حكم إنتاج واستعمال والتجارة في "النافتا الحيوية"

حكم إنتاج واستعمال والتجارة في "النافتا الحيوية"

سائل يسأل عن الحكم الشرعي في "النافتا الحيوية/ المتجددة"، والتي يتم إنتاجها من مواد خام طبيعية مثل الزيوت النباتية والدهون الحيوانية وزيوت الطبخ المستعملة،  ومن خلال عملية الإنتاج يتم إزالة بلمرة المواد الخام الطبيعية وتتحلل إلى مستوى جزيئي فورًا،  وبعد ذلك يتم إنتاجها كـ "نافتا حيوية"، والتي تستخدم كمادة خام لإنتاج أشياء؛ مثل: البلاستيك الحيوي والمطاط الحيوي والرقائق الحيوية، وهي لا تستخدم في تناول الطعام، وذلك البلاستيك الحيوي صديق للبيئة؛ حيث يعمل على الحدّ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والاستخدام الثانوي للدهون والزيوت المهدرة.

بناء على ما ورد في السؤال وما تم إرساله من مرفقات توضيحية؛ فإنَّ المواد التي تتكون "النافتا الحيوية" منها يتم تفكيكها على المستوى الجزيئي وتحويلها إلى مواد جديدة لها ترتيب جزيئي مختلف، وهي بذلك قد خرجت عن حقائق مكوناتها الأصلية إلى مادة جديدة لها حقيقة مختلفة، وبهذا تُعتَبر هذه المواد وما يصنع منها من منتجات نهائية طاهرة، والأصل من هذه الحيثية أنه يجوز إنتاجها واستعمالها والتجارة فيها.

التفاصيل ....

المحتويات

 

مشروعية تدوير المخلفات والنفايات

تُعتَبَر عملية إعادة تدوير المخلفات من الأمور ذات النفع العام؛ لأنها تُخَلِّص البيئة من الملوثات والنفايات، كما أنها تَحُدّ من استنزاف الموارد الطبيعية والمواد الخام، بإيجاد بديل لها مستخرج من هذه المخلفات، بالإضافة لكونها تساعد على زيادة التنمية الاقتصادية، وتوفير فرص عمل جديدة للأيدي العاملة في هذا المجال.

ولكن هذه العملية لها جانب شرعي يتعلق بمدى مشروعية تدوير المخلفات والنفايات، ونستطيع أن نقول إنَّ ما ورد في السنة النبوية من الدعوة للاستفادة بجلود الميتة بعد دبغها فيه طلب لنوع من أنواع تدوير المخلفات والانتفاع بها؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: «هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟!» قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ! قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا».

وكذلك ورد أنَّ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما كانت تَدُقُّ النَّوَى لِتُحَوِّلَهُ بذلك إلى علف وغذاء للدواب؛ فروى مسلم في "صحيحه" عنها أنها قالت: "تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ"، قَالَتْ: "فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ".

نصوص الفقهاء في طهارة الأعيان النجسة بالاستحالة

اشتمال هذه المخلفات على بعض النجاسات، أو تنجسها باختلاطها بأشياء نجسة، لا يمنع من مشروعية الاستفادة منها، وذلك بعد تدويرها وتحويلها إلى مواد جديدة مختلفة العناصر والتراكيب؛ وذلك بناءً على المختار للفتوى من أقوال العلماء من أن الأعيان النجسة تطهر بالاستحالة.

والاستحالة: هي تَحَوُّل الأعيان وانقلاب الحقائق عن طبيعتها وأوصافها؛ بحيث تصير مواد أخرى لها مكونات أخرى مختلفة الأوصاف.

وقد أجمع العلماء على طهارة الخمر إذا تحولت إلى خَلٍّ بنفسها. انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 236، ط. دار الكتب العلمية).

وذهب جمهور العلماء من فقهاء الحنفية والمالكية وهي رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية إلى القول بطهارة الأعيان بالاستحالة فيما عَدَا ذلك أيضًا؛ وذلك بالنظر لانقلاب العين وتَغَيُّر الحقائق؛ حيث رَتَّب الشرع الشريف وَصْف النجاسة على حقيقةٍ بِعَيْنِها، وقد زالت هذه الحقيقة، فيزول الوَصْف بزوالها، وكذلك قياسًا على مسألة الخمر المُتَخَلِّلَة، ولهذا نَظائر أخرى؛ منها: طهارة دم الغزال بِتحوُّلِه لِمِسْك، وطهارة العَلَقَة عند تحوُّلِها لمُضْغَة.

فالنجاسة حكم شرعيٌّ وليست حقيقة كيميائية، وإنما جاءت النجاسة وحصل الاستقذار من التركيب المخصوص بالنِّسَب المخصوصة؛ وذلك لأنَّ الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، والحقيقة تنتفي بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فبالأولى تنتفي إذا انتفى الكل.

قال الإمام القرافي في "الذخيرة" (1/ 188، ط. دار الغرب الإسلامي): [الله تعالى إنما حكم بالنجاسة في أجسامٍ مخصوصةٍ، بشرط أن تكون موصوفة بأعراض مخصوصة مستقذرة، وإلا فالأجسام كلها متماثلة، واختلافها إنما وقع بالأعراض، فإذا ذهبت تلك الأعراض ذهابًا كليًّا ارتفع الحكم بالنجاسة إجماعًا] اهـ.

وهذه بعض نصوصهم رحمهم الله تعالى:

قال العلامة الزيلعي الحنفي في "تبيين الحقائق" (1/ 76، ط. الأميرية): [والأعيان النجسة تطهر بالاستحالة عندنا، وذلك مثل الميتة إذا وقعت في المملحة فاستَحَالت حتى صارت مِلحًا، والعَذِرَة إذا صارت ترابًا أو أحرقت بالنار وصارت رمادًا؛ فهي نظير الخمر إذا تخللت، أو جلد الميتة إذا دبغت؛ فإنه يحكم بطهارتها للاستحالة] اهـ.

وقال العلامة الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (1/ 97، ط. دار الفكر) عند كلامه على فأرة المسك -وهي الوعاء الذي يكون فيه المسك، ويسمى أيضًا بالنافجة-: [وإنما حكم لها بالطهارة -والله أعلم-؛ لأنَّها استحالت عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفاتٍ واسمٍ يختص بها، فطهرت لذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذّى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم، فيكون طاهرًا] اهـ.

وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (1/ 318، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله -أي: ابن قدامة صاحب المُقْنِع-: (ولا يَطْهُر شيء من النجاسات بالاستحالة، ولا بنار أيضًا، إلا الخمرة)، هذا المذهب بلا ريب، وعليه جماهير الأصحاب، ونصروه. وعنه -أي: الإمام أحمد-: بل تطهر؛ وهي مُخَرَّجَةٌ من الخمرة إذا انقلبت بنفسها، خَرَّجَها المَجْدُ –يعني: ابن تيمية الجد-، واختاره الشيخ تقي الدين -يعني: ابن تيمية-، وصاحب "الفائق" -أي: ابن قاضي الجبل-] اهـ.

وقال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى" (1/ 136، ط. دار الفكر): [إذا أحرقت العَذِرَة أو المَيتَة أو تغيرت فصارت رمادًا أو ترابًا، فكل ذلك طاهر، ويتيمم بذلك التراب، وبرهان ذلك: أن الأحكام إنما هي على ما حكم الله تعالى بها فيه ممَّا يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطَبَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم، وأنّه غير الذي حكم الله تعالى فيه، والعَذِرَة غير التراب وغير الرماد، وكذلك الخمر غير الخل، والإنسان غير الدم الذي منه خلق، والميتة غير التراب] اهـ.

الخطوات الإجرائية لتخليق النافتا الحيوية

أما بخصوص "النافتا الحيوية/ المتجددة" -محل السؤال-، فمبطالعة المرفقات التي توضح الخطوات الإجرائية لتخليق النافتا الحيوية تبيّن لنا أنّ ذلك يمرّ عبر مجموعة من المراحل:

أولها: تفاعل الهدرجة؛ وفيه يتم تحويل الزيوت والشحوم إلى جزيئات هيدروكربونية، والتي يتشكل منها ما يسمى "البيو نافتا".

ثانيها: يتم خلط البيو نافتا مع النافتا المشتقة من تقطير البترول.

ثالثًا: يتم تعريض الخليط لدرجات حرارة عالية مع إضافة وسائط كيميائية لتكسير الجزيئات إلى جزيئات هيدروكربونية أولية صغيرة السلسلة يطلق عليها "مونومر" (Monomer)؛ أي: جزيء أحادي.

رابعًا: تخضع الجزيئات صغيرة السلسلة إلى تفاعل يطلق عليه "البلمرة" (Polymerization)؛ وهو تفاعل يحصل فيه تجميع للجزيئات الأولية لتشكل جزيئات ذات سلسلة طويلة، وهذه الجزيئات هي التي تشكل الـ"بيو بلاستيك" أو الـ"بولي إثيلين تريفثالات"  (Polyethylene terephthalate)‏[وهو مبلمر ملدن حراريًّا، ويستخدم لتصنيع ألياف النسيج الاصطناعية، وزجاجات المشروبات، وحوافظ الأطعمة ذات المظهر البلاستيكي، وله استعمالات أخرى مفيدة]، أو مطاط حيوي، والتي تعتبر هي المنتجات النهائية لهذه المراحل.

حكم إنتاج واستعمال النافتا الحيوية والتجارة فيها

واضح طبقًا لما ذكر أن "النافتا الحيوية" قد خرجت -بالعمليات التي تسببت في تصنيعها- عن حقائق مكوناتها الأصلية إلى مادة جديدة لها حقيقة مختلفة، بحيث لو كان في مكوناتها الأصلية شيء نجس أو متنجس فإن ذلك الأصل لا يكون مؤثرًا في الحكم بنجاسة "النافتا الحيوية"؛ بناءً على المختار للفتوى من أقوال العلماء من أنَّ الأعيان النجسة تطهر بالاستحالة -كما سبق بيانه-.

وعليه فما دام الحال كما ورد في السؤال وما تم إرساله من مرفقات توضيحية بَيَّنّا مضمونها، فإنَّ المواد التي تتكون "النافتا الحيوية" منها يتم تفكيكها على المستوى الجزيئي وتحويلها إلى مواد جديدة لها ترتيب جزيئي مختلف، فبهذا تعتبر هذه المواد وما يصنع منها من منتجات نهائية طاهرة، والأصل من هذه الحيثية أنه يجوز إنتاجها واستعمالها والتجارة فيها.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

اقرأ أيضا