا لَجَازَ لهُ أنْ يَبْقَى مُحْرِمًا حتى يقضي الحجَّ مِن قابِلٍ؛ كما في "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين (2/ 465-467، ط. دار الفكر).
حكم من بيت النية بالعمرة ولم يتلفظ بها عند الميقات
إذا نَوَى الحاجُّ أو المعتمر الإحرامَ قبل الميقات بعدما تَجَرَّد مِن المخيط ولَبِسَ ملابسَ الإحرام المخصوصة له، لكنه نَسِيَ التلفُّظَ بالتَّلْبِيَة ولَم يتذكرها إلا بعد مجاوزة الميقات، فلَبَّى حينها، فإنَّ إحرامَه صحيحٌ شرعًا على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء مِن الحنفية، والمالكية، والشافعية في المشهور، والحنابلة في الصحيح، وذلك على التفصيل الآتي:
فأما المالكية في الراجح، والشافعية في المشهور، والحنابلة في الصحيح، ورواية عن القاضي أبي يوسف مِن الحنفية: فالإحرام عندهم يَنعقد بمجرد النية، ولا يُشترط لِصِحَّتِهِ التلفُّظُ معها بالتلبية، واستَحَبَّ الشافعيةُ والحنابلةُ التلفظ بالنية -لا بالتلبية- لتوكيد ما في القلب، وأَوْجَب المالكيةُ على الحاج الإتيانَ بالتلبية في أيِّ وقتٍ أثناء حَجِّهِ ما دام مُحرِمًا، سواء عند نية الإحرام أو بعدها، فإن لَم يأت بها حتى انتهى حَجُّهُ وتَحَلَّلَ مِن إحرامه كان عليه دمٌ.
قال المُلَّا علي القَارِي الحنفي في "المَسْلَك المُتَقَسِّط" (ص: 31): [وعن أبي يوسف: أنه يَصِيرُ مُحرِمًا بمجرد النيَّة] اهـ.
وقال زين الدين ابن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 347، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(قوله: فإذا لَبَّيْتَ نَاوِيًا فقد أَحْرَمْتَ).. وروي عن أبي يوسف: أنَّ النيَّة تكفي، قياسًا على الصوم، بجامِعِ أنهما عبادةُ كفٍّ عن المحظورات] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البَرِّ المالكي في "الاستذكار" (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية): [قيل لابن القاسم: أرأيتَ المُحرِم مِن مسجد ذي الحُلَيْفَة إذا تَوَجَّه مِن فناء المسجد بعد أن صلَّى، فتَوَجَّه وهو ناسٍ أن يكون في توجُّهِهِ مُحرِمًا؟ فقال ابن القاسم: أراه مُحرِمًا، فإنْ ذَكَر مِن قريبٍ لَبَّى ولا شيء عليه، وإن تطاول ذلك عليه ولم يَذْكُر حتى خَرَجَ مِن حَجِّه رأيتُ أن يُهرِيق دمًا.
قال إسماعيل: وهذا يدل على أن الإهلال للإحرام ليس عنده بمنزلة التكبير للدخول في الصلاة؛ لأن الرجل لا يكون داخلًا في الصلاة إلا بالتكبير، ويكون داخلًا في الإحرام بالتلبية وبغير التلبية مِن الأعمال التي توجب الإحرام بها على نفسه، مثل أن يقول: قد أحرمتُ بالحج والعُمرة، أو يُشعر الهديَ وهو يريد بإشعاره الإحرامَ، أو يتوجَّه نحو البيت وهو يريد بتوجُّهِهِ الإحرامَ، فيكون بذلك كلِّه وما أشبهه مُحرِمًا.
وكان مالك يرى على مَن تَرَكَ التلبية مِن أول إحرامه إلى آخِرِ حَجِّهِ دمًا يُهْرِيقُهُ] اهـ.
وقال العلامة أبو البَرَكات الدَّرْدِير المالكي في "الشرح الكبير" (2/ 21): [(الإحرام) وهو نيَّة أَحدِ النُّسُكَين مع قولٍ أو فعلٍ متعلِّقَين به كالتلبية، والتجرُّد مِن المخيط كما يأتي، والراجح: النيَّة فقط] اهـ.
قال العلامة الدُّسُوقي (2/ 26) مُحشِّيًا عليه: [(قوله: ثُمَّ إنَّ الراجح.. إلخ) أي: كما هو نَصُّ "المدونة"، وبه صرح في "التلقين"، و"المعلم"، و"القبس"، (قوله: هو النية فقط) أي: بأن ينوي في قَلْبِهِ الدخولَ في حُرُمات الحج، أو العُمرة، أو هُمَا، وأما التلبية والتجرُّد فكُلٌّ منهما واجبٌ على حِدَتِهِ] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (7/ 224-225، ط. دار الفكر): [(وأمَّا) اللفظ بذلك فمُستَحَبٌّ لتوكيد ما في القلب كما سَبَق في نية الصلاة ونية الوضوء، فإن اقتَصَر على اللفظ دون القلب لم يَصِحَّ إحرامُه، وإن اقتَصَرَ على القلب دون لفظِ اللِّسان صَحَّ إحرامُه.. فلو نَوَى ولم يُلَبِّ ففيه أربعةُ أوجهٍ أو أقوالٍ؛ (الصحيح) المشهور مِن نصوص الشافعي وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين والمتأخرين: يَنعقد إحرامُه] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (3/ 125، ط. دار إحياء التراث): [فصلٌ: فمَن أراد الإحرام بعُمرةٍ، فالمستحب أن يقول: اللهم إني أُريد العُمرة فيَسِّرْها لي، وتَقَبَّلْها مِنِّي، ومَحِلِّي حيثُ تَحْبِسُنِي، فإنه يُستحب للإنسان النُّطقُ بما أَحرَم به؛ لِيَزُول الِالْتِبَاسُ، فإن لم يَنطق بشيءٍ واقتَصَر على مجرَّد النيَّة، كفاهُ في قول إِمَامِنَا] اهـ.
وقال علاء الدين المَرْدَاوِي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 431، ط. دار إحياء التراث العربي): [الإحرام: هو نية النُّسُك، وهي كافيةٌ على الصحيحِ مِن المذهب، نصَّ عليه، وعليه الأصحاب] اهـ.
وأما الحنفية -خلافًا لأبي يوسف-، والمالكية في المشهور: فقد اشترطوا لانعقاد الإحرام أن تقترن نيةُ القَلْب بالتلفُّظ بالتلبية أو ما يقوم مقامها مِن تسبيحٍ أو تهليلٍ أو ما أشبه ذلك مِن ذكر الله تعالى وقَصَدَ به الإحرامَ، أو الإتيان بِفعلٍ مِن خصائص الإحرام أو دلائله يَظهر منه الدخول في النُّسُك.
ولا شكَّ أنَّ نَزْعَ المُحرِم المخيطَ وارتداءه ملابسَ الإحرام المخصوصة، مع التوجُّه بقَلْبه وجسده إلى بيت الله الحرام، كلُّ هذا مِن خصائص الإحرام ودلائله التي لا تنصرف إلا له، بحيث لو رآه أحدٌ مِن الناس على هذه الهيئةِ لَمَا شكَّ أنه محرمٌ، إضافةً إلى اقتران ذلك بالنية التي بَيَّتَهَا المحرمُ قبل مروره بالميقات.
قال علاء الدين الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 161، ط. دار الكتب العلمية): [وأما بيان ما يصير به محرمًا، فنقول وبالله التوفيق: لا خلاف في أنه إذا نَوَى، وقَرَنَ النيةَ بقولٍ وفعلٍ هو مِن خصائص الإحرام أو دلائله، أنَّهُ يصير محرمًا] اهـ.
وقال أكمل الدين البَابَرْتِي الحنفي في "العناية" (2/ 514، ط. دار الفكر): [الإحرامُ عِندنَا لا ينعقدُ بمجردِ النِّيَّةِ، بل لا بُدَّ مِن انضمام شيء آخرَ إليها، كتكبيرة الافتتاح في الصلاة، وتقليدُ البَدَنَةِ والتوجُّهُ معها إلى الحجِّ يقوم مقام التلبيةِ، (ولأن سَوْق الهدي في معنى التلبية في إظهار إجابة دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يفعله إلا مَن يريد الحج أو العُمرة)] اهـ.
ومِن ثمَّ فإذا نَوَى المُحرِمُ الإحرامَ قبل المرور بالميقات، مع وجود فعلٍ منه مِن خصوصيات الإحرام التي تدلُّ عليه ولا تَنصرف إلا له، فإنه يصير بذلك مُحرِمًا كما سبق بيانه، ولا يَضُرُّه حينئذٍ تَرْكُ التلبية عند الميقات؛ لأنَّ ميقاتَه أصبح موضِعَ إحرامه، وخرج الميقاتُ المعهودُ مِن أنْ يكون ميقاتًا للإحرام في حَقِّهِ؛ كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخْسِي (4/ 171، ط. دار المعرفة).
وقال ضياء الدين خليل المالكي في "مناسكه" (ص: 39، ط. مكتبة الإمام مالك): [حقيقة الإحرام: وهو الدخول بالنية في أحد النُّسُكَين مع قولٍ متعلِّقٍ به كالتلبية، أو فِعلٍ متعلِّق به كالتوجُّه على الطريق.. والمشهور أنه لا ينعقد الإحرام بمجرد النية] اهـ.
قال العلامة الآبِي في "الثمر الداني" (ص: 363، ط. المكتبة الثقافية) معلقًا عليه: [فليس خصوص التلبية شرطًا في صحة الإحرام كما يقول ابن حبيب، بل المدار على وجودِ أحدِ الأمرين مِن القول أو الفعل] اهـ.
وقال شمس الدين الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (3/ 45، ط. دار الفكر): [يَنْعَقِدُ الإحرام بالنِّيَةِ حالَ كونها مع قولٍ أو فعلٍ يَتَعَلَّقان بالإحرام، والقول المتعلق به كالتلبية، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، قال في "منسك التادلي": وفي كتاب "ابن محرز": قال أشهب: ولو كَبَّرَ أو هلَّلَ أو سَبَّحَ يُريد بذلك الإحرامَ كان مُحرِمًا، والفعل المتعلق به كالتوجُّه على الطريق، والتقليدِ، والإشعارِ، قاله المصنف في "مناسكه"، وهذا هو المشهور في المذهب] اهـ.
فأفاد أنَّ وجود أحدِ الأمرين: مِن القول كالتلبية، أو الفعل كالتوجُّه إلى بيت الله الحرام، والسير في الطريق، ولبس الملابس المخصوصة للإحرام، مع نِيَّة الإحرام، كافٍ لانعقاده.
الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فما دام الرجل المذكور قد نَوَى بقَلْبه الإحرامَ بالنُّسُك قَبْل الميقات بعدما تجرَّد مِن المخيط ولَبِسَ ملابس الإحرام المخصوصة له، فقد انعقد إحرامُهُ شرعًا، ولا يؤثِّر في ذلك سَهْوُهُ عن التلفُّظ بالتلبية عند الميقات المعهود، مع تلفُّظه بها بعد ذلك وهو مُحرِمٌ، ولا فدية عليه في ذلك ولا حرج.
والله سبحانه وتعالى أعلم.